رشاد كامل*
ما أكثر المعارك التي خاضها رجال السياسة وزعماء الأحزاب في مصر بسبب السياسة، لكن أغرب وأعجب معركة اشتبك فيها الزعيم «مصطفى كامل» مؤسس الحزب الوطني وصحفه مع الشيخ «علي يوسف» صاحب جريدة المؤيد ومؤسس حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية كانت بسبب «الرقص الشرقي»!
كانت الناس تتابع معركة الرقص الشرقي بشغف وغرابة غير عادية، فطرفاها ما كانا من زعماء الأمة في الحركة السياسية، مصطفى كامل عبر مقالاته في صحيفة «اللواء»- التي تصدر بالعربية وصحف أخرى تصدر بلغات أجنبية وصاحب شعار «لا مفاوضة إلا بعد الجلاء»، و«لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً»، وبلادي بلادي لك حبي فؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة ولا حياة إلا بك يا مصر».. أما الشيخ «علي يوسف»، فهو أشهر صحفي مصري والقريب جداً من حاكم مصر «الخديو عباس حلمي الثاني» بل إنه لسان حاله، ثم هو مؤسس حزب الإصلاح على المبادئ الدستورية.
• المحكمة المختلطة تتحول إلى صالة!
وكلا الرجلين هاجم الإنجليز بضراوة وطالبا بإنهاء الاحتلال بأسرع ما يمكن، بل إن الشيخ «علي يوسف».. وقبل أن يصدر «مصطفى كامل» جريدته اللواء كان يستكتبه في صحيفته المؤيد طوال سنوات!!
كانت الدنيا قد تغيرت وغابت أسماء كثيرة لامعة عن سماء السياسة والحياة الحزبية، ومضت سنوات طويلة حتى كشفت مجلة «روزاليوسف» تفاصيل هذه المعركة في شتاء عام 1934 تحت عنوان «بسبب الرقص الشرقي» خناقة بين «مصطفى باشا كامل» والشيخ «علي يوسف» ثم عنوان غريب هو «والمحكمة المختلطة تتحول إلى صالة!!».
كتبت «روزاليوسف» تقول في تحقيقها المثير: «كان المغفور له «مصطفى باشا كامل» منشئ الحزب الوطني يصدر ثلاث صحف يومية فكانت «اللواء» صحيفته العربية و«الأتندار إجبسيان» صحيفته الفرنسية و«الإجيبيشيان ستاندرد» صحيفته الإنجليزية! وكان يتولي رئاسة تحرير الجريدة الأخيرة كاتب إنجليزي معروف يدعي المستر «رودي» وقيل أن هذا الكاتب كان يتقاضي مائة جنيه كل شهر!!
وحدث ان ذهب مستر «رودي» هذا إلى قهوة اسمها «النوفرة» ترقص فيها الراقصات المصريات وتلقى فيها المونولوجات وتغني فيها مطربة نصف معروفة!!
وفي اليوم التالي لتلك الزيارة صدرت «الإجيبشيان ستاندرد» – جريدة مصطفى كامل- وفي صدرها مقالة لمستر «رودي» حوت وصفاً للقهوة وإعجابه بالرقص البلدي المصري، وتمني في ختامها أن يشجع المصريون رقص بلادهم البديع!!
وقامت قيامة المغفور له الشيخ «علي يوسف» خصم «مصطفى كامل» اللدود، فنشرت جريدته «المؤيد» ترجمة مقالة المستر «رودي» وعلق الشيخ «علي يوسف» على الترجمة بمقالة افتتاحية من نار تحدث فيها كثيراً عن سنسفيل جدود محرري جرائد الحزب الوطني الخباصين!!
ثم اتهم مصطفى باشا بأنه يدعو في صحفه للفسق والفجور! ويريد أن يلوث أخلاق الكنانة- اللي هي مصر- بالدعاية للرقص الذي هو رجس من عمل الشيطان!!
ورد «مصطفى باشا كامل» على الشيخ «علي يوسف» وتحدث هو الآخر عن الرقص الشرقي ودافع عنه!!.. واستمرت المناقشة أياماً، وما لبثت أن انضمت باقي الصحف ومنها «المقطم» التي تنشر الآن إعلانات عن الصالات وتكتب الافتتاحيات عن عودة «ماردي منصور»- من شهيرات الراقصات- إلى ميدان الجهاد- انضمت الصحف إلى الشيخ «علي يوسف» ضد المرحوم «مصطفى باشا كامل»!!
وانتهزت الصحف هذه الفرصة وراحت تنبه «الحكمدارية» إلى قهاوي الرقص وتقول إنها مواخير وإن الرقص البلدي مهيج للشعور والوجدان!!.. ونشط البوليس إلى مصادرة الصالات الموجودة وقفلها بالضبة والمفتاح!!.. ولم يسكت أصحاب الصالات وكانوا من الأجانب، فأسرعوا إلى المحكمة المختلطة يطلبون تعويضاً عن الأضرار التي نالتهم بعد غلق محالهم بدون وجه حق!!.. وتمضي «روزاليوسف» في وصف ما جري بعد ذلك فتكتب قائلة: وعقدت المحكمة جلسة خاصة للنظر في تلك القضية، وقام مندوب الحكومة وطلب رفض الدعوي لأن الرقص البلدي مخل بالآداب!!
وقال محامي أصحاب القهاوي إنه للحكم في هذه القضية يجب مشاهدة الرقص البلدي، وبناء عليه فقد أحضروا إلى المحكمة راقصات القهوة!!.. ودخلت الراقصات ومعهن الطبال والزمار وحامل الرق إلى قاعة الجلسة وكان الجميع بملابس الشغل!!
وبدأت الراقصات الرقص، والجمهور يصفق ع الواحدة، وترك رئيس الجلسة المنصة ونزل إلى قاعة الجلسة ليري الرقص بنفسه عن قرب!!.. وبعد أن انتهي الدور تداول القضاة ثم طلبوا من الراقصات أن يرقصن دوراً ثانياً!!
وبعد انتهاء الرقص وقف رئيس الجلسة وحكم للمدعين بالتعويض المطلوب وألزم الحكومة بالمصاريف، وجاء في الحكم أن الرقص المصري فن من الفنون الجميلة، ويجب تشجيعه لا منعه!! وليس فيه شيء مخالف للآداب مطلقاً!!
وتنهي «روزاليوسف» تحقيقها بالقول: وزغردت الراقصات فرحاً بهذا الحكم الذي فتح بيوتهن من جديد.
••
ولعل أول ما لفت انتباهي «في معركة الرقص» بين «مصطفى كامل» و«علي يوسف» أن هذه المعركة لم تلفت انتباه أيٍّ ممن كتبوا عن مسيرة الرجلين سواء مصطفى كامل أو علي يوسف!!
ولعل الأغرب أن «مصطفى كامل» الذي دافع عن الرقص الشرقي هو نفسه الذي هاجم كتاب «تحرير المرأة» لقاسم أمين!! أما «علي يوسف» الذي هاجم الرقص الشرقي فهو نفسه الذي نشر مقالات قاسم أمين عن تحرير المرأة في جريدته «المؤيد»!!
• فن الرقص
وبمناسبة الكلام عن «الرقص الشرقي» أعود بكم إلى سطور من مقال ممتع للأستاذ «توفيق الحكيم» عنوانه مع «فن الرقص» في كتابه «فن الأدب» يقارن فيه بين مناظر الرقص الذي شاهده في مسرح «الفولي برجير» بباريس وبين الرقص الشرقي فقال: «الرقص الذي نراه في بلادنا مقصوراً على هز الثدي والأرداف!!
المحيط الاجتماعي فيما اعتقد هو الذي طبع الرقص الشرقي بهذا الطابع الذي نعرفه، فقد كان هذا الفن- مما تزاوله الجواري- لا ليعرض أمام الجماهير في مكان رحب، ولكن ليعرض أمام «مولي» أو «سيد» في لحظات أنس ومتعة في خدر من الخدور!! أو مجلس من مجالس الشراب والسرور!
هذا المكان الضيق وهذه الظروف الخاصة حددت شكل ذلك الذي نسميه اليوم بالرقص الشرقي!! فكان مجاله – كما نري- جسم الجارية، والحركة فيه لا تتعدي حركة أعضائها، فالراقصة بلحمها وحدها هي كل مدار الرقص وكل مسرحه! ومعاني فنها لا تتجاوز إبراز محاسن أعضائها.. في الرقص الشرقي يدور الحوار دائماً بين عضو وعضو في جسم راقصة».
وأظن أن مسألة الرقص الشرقي لاتزال تثير المعارك حتى الآن!!
* صباح الخير.