لماذا تموت الكاتبات كمداً (4).. نبوية موسى.. المفترى عليها


شعبان يوسف*


إذا كانت ملك حفني ناصف قد رحلت وهي في مرحلة العطاء، ‬وكان رحيلها مرتبطا بمأساة خديعتها في الزواج، ‬ورحلت مي زيادة بعد أن أعطت للحياة الفكرية والأدبية والثقافية والإنسانية الكثير من إبداعها المتعدد، ‬وقد عانت كثيرا من مختلف السلوكيات التي حولتها إلى مجرد امرأة صالونات ومعشوقة لرجال ظلوا على المستوى العملي غير معترفين بدورها في المساهمة الكثيفة في إثراء الحياة الثقافية والفكرية إلا على سبيل المجاملة، ‬وهناك أمثلة كثيرة تدلّ‮ ‬على الاستبعاد المتعسف للنساء في ذلك الزمن، ‬وبالتأكيد في الأزمنة اللاحقة فيما بعد‮.‬
وسوف أستلّ‮ ‬من حزمة احتجاجات مي زيادة الكثيفة، ‬احتجاجا واحدا، ‬وهو‮ ‬يكفي للتناقضات التي كانت تحيط برجال ذلك الزمان، ‬ومن أتوا بعدهم كذلك، ‬فعندما رحل القاضي والمترجم أحمد فتحي باشا زغلول شقيق سعد باشا زغلول‮ ‬ عام‮ ‬1914، ‬تشكلّت لجنة موقرة لتنظيم تأبين موسع له في دار الأوبرا المصرية، ‬وتجاهلت اللجنة دعوة أي سيدة لحضور ذلك الحفل التأبيني الموسع، ‬هنا انتفضت مي زيادة واحتجت، ‬ولكنها صمتت سنوات حتى تقدر على مواجهة أستاذها أحمد لطفي السيد‮ ‬أستاذ الجيل، ‬كما لقبه أقرانه وفي أواخر عام‮ ‬1919‮ ‬استطاعت أن تعلن احتجاجها في الصحف، ‬وكتبت رسالة إلى لطفي السيد عاتبة عليه وعلى اللجنة التي نظّمت ذلك التأبين، ‬ولم تستدع سيدة واحدة على سبيل التمثيل النسائي، ‬رغم أنهم‮ ‬الرجال الأفاضل لا‮ ‬يفوّتون فرصة تسنح لهم، ‬حتى‮ ‬يتحدثوا عن حرية النساء وحقوقهن ومساواتهن بالرجل، ‬وكشفت‮ ‬مي عن ذلك التناقض في خطاب لطفي السيد، ‬الذي ألقاه في حفل التأبين، ‬حيث إنه تحدث عن فضل والدة فتحي باشا التي هذّبته وعلمته وشكلّته على الصورة الفكرية والنفسية التي استوى عليها الراحل الكبير، ‬واستفاض في شرح وتفسير دور الأم المرأة الفاضلة في تكوين الرجال، ‬ولكنه في الوقت نفسه، ‬تملكته الروح الذكورية السلطوية لاستبعاد المرأة من حضور ذلك التأبين، ‬للدرجة التي دعت ميّا لتقول‮: (‬غريب أن تبخلوا على المرأة بحضور اجتماع‮ ‬يرفع نفسها إلى أسمي درجات التأثر المفيد، ‬ويلفت عقلها إلى هيبة العلم وعظمة الفضل، ‬ويعلّمها إجلال الوطن ورجال الوطن، ‬مع أنكم تسمحون لها بالذهاب إلى هذه الأوبرا نفسها لحضور الروايات التمثيلية، ‬روايات قد‮ ‬يكون لبعضها أثر طيب في الذهن، ‬ولكنه بعيد عليه أن‮ ‬يلمس من نفسها الموضع الذي كان ذلك الاجتماع قد‮ ‬يلمسه‮).‬
المدهش أن ردّ‮ ‬أحمد لطفي السيد‮ ‬الذي نشر رسالة مي في جريدته كان مدهشا وعجيبا، ‬رغم أنه وافق على احتجاج مي، ‬واعترافه بأن هذا الاستبعاد كان خطأ ارتكبته اللجنة، ‬ولكنه عقّب قائلا‮: (‬لست أعرف للجنة التي أنا أحد أعضائها عذرا في نفي النساء عن ألواجهن العادية في الأوبرا ذلك اليوم إلا لعادة درجنا عليها، ‬لو سئلت رأيي في اللجنة عن دعوة السيدات إلى هذا الاحتفال لترددت كثيرا، ‬وربما كان جوابي الرفض، ‬ولست قادرا على أن أقدّم لهذا الرفض أسبابا‮ ‬يقبلها العقل‮…)‬، ‬وراح لطفي السيد‮ ‬يتحدث عن العادة والتقاليد، ‬وأن المأتم العمومي شأن رجالي وهكذا وهكذا‮.‬
فإذا كانت خلافات ملك حفني ناصف وميّ‮ ‬زيادة مع رجال الفكر والثقافة والعلم كانت هكذا، ‬والتي أودت بأشكال من الحياة موجعة ومؤلمة، ‬وكذلك نهايات درامية لهن، ‬فما بالنا بالصراعات التي واجهت السيدة نبوية موسى في ذلك الزمان، ‬وهي التي حملت قضية التعليم عموما، ‬وتعليم البنات خصوصا على عاتقها منذ ارتباطها بحركته في المجتمع المصري منذ بدايات القرن العشرين‮.‬
ونبوية موسى لم تكن ابنة كاتب وشاعر وناثر معروف مثل والد ملك، ‬وهو حفني بك ناصف، ‬الذي كان قريبا من رجال السلطة الثقافية والسياسية، ‬ولم تكن كذلك مي زيادة، ‬السيدة الجميلة، ‬والشامية، ‬والتي كانت تعقد صالونا أدبيا شهيرا، ‬وكان‮ ‬يتردد عليه حشد من القامات الفكرية والثقافية، ‬أما نبوية موسى التي ولدت عام‮ ‬1886، ‬وهو العام نفسه الذي أنجب‮ “‬ملك‮” ‬و”مي‮”‬، ‬لم تحظ بمثلما حظيت بها قرينتاها، ‬فكان أبوها ضابطا بالجيش المصري، ‬وعاشت نبوية في بيت الأسرة بالعاصمة، ‬وكان لديها شغف بالقراءة والاطلاع، ‬وعندها نهم خاص بقراءة الشعر والقصص، ‬وكانت هذه الثقافة المبكرة دافعة لها لاستكمال تعليمها، ‬رغم معارضة الأسرة، ‬والأب العسكري الصارم‮.‬
والتحقت بالمدرسة السنية للبنات، ‬وحصلت على الشهادة الابتدائية عام‮ ‬1906، ‬وتم تعيينها بموجبها مدّرسة بمدرسة عباس الابتدائية للبنات بمرتب خمسة جنيهات لمدة عامين كاختبار لها، ‬وكان هذا الأمر هو أوّل اصطدام لها مع الإدارة التعليمية، ‬حيث اكتشفت أن زملاءها الرجال‮ ‬يتقاضون أكثر منها بسبعة جنيهات، ‬وعندما احتجت، ‬قالوا لها بأنهم حاصلون على شهادة البكالوريا‮ ‬الثانوية العامة، ‬وكانت شهادة البكالوريا متساوية تماماً مع الشهادة السنية التي كانت تحملها نبوية، ‬ولكن هناك فروقات بين الشهادتين في الثقافة العامة، ‬فأصرّت نبوية على الحصول على تلك الشهادة، ‬رغم عدم توفر مدارس ثانوية للبنات آنذاك، ‬ولكنها بذلت جهودا ذاتية حتى حصلت على البكالوريا عام‮ ‬1907، ‬وأثار حصولها على تلك الشهادة ضجة كبيرة في كافة المحافل التعليمية والثقافية، ‬ونشرت أخبار ذلك الحدث في الصحف والمجلات آنذاك، ‬ومنذ ذلك الحدث، ‬أصبحت نبوية موسى مركزا للاستبعاد والتعسف والاضطهاد‮.‬
ولأن نبوية موسى ذكرت ذلك في كتابها المهم‮ “‬تاريخي بقلمي‮”‬، ‬وهو الكتاب الذي أعاد نشره‮ ‬مشكورا ملتقى‮ “‬المرأة والذاكرة‮”‬، ‬بالتعاون مع مكتبة الأسرة، ‬وجاءت المذكرات بمقدمة تحريرية لرانيا عبدالرحمن وهالة كمال، ‬وسردت موسى مختلف أنواع التعسف التي لاقتها من حروب صغيرة وكبيرة وأخلاقية وإدارية على مدى عمرها العملي، منذ بدايتها في الحياة العامة، حتى رحيلها عام‮ ‬1951‮. ‬
وكذلك أنجز الدكتور محمد أبو الإسعاد كتابا عنها تحت عنوان‮ “‬نبوية موسى ودورها في الحياة المصرية‮”‬، ‬وكذلك تعرّض أبو الإسعاد لمختلف أشكال التعسف التي واجهت نبوية موسى في حياتها العملية، والتي قاربت على نصف قرن من الزمان، ‬ولكننا سنلاحظ أن ذلك التعسف قد امتد لكتاب‮ “‬أبو الإسعاد‮” ‬نفسه رحمه الله، ‬فراح‮ ‬يوجه لها اتهامات عديدة وموجعة وجارحة، وكلها تأويلات وتفسيرات ليست دقيقة، فجاء الكتاب ظالما إلى حد كبير، وكأن الظلم الذي عانته نبوية موسى في حياتها، ‬أصبح ظلما خالدا، ولم‮ ‬ينته حتى بعد رحيلها‮.‬
حتى الكاتبة الدكتورة نوال السعداوي‮ ‬في مذكراتها راحت تصفها أوصافا موجعة ومهينة تصل إلى حد الإهانة، ‬إذ تقول د. نوال في الجزء الأول من مذكراتها‮ “‬أوراق حياتي‮” ‬ص‮ ‬116‮: (‬دخلت مدرسة نبوية موسى الثانوية في العباسية، ‬كانت أقرب المدارس لبيت طنط هانم في شارع الضاهر، ‬أركب الترام من أمام البيت وأهبط من الترام أمام باب المدرسة، ‬قضيت عاما دراسيا كاملا‮ “‬1943‮” ‬لم أعرف في مدينة القاهرة إلا الطريق الذي‮ ‬يسلكه الترام من باب طنط هانم إلى باب نبوية موسى‮… ‬كانت التلميذات‮ ‬يطلقن على الناظرة نبوية موسى‮ “‬بعبع أفندي‮” ‬في طابور الصباح، ‬أراها تمشي بخطوة تشبه مس هيمر، ‬ترتدي تايير أسود، ‬جوربا طويلا أسود، ‬تيربون أسود، ‬عيناها سوداوان مملوءتان سوادا‮.. ‬كانت تفرض علينا نحن التلميذات ارتداء هذا السواد من قمة رؤوسنا حتى أخمص القدمين‮… ‬مطّت خالتي هانم شفتيها‮: ‬نبوية موسى لازم عانس زي طنط فهيمة وعاوزة كل البنات‮ ‬يبقوا عوانس زيّها‮…).‬
هكذا تتحدث د. نوال السعداوي واصفة نبوية موسى، ‬وتسترسل بعد ذلك، ‬مما لا مجال هنا لاقتباسه، ‬ولكن الصورة التهكمية التي وضعتها ورسمتها الدكتورة نوال، ‬ليست إيجابية على الإطلاق، ‬بل كأنها تصف‮ ‬غرابا‮ ‬ينعق في جنبات المدرسة، ‬فيثير الرعب، ‬ورغم أن هذا الرأي من المفترض ألا‮ ‬يصدر بهذا الشكل‮ ‬الشكلي من كاتبة نسوية، ‬إلا أنه لا‮ ‬يقلل على الإطلاق من دور نبوية موسى فيما أنجزته بالفعل على المستوى التعليمي‮.‬
أما الدكتور محمد أبو الإسعاد، ‬فجاء كتابه‮ ‬ينطوي على كثير من التناقضات، ‬فهو‮ ‬يذكر بأن نبوية موسى فصلت في بداية حياتها من إحدى المدارس التي كانت تعمل فيها، ‬وذلك تبعا لعدة دسائس قد وصلت إلى الإدارة التعليمية، ‬وكانت كل الدسائس تقول بأنها ليست معلّمة فقط، ‬بل إنها تعمل بالسياسة والعمل الوطني، ‬والذي صدّق على ذلك الفصل، ‬المستشار الإنجليزي دوجلاس دنلوب، ‬في أعقاب أن اتهمتها الناظرة الإنجليزية لمدرسة المعلمات السنية، ‬لأنها تقرض الأشعار الوطنية، ‬وتكتبها في مذكراتها، ‬ورغم ذلك فنجد الدكتور‮ “‬أبو الإسعاد‮” ‬يتهمها بأنها كانت ممالئة للإنجليز، ‬ويسعى إلى تغليظ الاتهامات، ‬فيقول بأنها كانت طائفية، ‬وتتحدث عن قلة الفتيات المسلمات في المدارس، ‬أمام الفتيات المسيحيات، ‬ثم‮ ‬يتهمها بأنها كانت ضد حزب الوفد، ‬وتعاونت مع القصر الملكي لحياكة مؤامرات ضده عام‮ ‬1937، ‬وكانت تكتب الشعر من أجل تحقيق مصالحها‮.‬
ولا أريد الإطالة في قائمة الاتهامات التي وضعها الدكتور أبو الإسعاد، ‬لأن كل النصوص التي أتى بها، ‬كانت مبتسرة من سياقها، ‬ثم جاءت التأويلات لتلك الاقتباسات المجتزأة مجازفة من الناحية العلمية، ‬وتنطوي على تحامل مريب، ‬هذا بالإضافة إلى أن أبا الإسعاد لم‮ ‬يتعرض لديوان نبوية موسى، ‬إلا لما‮ ‬يحقق رغبته وغرضه التحاملي، ‬فهناك في الديوان قصائد تنضح بالوطنية الصارمة، ‬والحماس العالي والواضح جداً، ‬كذلك تناسى أبو الإسعاد المسرحية المهمة التي كتبتها نبوية موسى عام‮ ‬1932‮ ‬تحت عنوان‮ “‬نوب حتب أو الفضيلة المضطهدة‮”‬، ‬وتنتصر فيها للوطنية المصرية بامتياز، ‬وتستدعي مصر القديمة بكل تجسداتها الفكرية والأخلاقية، ‬وجدير بالذكر أن نوب حتب، ‬كانت تنطق بلسان نبوية موسى نفسها، ‬وتردد الأفكار ذاتها التي كانت تنشرها نبوية منذ عشرين عاما قبل تاريخ نشر المسرحية‮.‬
والأدهى من ذلك فالدكتور أبو الإسعاد‮ ‬يتحدث عن العداء السافر الذي كان بين نبوية موسى وحزب الوفد، ‬وأنها كانت تشارك في مؤامرات ضده، ‬وهو لا‮ ‬يعلم أن السيدة نبوية موسى كانت تشرف على القسم النسائي في جريدة حزب الوفد، ‬وهي صحيفة‮ “‬البلاغ‮ ‬الأسبوعي‮”‬، ‬والتي كان‮ ‬يرأس تحريرها الكاتب الصحفي الوطني الكبير عبد القادر حمزة، ‬وذلك منذ صدور عددها الأول في‮ ‬26‮ ‬نوفمبر عام‮ ‬1926، ‬والذي‮ ‬يقرأ سلسلة المقالات المهمة التي كتبتها موسى على مدى زمني قصير، ‬لن‮ ‬يصدّق أبا الإسعاد فقط في اتهاماته، ‬بل إنه سيغيّر نظرته تجاه تلك الرائدة الكبيرة، ‬والتي وقعت تحت عجلات الهجوم والكراهية والمغالطات الكثيرة‮.‬
فما حدث لنبوية موسى من انتماء لحزب الوفد، ‬ثم خصومة معه، ‬حدث مع كثيرين، ‬فهذا الكاتب الجبّار عباس محمود العقاد، ‬والذي كان أحد المناصرين الكبار لسعد زغلول الزعيم الأول لحزب الوفد، ‬ثم كان مدافعا بقوة عن خلفه مصطفى النحاس باشا، ‬ودخل العقاد السجن وهو‮ ‬يدافع عن أفكاره وأفكار سعد زغلول الخالدة، ‬ثم اختلف مع النحاس الباشا، ‬وراح‮ ‬يهاجمه ويهاجم حزب الوفد بضراوة، ‬ويدافع عن أحزاب الأقلية، ‬ولكن الاتهام الذي‮ ‬يقول بأنه متآمر مع القصر لم نسمعه على الإطلاق، ‬وما حدث مع العقاد، ‬حدث مع طه حسين، ‬ولكن بالعكس، ‬فكان طه حسين ضد حزب الوفد على طول الخط، ‬وكان مع حزب الأحرار الدستوريين منذ نشأته، ‬وكان‮ ‬يهاجم النحاس باشا هجوما ضاريا، ‬ثم انتمي بعد ذلك لحزب الوفد، ‬وراح‮ ‬يكتب في صحف الوفد، ‬ولكننا لم نقرأ عنه مثلما أشيع عن نبوية موسي، ‬وذلك‮ ‬يعود إلى حالة الاستقواء بالسلطة التاريخية القائمة، ‬تلك السلطة الذكورية، ‬والمدعومة بذلك الوهم السياسي، ‬والذي‮ ‬يطبقه السادة الأكاديميون بكل سلاسة على السيدات، ‬دون الرجال، ‬وإذا كانت الاتهامات التي طالت نبوية موسى حول علاقتها بالإنجليز‮ ‬كما‮ ‬يقول أبو الإسعاد، ‬فلماذا لا‮ ‬يقال ذلك في أحمد لطفي السيد الذي كال مديحا صريحا في اللورد كرومر، ‬وكذلك شاعر النيل حافظ إبراهيم، ‬وغيرهما من كتّاب وشعراء، ‬ولم‮ ‬يكتب بشكل مفصل في تلك الأمور التي تخص ذلك الجانب، ‬سوى الكاتب الوطني فتحي رضوان، ‬في كتابه‮ “‬عصر ورجال‮”‬، ‬وربما جاءت كتابة فتحي رضوان تبعا لخلفيته السياسية، ‬حيث إنه‮ ‬ينتمي للحزب الوطني، ‬حزب مصطفى كامل، ‬وهو الحزب النقيض لحزب الأمة، ‬حزب أحمد لطفي السيد‮.‬
وربما‮ ‬يكون توقفنا عند كتاب الدكتور محمد أبو الإسعاد، ‬جاء لأنه المرجع الأساسي المتاح للتعرّف على السيدة نبوية موسي، ‬وقد اعتمد أبو الإسعاد في كتابه هذا على مساحات من سيرتها، ‬ولكنه أغفل مساحات أخري، ‬وراح‮ ‬يعمل على تأويل أحداث معينة، ‬منطلقا من ملفّ‮ ‬خدمتها في مجال التعليم، ‬تاركا بشكل فعلي، ‬ديوان شعرها، ‬ومسرحيتها، ‬وكذلك مقالاتها المهمة في جريدة‮ “‬البلاغ‮ ‬الأسبوعي‮”‬، ‬وربما‮ ‬يكون ذلك انطلاقا من حالات الاستبعاد التي عانت منها نبوية في حياتها، ‬وذلك لآرائها الصادمة، ‬وكذلك صراعاتها الكثيرة‮.‬
والذي‮ ‬يستعيد مقالاتها في جريدة‮ “‬البلاغ‮ ‬الأسبوعي‮”‬، ‬سيدرك عمق الأفكار التي كانت تكتبها نبوية، ‬وتدافع عنها، ‬وتنشرها في المجتمع، ‬وهناك كتابه التربوي المهم الذي أصدرته عن دار المعارف عام‮ ‬1911، ‬تحت عنوان‮ “‬كتاب المطالعة العربية لمدارس البنات‮” ‬تأليف‮ “‬السيدة نبوية موسى وكيلة مدرسة المعلمات ببولاق‮” ‬، ‬وأمامي طبعة الكتاب الرابعة، ‬والمنشورة عام‮ ‬1917، ‬وفيه تتناول نبوية الأهمية العظمي لتعليم البنات، ‬ونوعية ذلك التعليم، ‬وجدير بالذكر أن الموضوعات التي كتبتها السيدة نبوية في هذا الكتاب، ‬تمثّل نثرا عاليا وراقيا جداً، ‬ويناظر كتّاب ذلك العصر الذي كان‮ ‬يحتفي بالأفكار واللغة على حد سواء‮.‬
في العدد الأول من صحيفة البلاغ، ‬قدّمت موسى بحثا مهما في تاريخ المرأة، ‬واتباع الأمم لها في الرقي والانحطاط، ‬وشددّت بقوة على الجزء الثاني من عنوان المقال، ‬ووضعت السلطة الذكورية التي كانت سائدة في عصور معينة، ‬في إطار السلطة السياسية للرجل نفسه، ‬والذي كان‮ ‬يحصر المرأة في مجرد محيط خدمته الجسدية، ‬فـ”كان اهتمام الرجل بزي المرأة من ضمن الأسباب التي جعلتها تبالغ‮ ‬في تحسين شكلها وتنافس‮ ‬غيرها حتى انصرفت عن الأعمال النافعة وأصبح نصف الجنس البشري عاطلا لا عمل له ولا فائدة من جهوده، ‬وبذلك انحطت بانحطاطه الأمم، ‬والقوم ساهون عن ذلك الانحطاط الذي جلبوه على أنفسهم لقتلهم مواهب النساء تحت أقدام جبروتهم‮”.‬
هذا الكلام، ‬راحت نبوية موسى تؤكد عليه في مقالاتها المجهولة، ‬والتي أغفلها كافة متابعي مسيرتها، ‬ومسيرة الحركة النسائية في مصر والعالم العربي، ‬وربما‮ ‬يسعفنا الوقت، ‬لكي نقدّم دراسة مستقلة عن تلك المقالات التي لعبت دورا مهما في الحركة النسائية المصرية، ‬وربما تكون كتابات نبوية موسى، ‬قد تكررت في كتابات أخرى دون ذكرها، ‬وبهذا تختفي سيرة نبوية موسى بطرق مختلفة‮.‬
* أخبار الأدب.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *