كائنات معدنية


*بسباس عبدالرزاق

( ثقافات )

في تمام ساعة الألم بالضبط؛ استيقظت خاليا تماما من الأحلام، أودعتها قبل الفجر لوسادتي التي تتحملني و هرائي كل ليلة ، أداوم على هذه العادة منذ مدة طويلة. 
تقترب مريم مثل ملاك بابتسامتها البريئة و العفوية، و تنسخ قبلة من خدي، و كأنها تنتشل روحي؛ فأنسل بدوري نحو معصمها لأكون سوارا يحرسها، تهمس برقة و دلال: أبي؛ لا تنس أن تحضر لي لوحة؛ فعصّوم يمتلك واحدة.. 
غرفت من براءتها حفنة أمل، و حملت نفسي المتآكلة قاصدا مصنع الألمنيوم؛ أعدها ليوم متعب من العمل. حيث تم تهميشي بصمت قاتل، صوتي ضائع وسط ضجيج الماكينات، أزيز المحركات يشتت بحة أحلامي، و الأفران تحرق أيامي القادمة. الزمن بالنسبة لي؛ هو جدول من الأتعاب، و قائمة من المسؤوليات المتنامية. 
أحمل حقيبة ذكريات أرهقت كاهلي.. صورا راكدة.. أحلاما من زمن الطفولة، و بعض الطموح الهش.. انهارت كلها يوم تسلمت شهادة؛ كنت أحسبها مفتاح النجاح، و لكنني اصطدمت بجدار؛ اتكأت عليه زمنا ليس بقصير، أقارع البطالة و أنواع الذل.. يوما بعد يوم و كأن الزمن يتناسل بداخلي مثل جراثيم متعفنة؛ أراني أقترب ببطء من حافة الانهيار، مثل ناطحة سحاب أرهقها الوقوف، كحبة تفاح أنهكتها الجاذبية، فتخلصت الأشجار من حمولتها، إنه موسم الخريف؛ يرفض الانسحاب، يتناسل بداخلي؛ مثل فطريات متعفنة تنتظر احتضاري. 
يقتات الحديد من إنسانيتي، يزحف نحو عنقي، يشدد من حصاره، إنه عصر الحديد و المعادن، لا مكان للتراب، الطين فقد جرأة الرقص للمطر، تبا للاحتباس الحراري… المخلوقات المعدنية أصبحت تفوقنا، بعضها مصمم للحروب، و بعضها مصمم للتجسس على همس القلوب الخائفة، حتى المواعيد ترتبها الكهرباء المخزنة، و تختفي ملامح البشر خلف سماعات تسرق لحظات الاحتكاك.. 
-اليوم هو موعد تسلم الأجور.. قالها زميل عملي؛ و الحسرة تقضم ملامح وجهه، يرغم عينيه على الفرح، يعتصر ابتسامة سرعان ما تتحول لألم يقتات اللحظة.
-القابض على أجره مثل القابض على الجمر.. أردف قائلا بحزن و صوته يفتت حلقه. 
-و أنت، هل نجحت في مسابقة التعليم؟.. و كأنه أراد اقتسام الألم، يدفعني نحو الصراخ، نحو البكاء.. 
-يبدو أنني سأدفن بين ركام من حديد..
-سيكون شاهدك قطعة من خردوات، و ربما عجلة سيارات مستوردة.. على الأغلب سيكون بيتك الأخير بعرض شبر. 
أخذت نفسي، و أنا أجهز جسدي المنهك لإتمام بعض الأعمال، لأصنع قالبا معدنيا لأعمدة الألمنيوم، وضعت قطعة الحديد في آلة التآكل الكهربائي، غريبة هذه الكهرباء، تنهش الحديد ببطء حتى تضع بداخله بصمة مصممة مسبقا، و بذلك تسمح للألمنيوم الذي يكون مثل عجينة للنفاذ من خلال مخرج على أشكال كثيرة، بعضها ستكون واجهة، تعرض فيه أجساد بلاستيكية، كم هي جميلة الإناث البلاستيكية، مسالمة و سهل جدا التحدث إليهن. 
لا أعلم من كان يتآكل منا، هل الحديد أم داخلي المحطم؟.. أتجاوز المكان نحو الماضي على سلم الوقت، هل كان أنشتاين محقا عندما اكتشف نظرية النسبية؟، و هل هو صحيح أن السفر في الزمن ممكن، لو أني أذهب نحو زمن التقاء والدي بوالدتي، كنت سأزيح فكره نحو امرأة أخرى، و حتما سأغري أمي برجل آخر، فقط حتى لا أوجد هكذا و هنا تحديدا… و ماذا لو سافرت نحو المستقبل، نحو مصيري… سأذهب لأستطلع ياسين كيف سينال جائزة نوبل في الفيزياء، و هو يهيل مسؤوليه بنظرات عتاب و لوم، استهزاء.. سأحلم.. و أدعي أنني ركبت صهوة الزمن، سأعاقب من تسبب في مشاكلي، سأتصورني رئيسا، و أعاقب الفاسدين.. ماذا لو تعطلت آلة الزمن، و توقف بي الرحيل في قبيلة من النساء، و أكون أميرا لمدينة نقية.. مدهش هو السفر في مكانك؛ دون حاجة لتأشيرة لدخول عوالم الخيال… 
أيقظني من رحلتي صديقي و هو يصيح علي: 
-لقد أتى المحاسب.. 
نعم هو موعد قبض الأجور، أمسكت أجري و الذي بدى ناقصا، تناولت كشف الأجر، لأندهش أنه تم محاسبتي على أساس 30 يوما عوض 31.
سألت المحاسب عن السبب: 
-أليست الأجرة لشهر أكتوبر؟..
أجاب بثقة و فمه مملوء بالقذارة:
-إنه قانون جديد.. 
أصبت بصدمة، و كدت أخرج من حالة الهدوء.. لولا صراخ و صياح.. سارعنا بالركض نحوه و هو يحوم مثل نسر، رأسه يتدلى نحو الأسفل، يقفز أحيانا و أحيانا أخرى يضرب برجله الأرض.. أرانا يده التي كانت محترقة جراء إمساكه قالب حديد ساخن.. كان قد أوتي به لتصحيح بعض العيوب به؛ و هو ما يزال ساخنا.. 
-500 درجة و لم تنتبه له.. قالها أحد الحاضرين، و همس آخر في أذني:
-كان في حديث حميمي مع إحدى الفتيات، و ما أن أقفل النقال حتى أمسك القالب.
أجبته: أيهم ساخن؛ حديث حبيبته، أم القالب… فأردف: أعتقد أنها أجرته هي الأعلى غليانا من بين الجميع.
_________
* قاص و شاعر من سطيف/العلمة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *