حورية الشعر


*آسيا رحاحليه


خاص ( ثقافات )
عيون تتبعها بنهم … و أخرى تقيس بميزان الوَلَهِ قامتها الهيفاء . 
أما أنا فقد بدا لي أنها لم تكن تمشي … و إنّما تسبح أو تطير. 
حقا …كان فيها جاذبية عجيبة .
ذلك الفيلسوف الذي قرّر بأنّ على الأرض قوتان تتحكمان في الأشياء : جاذبية الأرض وجاذبية الأنثى ، هل تراه تيقّن قبل أن يرحل بأنّ جاذبية الأنثى هي الأقوى ؟
هزّت القاعة عاصفة من التصفيق، ثم خفتَ الصخب، و ساد الصمت . 
كنت قد اخترت الجلوس في الصف الأول، لكي أحظى برؤية أشمل أو ربما لكي أختبر ردّة فعلها حين تقع عيناها عليَّ .
كم من الزمن مرّ ؟ عشرون سنة ؟ خمسة و عشرون ؟ ربما أكثر …لا أذكر بالتحديد…
لكنّي تغيّرت ..تغيّرتُ كثيرا مقارنة بها ، تبدّلت ملامحي، والثلج لم يكتف بغزو فوديْ بل استباح كل مساحة شعري أو ما تبقّى فيه من مساحة . التجاعيد تكاثرت حول عينيّ ، والسيجارة فعلت فعلتها الشنيعة في أسناني .
كنت وسيما في تلك الأيام البعيدة، أشبه أبطال السينما… لدرجة أنّ غروري وإعجابي بنفسي ظلا يوهمانني، بأنّ كل الصبايا كان يجب أن يقعن في غرامي ، ومن أول نظرة.
الغريب أنّها لم تتغيّر . كأنّ قامتها أطول قليلا، وجسدها أكثر امتلاءً وأنوثة ، لكنها لم تكبر .. نفس النظرة المخملية ، زادها سحرا تمدّد الكحل فوق الجفون … نفس الابتسامة الحلوة المغرية بالتقبيل .
فقط ثمة أنامل عبثت في شعرها فبعثرته فوق كتفيها .
ما أزال أرى بعين الذاكرة خصلاتها الشقراء معقوصة ، لامعة ، متدلّية كضفيرة من حرير فوق نهدها الشامخ .
عجبا ! كأنّما الزمن الذي مرّ بكلينا ليس نفسه ، أو كأنّه مرّ بي … حانقا، عاصفا ، مزلزلاً، و مرّ بها مهدهدا ، حانيا ، مربّتا بمنتهى الحب على شعرها وعينيها و جسدها..
أخذت مكانها أمام الميكروفون .
نظرت في الحضور و ابتسمت … 
مدّت يدها لتهذّب خصلة من شعرها الأشقر … مشاغبة ، شردت فوق جبينها اللجين.
كانت مذهلة مثل أوّل قبلة … 
همس رؤوف في أذني وهو يميل بكتفه على كتفي .
– إذا أحببت أن تتخيّل شكل الفردوس ؛ تأمّل حسناء تعزف على البيانو أو ترسم لوحة أو كهذه … تقرأ الشعر!، كان في عيني رؤوف بريق غير مألوف … و كأنّها سكبت بعضا من نور عينيها في عينيه يوم قابلها. 
أومأت مؤيدا دون أن أنبس بحرف، و قلبي ينشد ” لوركا ” :
أتراني إذاً لم أزل أحبّك
مثلما ذات يوم أحببتكَ؟
أي ذنب اقترفه قلبي
آه لو كان في وسع أصابعي
قطف بتلات القمر! .
كان كل كياني مشدودا إليها ، معلّقا بشفتيها . قلبي في حالة استنفار، و ذاكرتي تفور بصور بعيدة متداخلة .
رائع أن تستمع إلى الشعر بصوت أنثى، ولكن الأروع أن تجلس في سكون وتتفرّج على صورة جميلة من ألبوم ماضيك البعيد .
رؤوف يعلم ولعي بالأدب وعشقي للشعر، رغم انغماسي في ميدان المحاماة لسنوات طويلة …. هاتفني منذ يومين و كلّه حماس ” ألوو … الشاعرة التي حدّثتك عنها… من؟ تلك التي أجريت معها حوارا منذ أيام …أمسيتها الشعرية يوم غد . لابد أن تحضر … أجّل كل أعمالك .”
يعتقد بأنّها ستكون اكتشافا لي ، هذه الأنثى المثيرة كرحلة استكشاف. لا يدري بأنّي عرفتها قبل الآن وعشقتها بجنون ومتّ فيها . 
كان ذلك حين أجّلت دراستي في الحقوق واشتغلت بتدريس اللغة العربية في الثانوية لمدة سنتين لكي أوفّر مصاريف التخرّج …
و من أول يوم ، بل من أول حصة شعرت بميل قوي نحوها ، إحساس غريب ملك عليّ كل حواسي … جميلة جدا ، بضّة وممتلئة ، أنوثتها متفجّرة ، تتحدّى أعوامها الستة عشر .
في حضورها سحر، ما رأيته في أنثى قبلها و لا بعدها . في عينيها خليط رائع من براءة الطفولة وعذرية الصبا ، و نداء الأنوثة المحتشمة … ذلك الاحتشام في الأنثى الذي يزيدك بها شغفا … وكانت ذكية جدا، وموهوبة … تكتب الشعر … تسلّمني نصوصها، فأراجعها لها و أعطيها رأيي . 
ذات مرّة ، قبل عطلة الربيع بأيام ، طلبت منها المجيء إلى منزلي لكي أسلّمها مجموعة من الكتب تطالعها أثناء العطلة… استقبلتها في غرفتي وأنا ممدّد على سريري ، نصف عار . 
كان ممكنا ، بل مناسبا أكثر ومحترما أن أستقبلها في غرفة الجلوس، لكني طلبت من أختي الكبرى أن تدخلها لغرفتي، متحجّجا ببعض الوهن، وعدم قدرتي على القيام من السرير …
” وماذا في ذلك ؟ تلميذة تقصد أستاذها من أجل كتاب، ما الضّير في أنها تدخل غرفة نومه” ! 
ما أسهل أن نجد الأعذار لأفعالنا الطائشة . 
كنت قبل موعد قدومها قد حلقت ذقني وتعطّرت، ووقفت طويلا أمام المرآة … لم يكن ” الجل ” قد وصل إلينا بعد في ذلك الزمن ، فبللت كفيّ بالماء ومرّرتهما على شعري الأسود الغزير متعمّدا جعل غرّتي كثيفة جدا كما موضة تلك الأيام . 
كانت تتحدّث معي عن حلمها، بأن تصبح شاعرة ، و كنت أحملق في نهدها الثائر وهو يكاد يشق ثوبها الأزرق البسيط .
ولعلّها انتبهت لنظراتي؛ فأطرقت خجلا، وقد احمرّت وجنتاها ، فازداد هيامي بها، وأحسست بتسارع نبض قلبي، و بقوّة لا أفهم كنهها… تدفعي إلى أن أضمّها إلى صدري، وأغرق خديها و جيدها تقبيلا …
لكني تماسكت ، فقد بدت لي ضعيفة جدا و بريئة جدا، وهشّة كجناح فراشة . 
ودعتها عند الباب، وقد شعرت بالشفقة عليها … من جنوني وشهوتي وحبّي العاصف .
كانت تحتضن الكتب وتبتسم لي، و تتمتم ” شكرا لك أستاذي ” . ربّت على كتفها بحنان، محاولا جهدي جعلَ حركة يدي بريئة فعلا ، و كنت أنظر إليها و لا أراها … لم أكن أرى سوى نهدها في كفّي، وشفتيها تذوبان بين شفتي …نهداها ،جنّتان من عنب ورمّان ، شفتاها القرمزيتان الممتلئتان ،نهرا عسل لذة للمغرمين . 
كانت معي ، في بيتي ، في غرفتي ، قرب سريري و لم يكن يمنعني عنها شيء ..
حقا لا شيء ؟ لا شيء أبدا ؟
آه ..مهلا ..ذاك الإحساس اللعين الذي يمزّقك ..صفّارة إنذار تصيح بك بأنّ في الأمر خطأ ، و أنّ ما تفعله غير لائق وخطير ، صوتٌ حادٌ يشطر روحك نصفين ، نصفٌ يقف معك، و نصف يقف ضدّك ، نصفٌ يدفعك … يشجّعك، و يشدّ على يد جنونك ، و نصفٌ يشهر في وجه شيطانك إشارة قف .
أغلقت الباب خلفها و عدت أدراجي للغرفة، وسهام تقذف رأسي ، و صوت يفحّ في أذني … أيها المنحرف المجنون البائس … إنها تلميذتك …ألست تبدأ الدرس بـ ” أبنائي و بناتي الأعزّاء ” ؟
يا لك من منافق… يا لك من شاذ مريض! 
كان من بين الكتب التي سلّمتها إيّاها ” أنتِ لي ” لنزار . كتبتُ لها على صفحته الأولى إهداءً كأنّه رسالة حب … و بقيت لأيام أسأل نفسي ، هل فهمت الرسالة ؟ و لماذا لم تكن منها أيّة ردّة فعل ؟ لعلها لم تفهم ولكنّها ذكية .. 
و لم تحضر الحصة بعد العطلة . أخبرتني زميلة لها، بأنها سافرت لمدينة أخرى مع عائلتها . والدها ضابط في الدرك وكانت العائلة تضطر للرحيل كل أربع سنوات .
و انقطعت كل أسباب اللقاء بيني وبينها، إلى أن كان يوم ، كنت أتجوّل داخل مكتبة واصطدمت عيناي بصورتها واسمها على مؤلف ذي غلاف جميل ” حورية الشعر “… شعرت بفرحة عارمة، ولكن العنوان لم يفاجئني ، فقد كانت حقا حورية ، حديثها شعر، مشيتها تفعيلة ، التفاتتها موسيقى، وابتسامتها قصيدة .
– تشرّفت بلقائك سيدتي
تمتمت حين قدّمها لي رؤوف في نهاية الأمسية . كنت أنتظر أن تشهق لرؤيتي .
– شرف لي سيدي .
يا الهي … لم تتعرّف عليّ .. 
دويّ الصفعة على خد قلبي كان قويا لدرجة إنني لم أسمع ما كان بعد ذلك .
رأيتها تودّعنا وتضيع وسط الزحام …
و وقفت غير بعيد أرقبها، وهي توزّع ابتساماتها على الجميع، وعيناها الجميلتان تقذفان في القلوب المطفأة جمار العشق ، و تأخذان من العيون وعودا بالسّهد والجنون .
___
*كاتبة من الجزائر

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *