المسرحي مصطفى رمضاني:نحن ضمير الأمة


*حوار: مصطفى بدوي

(ثقافات)
وأنا أحاور قامة فنية وأكاديمية نوعية –من طينة الدكتور المبدع الدرامي مصطفى رمضاني- أجدني ملزما بالاعتراف بضآلة الشاعر فيّ ( أنا المحاور “بكسر الواو “) أمام تعددية المسرحي فيه (هو المحاور”بفتح الواو”) ٬لاسيما وأنه يزاوج بين الممارسة والتنظير ويجر وراءه عربة عمر فني بأكمله.
في هذا الحوار آثرت أن نهاجر صوب انشغالات الركح وما يوازيها من أسئلة ظلت تتناسل في مخيال المسرحي العربي لننثرها في المدى المفتوح على الجرح الثقافي العام.
من هنا٬ كان خيارنا موجها بعناية نحو رجل عانق هموم المسرح العربي اخراجا وتأليفا وتنظيرا منذ ما يربو على الأربعين رحيقا أو حريقا..!!
فمن ضلوع تجربة شقت طريقها بأحذية سميكة وأحصنة جموحة، سننصت بكثير من الحب إلى واحد من كبار المسكونين عربيا بشغف الفرجة الدرامية في مختلف مستوياتها..

ـ س: كيف ألفيت نفسك مطوقا بشغف المسرح ممارسة وتنظيرا. أو بعبارة أوضح: ماذا عن البدايات؟
ـ ج : لا بد من الاعتراف بأنني لا أعرف السر الخفي وراء انجذابي نحو عوالم الفن الدرامي منذ أن كنت في حوالي سنتي العاشرة . ولا أدري أي سحر شدني إلى المسرح وأنا طفل غرير خلال الستينيات من القرن الماضي . كل ما أعرفه أني انخرطت في دار الشباب الوحيدة التي كانت ترمم فضاء الفن والثقافة في مدينة بركان التي تربيت فيها ، وهي آنئذ جزيرة معزولة كليا عن عوالم الفن والثقافة. لم يكن في المدينة غير قاعة وحيدة للسينما . ولم يكن أمامنا نحن أبناء الأحياء الهامشية غير فن الحلقة الذي كان ملاذنا الفني الرائع والأوحد في مدينة وسمت بأنها مدينة فلاحية بامتياز . لكن لحسن حظي أني خلافا لأبناء حينا الشعبي ، تابعت دراستي الابتدائية في مدرسة قريبة من مسكن أختي الكبرى بحي وسط المدينة . وقرب هذا المسكن كانت توجد دار الشباب التي انضممت إلى أحد أنديتها، بعدما دفعني الفضول إلى معرفة ما يجري بداخلها . وهناك اكتشفت المسرح لأول مرة، وعشقته لأول نظرة،على غرار ما يحدث لكثير من العشاق الذين تقتلهم سهام الحب لأول نظرة.
ففي ذلك الفضاء الضيق، اكتشفت هذا الفن العجيب وتعلقت به بالمشاهدة أولا، ثم بالممارسة بعد ذلك: تمثيلا وكتابة وإخراجا وإدارة. ففي أواسط السبعينات تأسست جمعية أطلق عليها اسم “ فرقة الطليعة ” . وكانت تضم خيرة شباب مثقفي المدينة ومناضليها . وانضممت للفرقة أول الأمر باعتباري ممثلا وقدمنا عملا مسرحيا بعنوان ” المجاديب ” ، وترك صدى طيبا داخل المدينة ، نظرا لجرأته في معالجة قضايا راهن الواقع المغربي آنذاك . وفي السنة الموالية ، توليت إدارة الفرقة وانصرفت إلى الإخراج فأخرجت نص ” سالف لونجة ” للمبدع عبد الكريم برشيد الذي لم أكن أعرفه إلا بالاسم، ولم تكن تربطني به علاقة مباشرة ؛ بل لم أكن أعرف حتى أنه ينحدر من مدينة بركان التي هي مدينتنا الأم معا .
ومن عجيب الصدف أنه في نفس اليوم الذي كنا سنعرض فيه عملنا المسرحي ، حطت فرقة” جيل جيلالة ” الغنائية بالمدينة لتقدم أمسية غنائية في قاعة أخرى . وكانت الفرقة في أوج تألقها، وأخبرني رئيسها أنه يعرف عبد الكريم برشيد وسيحدثه عن العرض، ثم طلب مني أن نؤجل العرض ليتسنى لهم تقديم السهرة الغنائية ، لكني اعتذرت احتراما للجمهور الذي كان اقتني تذاكر الدخول منذ أكثر من أسبوعين ، وبيعت كل التذاكر. وفعلا كانت القاعة مملوءة عن آخرها، بل امتلأت حتى الممرات الجانبية . وكان العمل رائعا جدا، مما جعلنا نتشجع للاستمرار في التجريب والبحث. ولم يشاهد سهرة جيل جيلالة غير جمهور قليل لم يتعد الثلاثين نفرا . وبعد ذلك قدمت أعمالا مسرحية أخرى في مجالي التأليف والإخراج .
لكن لابد من التذكير بأن هناك عاملين آخرين لعبا دورا أساسيا في انجذابي نحو المسرح. يتجلى العامل الأول في تعلقي بفن الحلق. فمع غياب وسائل التثقيف الأخرى ، ظل فن الحلقة الوسيلة المثلى لأبناء الأحياء الشعبية كي يستمتعوا بالفرجات المتنوعة والعجيبة التي كان يقدمها أولئك الفنانون الشعبيون كل مساء أثنين ، وصباح الثلاثاء الذي هو يوم السوق الأسبوعي في المدينة . وكنت أحد الرواد المواظبين على فن الحلقة . وقد كنت أبني كل العوالم الخيالية التي يتحدث عنها الحلائقي في مخيلتي ، وأقدم لها إخراجات خيالية هي بمثابة تدريب ضمني ، أو تهيئ متدرج لهذا الفنان الذي يسكنني، وظل يتكون شيئا فشيئا داخل مؤسسة الحلقة الشعبية .
أما العامل الثاني ، فهو السينما . لقد كنت منذ الصبا أحد المدمنين للفن السابع . كنت أشاهد كل يوم فيلما جديدا ، وأحيانا فيلمين داخل قاعة السينما ، خصوصا وأننا لم نكن نتوفر على التلفزيون ، لأن حينا لم يكن مزودا بالكهرباء ولا بالماء المشروب طبعا . فقد ربتني السينما على حب فن التمثيل . وتعرفت إلى كبار المخرجين والممثلين العالميين عبر الشاشة الكبيرة . وكنت أحلم بأن أكون مثلهم في يوم من الأيام ، شأني شأن كثيرا من أقراني الفقراء الحالمين .
تلك كانت البدايات. هي بداية فردية ككل البدايات ، ولكن تجربتي بدأت تنضج أكثر بعد أن التحقت بالجامعة في أواسط السبعينات ، وبدأت أدرس المسرح دراسة أكاديمية . وفعلا قدمت جملة من العروض المسرحية من تأليفي وإخراجي مستفيدا من ثقافتي الأكاديمية من جهة ، ومن تجربتي في العمل الجمعي ومشاركاتي في المهرجانات المسرحية التي لعبت دورا جوهريا في إغناء مداركنا الفنية وتهذيب أذواقنا وصقل تجاربنا من جهة ثانية .
ـ س : قد تجعلك هذه التجربة الطويلة زمنيا داخل معترك النقد المسرحي مؤهلا بما فيه الكفاية لتفكيك واقع المسرح المغربي بعد سنوات من ” رحلة العطش ” والعنفوان والتجريب .؟
ـ ج : لست أدري هل أنا فعلا مؤهل لتفكيك واقع المسرح المغربي بكل متغيراته الفكرية والفنية ، ولكن أستطيع الاعتراف بأني أخلصت في الاقتراب منه عن كثب لفهمه أحسن ، حتى أتمكن من الحديث عنه بنوع من الحصانة والاحتراز. لقد كنت دوما أؤمن بأن فن المسرح ـ كالسينما ـ يقتضي أن يكون المتحدث عنه ممارسا وليس مجرد دارس عن بعد . فهناك أمور جمالية وتقنية وإدارية ، ـ فضلا عن الأمور الأدبية والفنية طبعا ـ ، لا يعرفها و يحس بها إلا الممارس . لهذا فمهما أوتي الناقد أو الدارس من ذكاء وقدرة على التحليل ، تظل مقاربته ناقصة ما لم يعرف أسرار المهنة . لهذا ربما كنت محظوظا مرة أخرى ، لأني زاوجت بين الموهبة والتجربة الميدانية والدراسة الأكاديمية ، لمعرفة أسرار الظاهرة المسرحية والاقتراب من العرض المسرحي ، واستجلاء ما خفي منه .
أكيد أن تجربتي في الإبداع المسرحي : تشخيصا وتأليفا وإخراجا ، فضلا عن الإدارة المسرحية ، ومؤهلاتي الأكاديمية تسعفني في العملية النقدية . لهذا فأنا حين أكتب عن تجربة أو ظاهرة مسرحية ، استحضر تلك الخبرات القبلية لتكون لي سندا في الاقتراب من فهم الظاهرة واستيعابها أكثر، وتقديم وجهة نظر قد تكون مفيدة للقارئ ، أو للمتلقي بشكل عام .
ولا أخفيك أن النقد الشفوي الذي تربينا عليه أثناء مناقشة العروض المسرحية في المهرجانات الوطنية ، قد لعبت دورا أساسيا في تطوير أدواتنا النقدية . وأكيد أن الثقافة الأكاديمية تسعف أكثر في هذا المجال ، لأن الموهبة لا تكفي ، كما لا تكفي الخبرة الميدانية وحدها . فالموهبة والخبرة منطلق لفهم الظاهرة المسرحية . أما العامل الأكاديمي، فيعمق ذلك الفهم ويحصنه بالمعرفة العالمة التي تقربنا من منبع الحقيقة أكثر .
ـ س : بالعودة إلى كتابك المتميز” مسرح عبد الكريم برشيد : التصور والإنجاز نقف أمام أطروحة قد تثير جدلا في الأوساط المسرحية بحيث تعتبر البيانات الاحتفالية التي طلعت من المغرب في فترة معينة ، من أهم التنظيرات المسرحية في العالم العربي كله . فما هي تجليات هذه التنظيرات ، وما هو أثرها على ريبرتوار التنظير الدرامي العربي .؟
ـ ج : من المعروف أن التنظيرات المسرحية العربية ظهرت مع أواخر الستينات. وقد دشنها الدكتور يوسف إدريس بدعوته إلى مسرح السامر ، قبل أن يتلوه توفيق الحكيم بالدعوة إلى قالب مسرحي يستثمر بعض الأشكال التعبيرية المتداولة في تراثنا الشعبي كالمداح والحاكي والمقلداتي ، ثم كتب سعد الله ونوس مقدمة يدعو فيها إلى مسرح شبيه بسهرة المنوعات ، ولكنه ركز على الوظيفة التسييسية للمسرح . وقدم علي الراعي كتابا سماه ” الكوميديا المرتجلة ” ، ضمنه تصوره المبني على استثمار الكوميديا الشعبية وأساليب الإبداع الكوميدي في تراثنا الفني . وفي أواسط السبعينات قدم عبد الكريم برشيد بيانه الذي سماه ” بيان المسرح الاحتفالي ” . وفي سنة 1979 ظهرت جماعة المسرح الاحتفالي التي أصدرت بيانها الذي تدعو فيه إلى تبني التصور الاحتفالي للمسرح . وهي السنة نفسها التي صدر فيها بيان مسرح الحكواتي لفرقة مسرح الحكواتي برئاسة المخرج روجيه عساف من لبنان .
الملاحظ أن كل هذه الدعوات ظهرت متتالية في سياق ما عرفته الأمة العربية من هزات سياسية وعسكرية ، خصوصا بعد هزيمة حزيران 1967 . وكلها تدعو إلى تأصيل الظاهرة المسرحية باستثمار الأشكال التعبيرية الشعبية . وكلها أيضا تتفق على أن المسرح العربي يعيش أزمة وتبعية للمسرح الغربي . لذلك تنوعت صيغ التعبير عن رفض واقع المسرح العربي بما فيه أشكاله وقوالبه ، وركزت في مجملها على اعتبار التراث مصدرا لاستلهام صيغ تعبيرية بديلة وكفيلة للاستجابة لأفق انتظار الذائقة الجمالية العربية. من هنا ظل البعد التأصيلي حاضرا في كل تلك التنظيرات ، وإن كانت هناك إشارات إلى ضرورة الاستفادة من بعض التجارب الغربية المتنورة التي لا تتعارض مع هذا البعد التأصيلي .
وهنا لا بد من الاعتراف بأنه بالرغم مما قد يقال الآن عن تلك البيانات من تضخم الأنا في التركيز على التراث والحرص على التأصيل الذاتي ، فإنها حركت بركة الإبداع والنقد العربيين معا . ففي أعقاب تلك الدعوات ، تحركت عجلة التجريب بسرعة أكبر، سواء على مستوى كتابة النصوص ، أم على مستوى تكتيك الإخراج وأساليب تأثيث خشبة المسرح والتركيز على البعد الفرجوي . ونسجل هنا أن المسرح العربي عرف قفزة نوعية ساهمت في إغناء ربرتواره بعروض ذات قيمة عالية، وظهرت أسماء متنورة في التأليف والإخراج ، بل وفي مكونات العرض الأخرى من تشخيص وسينوغرافيا وموسيقى وغيرها…
أما في الجانب الموازي ، فقد عرف النقد المسرحي تطورا ملحوظا ، سواء على مستوى آليات المقاربة ، أم على مستوى الرؤية النقدية . فقد برزت قضايا وإشكاليات جديدة جعلت الناقد يطور نظرته وآلياته ، مثل مسألة التنظير والتأصيل ، والتجريب والحداثة والتراث والمثاقفة … ونحو ذلك مما يعد من إفرازات تلك التنظيرات . ومن جهة أخرى صار الناقد يبحث في القضايا الجمالية للعرض ، وفي مستويات التلقي ، ومنها الجمهور نفسه. وأكيد أن هذه الأمور كلها كان لها أثرها الإيجابي على الريبرتوار المسرحي العربي ، بالرغم من سلبيات التركيز على البعد التأصيلي بشكل مبالغ فيه أحيانا. لكني أعتقد أن تلك التنظيرات خدمت المسرح العربي أكثر مما أساءت إليه . وهذا هو الأهم في كل ذلك .
ـ س : لن نختلف إذا اعتبرنا أن تأصيل المسرح العربي من خلال الظواهر التعبيرية الشعبية كان الغاية البعيدة من وراء بعض الأنماط التجريبية المسرحية( ومنها ظاهرة المسرح الاحتفالي بطبيعة الحال )..السؤال الذي يحضرني بهذا الصدد هو كالتالي: حتى متى ستظل نقمة أو نعمة التأصيل ( لست أدري ) تطارد المسرحي العربي.؟
ـ ج : هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق . صحيح أن مسألة التأصيل ربما كانت نقمة على المسرح العربي في بعض جوانبها ، خصوصا حين عرفت الظاهرة نوعا من التضخم في فترة السبعينات وبداية الثمانينات ، ولكن رب نقمة تحمل في طياتها نعمة . وهذا ما ينطبق على ظاهرة التأصيل في المسرح العربي . فقد كانت هذه الظاهرة وراء سيل من التجارب المسرحية والدراسات النقدية ، مما كان له دوره الإيجابي على حركية المسرح ، وتطور الوعي النقدي والإبداعي في الوطن العربي .
وما نسجله اليوم أن هذا الوعي الجديد عند المبدعين والنقاد الشباب ، إنما هو ثمرة تلك الظاهرة . فهي التي دفعتهم إلى تجديد أدواتهم ورؤاهم ، وتقديم هذا المغاير والمختلف . لذا أعتقد أن خطاب التأصيل لم يعد سائدا بالقوة التي كان عل2يه من قبل . فهو خطاب أملته ظروف ما بعد النكسة . ولم يعد له مبرر أو حضور اليوم إلا لماما . فالمسرح العربي اليوم يعرف اجتهادات مهمة تتخذ التجريب متكأ للبحث عن العرض الذي يوفر شروط الفرجة ، ويتوسل في ذلك بالمعرفة والاجتهاد .
ـ س : ونحن نتداول الفعل المسرحي باعتباره فرجة ، تجابهنا أسئلة الجمالي بكل أبعاده ومستوياته. إلى أي مدى يقدم المنجز الدرامي العربي برنامجا استطيقيا قادرا على استثمار المنجزات التواصلية الجديدة.؟
ـ ج : أكيد أن هناك اجتهادات هنا وهناك في المنجز المسرحي العربي . ويمكن التمثيل هنا بما قدمه الطيب الصديقي في المغرب ، والشريف زياني عياد والمرحوم عبد القادر علولة في الجزائر ، ومحمد إدريس في تونس ، وروجيه عساف في لبنان ، وعبد الغفارعودة وسامي عبد الحليم من مصر، وجواد الأسدي من العراق ، ودريد لحام من سوريا وغيرهم … واليوم هناك تجارب جديدة لمبدعين شباب خصوصا أولئك المتخرجين من معاهد التكوين المسرحية . ولكن للأسف ليست هناك رؤية استطيقة واضحة ومتداولة ومؤثرة ؛ أو لنقل نموذج يستجيب كليا للمنجزات التواصلية الجديدة كما هو معروف لدى بعض مدارس جمالية التلقي الكبرى كمدرسة كونستانس الألمانية أو غيرها .
صحيح أن هناك تجارب رائدة في التجريب المسرحي ، ولكنها تجارب فردية تنبني على المبادرة الشخصية ، بدلا من البحث المختبري كما هو الحال مثلا مع تجربة مسرح الشمس في فرنسا ، أومسرح البيوميكانيك ، أو مسرح المخبري في بولاندا ، أو المسرح الأنتروبولوجي وغيره…
ثم إني أريد أن أنبه على مسألة أساسية ، وهي أننا حين نتحدث عن الجانب الإستطيقي ، فإن الأمر ينبغي أن يتجه مباشرة صوب الجانب الفني والتقني للعرض المسرحي ، مادام النص وحده لا يوفر هذا الجانب . فالمخرج هو من يتحمل عبء إستطيقة العرض وليس المؤلف . وللأسف لا نملك مخرجين كبارا في الوطن العربي كما هو الحال في أوروبا . ومرد ذلك إلى أن المسرح العربي حديث النشأة مقارنة بغيره من المسارح العالمية ، وهذا ما جعله غير قادر لحد الآن على أن يترسخ في الأوساط الاجتماعية ليصبح تقليدا اجتماعيا ، أو شأنا من شؤون عامة الناس . ولا شك أن قلة المعاهد التي تعنى بالفن الدرامي ساهمت بدورها في تأخير هذا البعد الأستطيقي.
ـ س : من خلال معايشتك للشأن المسرحي ، ما هي الصعوبات التي تواجه المؤلف المسرحي وهو يحلم بأن يرى نصه وقد تحول إلى عرض مسرحي .؟
ـ ج : هناك جملة من الصعوبات ، أكتفي بذكر ما يلي :
1 ـ قلة الإمكانيات اللوجيستيكية التي تساعد على تحقيق كل ما يحلم به المؤلف أو يتصوره على الأقل ، وضمنها قلة المسارح المؤهلة لاحتضان العروض المسرحية التي تعتمد تقنيات دقيقة .
2 ـ محدودية خيال بعض المخرجين في تطويع النص ليكون مجسدا بكل أفكاره واقتراحاته فوق الركح .
3 ـ قلة فرص ترويج العرض في المهرجانات والملتقيات المسرحية .
4 ـ استسهال بعض المخرجين عملية التأليف ، وجمعهم بين الكتابة والإخراج والتشخيص أحيانا .
5 ـ لجوء كثير من المخرجين الشباب إلى الاقتباس من الريبرتوار العالمي والتقليل من أهمية النصوص المحلية .
6 ـ الإساءة إلى النص بسبب قلة التجربة حينا ، وبسبب سوء فهمه أحيانا أخرى . ويحدث هذا مع المخرجين الشباب على وجه الخصوص .
ـ س : إذا طلب منك رسم خريطة لأهم التجارب المسرحية العربية ، ما هي المعالم الكبرى راهنا لهذه الخريطة ، علما بأن مقولة الهوامش والمركز قد تبخرت فيما أعتقد إبداعيا وثقافيا .؟
ـ ج : الحقيقة أنه ليست هناك تجارب قائمة الذات بملامح واضحة يمكن أن تمثل النموذج المسرحي العربي . فالمسرح العربي يعيش حالة من المد والجزر . في كل مرة تظهر تجربة في هذا البلد أو ذاك ، لكن لا تستمر ، بسبب غياب سياسة ثقافية واضحة ودقيقة في كل الوطن العربي . فالسياسة الثقافية في الوطن العربي تخضع للأهواء الذاتية والعابرة ، ولا تخضع لإستراتيجية دقيقة . لهذا نجد أن المبادرات الفردية هي التي تكون وراء نجاح هذه التجربة أو تلك . لكن مع ذلك أعتقد أن المسرح التونسي يعرف اليوم نضجا واضحا ، وتألقا مثيرا على مستوى تقنيات تأثيث الركح ، وتحقيق الفرجة المسرحية في أرقى مستوياتها . وقد تكون هناك تجارب أخرى في مختلف بقاع الوطن العربي ولكن لا تصلنا بسبب غياب التواصل الفني بينا ، ولأن الإعلام المرئي لا يقدم للمشاهد الصورة الحقيقية لما هو عليه المسرح في مختلف المناطق العربية ، ولا سيما المناطق الهامشية التي هي منبع الاجتهاد كما عودنا على ذلك التاريخ .
ـ س : ربما يطاردني بحكم انشغالي بالشعر سؤال الشعر والمسرح..هل يؤمن الدكتور مصطفى رمضاني بما اصطلح عليه يوما ب ” المسرح الشعري ” ، أم أن الشعر يظل يشتغل على هوامش المسرح داخل الفعل المسرحي .؟
ـ ج : الشعر والمسرح توأمان . فقد ظهر المسرح أول ما ظهر شعرا . وأعتقد أن في كل مسرحي أصيل يعيش شاعر بشكل أو بآخر . فالشعر هو ملْح أي مبدع كيفما كان جنس إبداعه . أنا أتحدث هنا طبعا عن جوهر الشعر لا عن آلياته البرانية . لكن يبدو أن هذا البعد الجوهري هو ما يفتقده مسرحنا الشعري في عمومه . وربما هذا الفهم الخاطئ لجوهر الدراما الشعرية هو الذي كان وراء سقطة أمير الشعراء أحمد شوقي حينما وزع نصوصه الشعرية على شخصيات تتلو حوارات موزونة ، معتقدا أن ذلك التوزيع الجاهز هو ما يؤهل عمله ليكون مسرحا شعريا . لذلك اعتبر مسرحه الشعري أقل مستوى من شعره العادي . وربما كان صلاح عبد الصبور أكثر إدراكا لجوهر الدراما الشعرية من غيره من الرواد . ومرد ذلك إلى أنه كان يكتب القصيدة الدرامية قبل أن يكتب المسرح الشعري بكثير من العمق .
لهذا أنا أعتقد أن الأمر لا يتعلق بسؤال الملاءمة ، بقدر ما يتعلق بأصالة المبدع وقدرته على تحويل صوره الشعرية إلى صور درامية تتفجر على شكل حوارات وصراعات تجسدها الشخصيات المسرحية . وهذا أمر لا يتحقق إلا لمن توافرت له القدرة على الجمع بين موهبة الشعر والدراما وأصالتهما . وأنت تعرف أن هؤلاء عملة نادرة في خريطة إبداعنا العربي .
ـ س : ما الرسائل التي توجهها إلى :
* المسرحي العربي في المشرق ؟
ـ ج : أقول للمسرحي العربي في المشرق . همنا واحد ، وحلمنا واحد ، ومصيرنا مشترك إبداعيا وإنسانيا وحضاريا. والمطلوب منا هو الصمود في وجه كل المثبطات مهما كان نوعها ومصدرها ، لأننا ضمير الأمة وفكرها الذي يؤثر في صمت ، ولو على المدى البعيد .

وزارات الشؤون الثقافية العربية ؟

أقول لمسؤولي وزارات الثقافة في الوطن العربي إن الشأن الثقافي شأن حيوي ، وليس نزوة ذاتية عابرة ، أو ديكورا نتزين به في المناسبات .

* عبد الكريم برشيد ؟

ولعبد الكريم برشيد أقول أنت شقيق روحي ، تجمعنا وحدة الرؤية،والوفاء لجوهر الإبداع ، والصدق في التعبير…والإخلاص لفن المسرح ، ولعلاقتنا الأخوية طبعا .

أسرتك الصغيرة ؟
والحب كله لأسرتي الصغيرة . فهي مصدر حبي ، وقوتي ، وصدق إحساسي ، وإصراري في البحث عن الأجمل والأنبل والأنقى …

_____________

-نبذة عن حياة مصطفى رمضاني:
أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الأول بوجدة بالمغرب ، حاصل على دكتوراه الدولة في المسرح والنقد . مؤطر للدراسات العليا في بعض الجامعات المغربية والعربية . عضو اتحاد كتاب المغرب ، وأمين جهوي سابق للنقابة المغربية لمحترفي المسرح ، وفاعل جمعوي مساهم في كثير من مؤسسات المجتمع المدني . شارك في كثير من المؤتمرات واللقاءات العلمية الوطنية والدولية.
*حاصل على جوائز وطنية عربية في الإبداع والنقد
ألف في المجال الأكاديمي جملة من الكتب نذكر من بينها:
قضايا المسرح الاحتفالي قضايا المسرح الاحتفالي- منشورات اتحاد كتاب العرب- سوريا 1993.
بنية الخطاب المسرحي عند توفيق الحكيم من خلال شهرزاد، منشورات – الشرق وجدة 1995.
الحركة المسرحية بوجدة من التأسيس إلي الحداثة – منشورات كلية الآداب وجدة – دار النجاح الجديدة 1996.
بيبليوغرافيا المسرح المغربي (بالاشتراك مع د. محمد قاسمي ) – مؤسسة النخلة للكتاب – وجدة – 2003 .
الكتابة الأدبية عند عبد الكريم غلاب ( تقديم وإعداد ) – منشورات كلية الآداب – وجدة – مؤسسة النخلة للكتاب – وجدة – 2003.
دينامية الفعل الدرامي في مسرح السيد حافظ ( إعداد وتقديم ) ـ مركز الحضارة العربية ـ القاهرة ط1 ـ2005
مسرح عبد الكريم برشيد : التصور والإنجاز ـ مطبعة تريفة ـ بركان ـ ط1 ـ 2007

*. له 9 نصوص مسرحية طبع منها :
1 مسرحية “بني قردون ” ـ مطبعة تريفة ـ بركان ـ أبريل 2007 .
2 أطفال البسوس ـ دائرة الإعلام والثقافة ـ الشارقة ـ الإمارات العربية المتحدة ـ 2009
* وله حوالي 20 كتابا بتأليف مشترك .

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *