وليد علاء الدىن *
قفز وجه منذر وسط ظلام الغرفة الأخضر، مستديراً يشهق بياضه في سواد لحية كثة وشارب محفوف، حضر الوجه متألقاً مثلما كان دائما أيام الجامعة، حتي أن الظلال لم تتمكن من طي ابتسامته التي تتجلي فيها أسنانٌ بيضاء من فعل السواك، تلك الابتسامة التي حار في دلالتها، كانت تبدو له أحياناً إشارة دافئة كدفء حرارة صاحبها حين يصافحه ويضم كفه ويعانقه في رقة لم تبد له يوماً مفتعلة، ليستكمل حلقة الدفء بندائه الدائم (يا أخي في الله)، بينما يحسها أحياناً كقطع الطعم الذي يجتهد في الحفاظ عليه حياً بينما يرتب بتأن صندوق أدوات صيده ليختار منها بعد ذلك المناسب فيشكه في طرف السنارة ويجلس منتظراً في صبر سمكته حتي تلبي نداء الجوع، أشاح بوجهه عن وجه منذر البشوش، أغمض عينيه، اعتصرهما كأنما يريد لهذا الوجه أن يتسرب من بينهما كما تتسرب مياه دموعه المالحة، فاجأه الوجه في اغماضته أشد حضوراً وقد تخلي عن ابتسامته وراح يلوح في وجهه بقطعة من السواك استطالت حتي كادت أن تصبح عصا، هوت العصا علي كتفيه موبخة تتعجب: زكيف ترضي أن تظل أمك في غضب الله وأن يكون مآلها إلي نار جهنم!س أحس بضربة العصا تحرق صدره: زخذ بيدها إلي نور الهداية، اقرأ عليها من سورة مريم ما يُبكيها لتعرف أن ما تقوله خرج وما أتي به عيسي من مشكاة واحدةس ألحت العصا: ز والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعمس انغرست العصا في روحه تعتصرها وتضيق عليها الخناق: اما ظنك والتي تسعي لهدايتها هي أمك، وما ظنك بالأجر الذي ينتظرك من الله إن نجحتَ في ذلك، يكفيك فخراً وعزاً يوم القيامة أجر الإخلاص وأجر الهداية، وأجر البر، فأي أجر تنتظر؟ وأي عز تطلب؟ب استطال وجه منذر وتدلت لحيته فحجبت كل ضوء، انفصلت العصا عن وجه صاحبها ونبتت لها أجنحة دقيقة حلقت بها في فراغ الظلمة الحالكة، لم يعرف من أين يأتيه الصوت، من ابتسامة منذر المغرقةِ في السماحة أم من رفيف أجنحة العصا وهي تحلق مبتعدة في الظلام: اأحب أن أذكرك أن الهداية ليست بيدك، فقط افعل ما تستطيع، حاول أن تكون سبباً، فأنت في النهاية لست الهادي ولست المنجي، ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاءس بات الصوت خفيضاً مخاتلاً، لم يعرف إن كان صوت منذر أم صوت العصا أو أنينه الشخصي من ضرب موجع لا تحتمله الروح:سإذا كان إبراهيم – وهو من هو – لم يساعده إخلاصه وحرصه علي أبيه في هدايته، كفي به أن يكون لك مثلاً ونبراساً وعبرة في الاستسلام لقضاء الله وقدرهس.
امتلأت مخيلته بمشاهد كثيرا ما حاول طيها، غلفها بكثير من الحرص وألقي بها في الركن القصي من ذاكرته وظن أنها ذابت هناك أو طالها ما يليق بها من عفن، إلا أن وجه منذر حفر ذاكرته بإبرة من نار وصعد بها من هاويتها لتنتشر كالأشواك يشعر بها الآن تسرح في شرايينه، محاولاتهم اللزجة للتقرب منه ومصادقته، إطراؤهم المبالغ فيه لسلوكه وأخلاقه، وحديثهم عن ضرورة استكمال هذه الأخلاق بالصلاة مع الجماعة في مسجد الكلية، حرصهم الشديد علي حضور جلسات الشعر في الكلية حين يكون مشاركاً فيها رغم مقاطعتهم المعلنة لمثل هذه الجلسات، إطراؤهم لنصوصه رغم ما يتضمنه هذا الإطراء من بعض اللوم والعتب لأنه حاد في بعض نصوصه عن الفكر السليم الذي يدعو إلي مكارم الأخلاق، تنبيه الأصدقاء له من الوقوع في أحبولتهم، خجله الإنساني الذي طالما منعه من صد الآخرين وإن لم يرق له أحدهم، تجاوزهم التدريجي للخصوصية وتطرقهم بالتساؤل عن تفاصيل لم يتحدث عنها إلا نادراً وضمن دائرة المقربين، لم يكن مدركاً قبل أن يحدثه منذر بتلك الفجاجة المكشوفة أن أحد هؤلاء المقربين قد باح بالسر، ذلك السر الذي قلب حياته في الجامعة إلي ما يشبه الجحيم، فمنذر وأتباعه يجتهدون في تجنيده ليكون رسولهم إلي أخواله من النصاري يهدي به الله منهم من يشاء ويكون له عظيم الثواب. بعد فترة قصيرة من ظهور منذر ورفاقه في حياته جاءته إنذارات مجهولة من السقوط في شرك يُنسج له، تحولت إلي تحذيرات له من مجرد الظهور بصحبة أحد من هؤلاء، إلي أن ظهر جورج كامل في المشهد تحمل بعض كلماته تهديداً ووعيداً شديد القسوة والوضوح بينما تغريه كلمات أخري بأن الكنيسة سوف تساعده في تحقيق المستقبل الذي يريد، فقط عليه ألا ينصاع إلي هؤلاء وأن ينضم إلي صفوفهم ليكون عوناً لهم علي حركات الأسلمة التي يمارسونها علي الجميع والبنات منهن علي الخصوص، رأي رأسه مرسوماً علي الحائط وسط الظلال، راقبه بينما يستطيل ويستدق، تحول الرأس إلي حبل كان منذر قابضاً أحد طرفيه مركزاً عينيه الثاقبتين علي قبضة كفيه المتوترين، بينما جورج معلق بالطرف الآخر مجتهداً في الشد، تصاعد الألم إلي حد لم يعد يطيقه، فتح فمه ليصرخ، انحشرت صرخته في حلقه فلم يسمعها أحد: اأنت لا تهدي من أحببت لكن الله يهدي من يشاء»، تذكر وسط الألم أن الله لم يكن أبداً محل خلاف بين أبيه وأمه، تجلت لعينيه بين الظلال آية الكرسي المعلقة قرب المسيح المصلوب فوق السرير في غرفتهما، مد يديه مستنجداً بهما معاً إلا أن ألم الجذب حال بين يديه وبين الوصول، اختلط عليه الحال للحظة وأذهله أن تهاجمه الظلال بينما هو مغلق العينين.
بهزة عنيفة ارتج الحبل المعلق بين الكفين انفتحت عيناه، وجد الظلال قد أعادت ترتيب جيوشها بعدما أمنت سطوة الضوء، بدت الأشياء في الغرفة كائنات غير أليفة تتأرجح في امتدادات داكنة، وبدت له تقاطعات الخطوط علي الحائط صلباناً متجاورة، فكّر : لماذا لا يلتقي خطان مستقيمان إلا وصنعا صليباً، أيكون الصلب مصير كل خط مستقيم؟ حدثته أمه عن قصة الصليب المعلق في غرفة نومها، أخبرته أن والده اشتراه لها وعلّقه بنفسه فوق سريرهما بجوار آية الكرسي، والده الذي أحبته وحاربت الدنيا من أجل أن تكون له ويكون لها رغم اختلاف ديانتيهما، بدا له وجه أمه رائقاً وسط الظلال علي الحائط، كان معلقاً علي صليب كبير صنعته الخطوط المتقاطعة التي ذكرته بحواجز طالما حالت بينه وبين ما يريد، هل ضاعت منه أمل لمجرد أن أباه وأمه تحابا فتزوجا وعلقا علي جدار غرفتهما آية الكرسي ملاصقة للصليب، هل يستحق منصور أن يحظي بأمل لمجرد أن أمه لم تكن مسيحية؟ خاطب ظلها علي الحائط: لماذا هو بالذات؟
لم يكن اختيارا يا يوسف، كان أكبر من ذلك
ألم تشعري بأنه مختلف
إذا كان ثمة اختلاف، فالناس هم المختلفون
وكيف ارتضاه أهلك!
كان أبي يحبه فقد تربي في حجره
وهل يكفي ذلك
عرف أنني أحبه فبارك زواجنا
بتلك البساطة!
أخذ كفي بين كفيه الكبيرتين وحدق في عيني، ولما غلبني البكاء ضمني إلي صدره وقال: هو لكِ وأنتِ له. ولم يجرؤ أحد أن يرد هذه الكلمة….
رأي كفي جده الكبيرتين تحتضنان كف أمه التي بدت كحبة قمح كبيرة نابته بين عينين باكيتين تجتهدان لكي تريا من خلال تقاطعات الظلال. روت له أمه كيف أن جدته ظلت شهوراً لا تعرف غير البكاء، وكيف أن جده ظل صامداً علي رأيه في غير جفاء، كان كلما عاتبته الأم ذكرها بالعشرة الطويلة التي جمعت بين الأسرتين، كيف كانت حينما تغضب منه لا تجد لها من ملجأ سوي أم هذا الولد – الذي ترفضه الآن! يذكرها: هذا الولد الذي كان يلوذ بحضنك من غضبة أبيه، أبوه الذي لم يكن يرد قسمك حينما تستحلفينه بالمسيح الحي أن يرحم ابنه من العقاب.
حكت له كيف أن أباها هدر في وجه أمها ذات غضبة وهو يكظم غيظه مذكراً إياها بما حدث حينما استعصت عليهم حالة يعقوب ذابنهما البكري خالك ذ بعد أن فشل الأطباء في الفيوم بل وفي القاهرة عن شفائه، كيف طلبت بنفسها من أم حسين، الذي ترفضه الآن، أن تصحب يعقوب إلي مسجد سيدي أبو المكارم عند صلاة الجمعة، وكيف أخذته المرأة فحممته وألبسته جلباباً نظيفاً، وحملته علي ظهرها ووضعته خارج المسجد، وملأت حجره بالتمر والكشك، وجلست تراقبه عن بعد إلي أن خرج الناس من صلاتهم وتجمعوا حول الولد يلتقطون من حجره التمر والكشك عارفين أنه طالبٌ للشفاء، وكيف أنها ركضت عليه وضمته في حضنها عندما أرعبه تجمع الرجال عليه وراح يصرخ وينادي: زخالتي أم حسين، خالتي أم حسينس ليكون اسمها أول ما يجري علي لسان الصبي، وكيف أن الخالة ركضت إليه فخبأته بين ملابسها وعادت به وقد نطق بعد طول صمت أعيانا وأعيا الطب والحكماء، أليست هذه أم حسين التي ظللتِ بعد ذلك ترددين ز شي لله يا أم حسينس كلما أهلت عليكِ!
تجلت له أمه وسط ظلال الحائط بجلبابها الفضفاض، بدت تائهة وسط حشود المصلين يتدفقون خارج المسجد بعد صلاة الجمعة، كانت بوابة المسجد ضيقة وعميقة كأنما هي فجوة في جبل زاد من ضيقها انسحاب خيوط النهار الأخيرة مخلية المجال لعتمة راحت تصطاد بتقاطعاتها التي تشبه شباك الصياد بقايا الضوء في الغرفة.
تكثّف انعكاس جسد العود المعلق علي الحائط، فتجلت أنثي الظل الممددة علي سرير يوسف، كَوَّرَ جسدَه متحاشياً الظل الممتد الذي أعاده إلي مرارة ذكري حاول كثيراً أن يقمعها بداخله إلا أنها كانت كذرة الجمر المتوهجة راقدة فوق روحه، لا هي أحرقتها فطهرتها، ولا هي انطفأت فأراحته، أعادته انثي الظل إلي (استر) التي سرقت روحه، استحضرها فحضرت بكل ما في روحه من تعب راح يفرغه بقسوة في كيانها المتخيَّل، بينما الظلال علي الجدران تُعلن انتصارها وتطارد فلول الضوء لتسقطها في سلال العتمة.