د. يسري عبد الغني عبد الله*
خاص ( ثقافات )
سنوات زاخرة بالأحدث:
كانت السنوات من 1750 إلى 1830 من أكثر السنوات الزاخرة بالأحداث في كل التاريخ الأوربي، ففي بدايتها نبتت جذور الحركة الوطنية الكبيرة في بروسيا، وهي الحركة التي قدر لها أن تنمو اتساعاً وعنفاً إلى ما بعد عام 1830، وفيها قامت الثورة الفرنسية، ونشبت الحروب النابليونية، وعقد مؤتمر فينا بالعاصمة النمساوية الذي أجري في عام 1815 إعادة تشكيل القارة الأوربية.
في هذه الفترة التي تموج بالأحداث، عاش كاتب من أعظم الكتاب الأوربيين قاطبة، إنه يوهان ولفيجانج فون جوته، الذي ولد عام 1749، وتوفي عام 1832.
هذا المبدع الكبير واكبت حياته كل تلك الأحداث الكبيرة، وأمكنه أن يرقب تطور أوربا الحديثة، ومع ذلك فإنه مما يدعو للعجب أن جوته الألماني ظل بمنأى عن كل هذا التطور.
وبالرغم من الاتساع الهائل لمدى اهتماماته وقدراته، وبالرغم من تأثيره الخالد على التطور الثقافي لأوروبا بوجه عام، فلم يكن له أي تأثير على مجرى الحوادث التاريخية، كما أنه لم يتأثر بها.
كان جوته رجلاً متعدد الجوانب، ففضلاً عن اشتغاله بالسياسة، على طريقته الخاصة، فهو يعد من رجال العلم المعدودين، ومن بين الموضوعات العديدة التي كتب فيها مجموعة أبحاث مهمة بل رائعة عن الجرانيت، كما أنه كان أول من فكر أو تنبأ بنظرية النشوء والارتقاء أو التطور الداروينية، أي قبل تشارلز داروين.
النشأة الأولى:
كان مولد جوته في مدينة فرانكفورت، في شهر أغسطس من عام 1749، وكان نضوجه الذهني مبكراً وسابقاً لأوانه، ففي السابعة من عمره كان قد بدأ في تأليف الديالوجات (الحوارات) باللغة اللاتينية، ثم درس الحقوق في جامعة ليبزج، وفي ذلك الوقت كان قد بدأ كتابة الشعر بانتظام، وكان التأثير الغالب في طابع الأدب الألماني في ذلك الوقت هو التنوير (أو التوضيح بالترجمة الألمانية)، وهو ما يشار إليه عادة باسم عصر التمييز.
العاصفة والإجهاد:
بينما كان جوته موجوداً في ستاسبورج لاستكمال دراسته، اتصل بحركة أدبية جديدة تعرف باسم حركة العاصفة والإجهاد، وقد ظهرت أولى ثمرات هذا الاتصال الأدبي بعد أن عاد جوته إلى بلدته فرانكفورت في عام 1771، إذ لم تمض أسابيع قليلة على وصوله إليها حتى كان قد كتب أولى مسرحياته العاصفة وهي (جوتزفون برليكنجن)، وفي نفس الوقت كان قد بدأ يفكر في الموضوع الذي ظل يشغله من وقت لآخر طوال حياته، وهو قصة الدكتور فاوست، وهو الذي باع روحه للشيطان، مقابل تحقيق جميع رغباته المادية طيلة حياته.
كان كتابه الثاني المشهور هو قصته (آلام فارتر)، وهي قصة بالغة الرومانسية والعاطفة، لاقت نجاحاً كبيراً، وكم أزرفنا من دموع ونحن شباب عندما كنا نقرأها مترجمة إلى العربية، هذه القصة التي أسسها جوته على قصة حبه الفاشل لفتاة تدعى (شارلوت باف)، وبعد ذلك بقليل كتب جوته أول مسوداته للدراما العظيمة (فاوست)، تلك الدراما التي أثرت في جميع الكتاب الأدباء الذين أثو من بعد جوته بشكل أو بأخر، وقد أكدنا في بحث مقارني لنا، أن الفكرة التي اعتمد عليها جوته كانت موجودة قبله.
إلى فيمار:
على كل حال انتقل جوته إلى بلاط دوقية فيمار عام 1775، وهناك توطدت الصداقة بينه وبين دوقها الشاب، وسرعان ما رسخت أقدامه في حكومة الدوقية، ومنذ ذلك الوقت وإلى عام 1779، انهمك جوته في عمله الحكومي، فلم يكتب كثيراً، ولكن كان من بين القليل الذي كتبه تلك القصائد العاطفية الرقيقة التي ظل قلمه يخطها معظم حياته، والتي قد تكون أنجح ما كتب، بل أن بعض النقاد يذهبون إلى أن جوته استحق لقب أمير الشعر الألماني بسبب قصائده العاطفية التي اشتهر بها.
وفي عام 1779، كتب مسرحيته (إيفيجينا أون توريس)، وفيها نلاحظ تغيراً في أسلوب جوته الذي تعودنا عليه، فهو وإن ظل محتفظاً بالطابع العاطفي المشبوب الذي ميز أعماله السابقة، إلا أن الموضوع والشكل كانا تقليديين، وقد استعارهما من الدراما (الميثولوجيا)، اليونانية.
وفي عام 1786، قام جوته برحلة إلى إيطاليا، وفي خلالها بدأ في كتابة الدراما الشعرية (توركواتو تاسو)، وكان فيها متأثراً بتجاربه في الرحلة الإيطالية، وقد أتمها بعد أن عاد إلى فيمار في شهر يونيو عام 1788.
فاوست هو الأفضل:
ولم يعد أمامنا الآن ما نناقشه سوى القليل من أعمال جوته الأدبية، ففي ما عدا قصته (تلميذة فلهلم مايستر)، وملحمة (هرمان ودوروثيا)، لا يبقى سوى عمل بارز واحد، وإن كان أعظم أعمال جوته على الإطلاق، ألا وهو القصة الكاملة لفاوست، وقد نشر الجزء الأول من هذه الدراما في عام 1808، وقد أضاف جوته إلى المسودة التي سبق أن كتبها في الجزء الأول توسعاً في موضوع الرهان الذي عقده فاوست مع رسول الشيطان.
أما الجزء الثاني من القصة فيعتبر عملاً جد مختلف عن الأول، إذ أنه يعتبر قصيدة اتسمت بالأفكار والشعارات، أكثر مما اهتمت بالشخصيات، وكانت بمثابة أعظم محاولات جوته في تحقيق ما كان يحاوله كثيراً من قبل، ألا وهو المزج بين التقليدية والحديث في عمل واحد.
وأعمال جوته بصفة عامة تتفاوت في مستوياتها لدرجة ملحوظة بين التسامي أحياناً والإملال أحياناً أخرى، ويمكننا أن نعزو ذلك إلى طبيعة حياته الخاصة التي كانت خالية من الإثارة، فقد عاش الرجل طوال حياته وفي فمه ملعقة من ذهب، وهو يذكرنا بأمير الشعراء/ أحمد شوقي، وقد كتبت عن هذا أكثر من مرة، وكذلك عن صديقه البائس اليائس/ شيللر، والذي يذكرنا بشاعر النيل/ حافظ إبراهيم.
وختاماً أقول لك: على الرغم من كل ذلك فإن المستوى العظيم الذي بلغته أفكار جوته ومداركه تضطرنا إلى وضعه دون تردد، في مصاف أعظم الأدباء العباقرة في العالم.
*