*د . يسري عبد الغني عبد الله
خاص ( ثقافات )
كان يوليوس قيصر عند عودته إلى روما عام 45 قبل الميلاد بعد أن هزم بومبي ، هو حاكم كافة أراضي الإمبراطورية الرومانية بدون منازع ، وفي كل مكان كان يذهب إليه يكيلون له الإطراء ، ويغدقون عليه كل ألوان التكريم .
كان قيصر بعد انتهاء الحرب الأهلية قد أصبغ على أعدائه كرمًا وعطفًا لا حدود لهما ، فإنه لم يبق فقط على حياتهم ، بل قلد بعضهم مناصب مهمة في الإمبراطورية الرومانية ، وبرغم هذا ، فقد كان في روما كثيرون ممن يخشونه ويكرهونه ، كانوا ينظرون إليه كطاغية متحجر القلب ، يريد حرمان الشعب الروماني من حريته ، وذهبوا يظنون أنه يريد أن يجعل من نفسه ملكًا مستبدًا ، وتذكروا معاناة روما القاسية تحت حكم ملكها الأخير .
وكان لقيصر في مجلس الشيوخ على وجه الخصوص أعداء كثيرون ، وفي أول الأمر انضموا إلى المعجبين به نفاقًا وتملقًا ، ولكنهم كانوا في الخفاء ساخطين عليه وعلى الإصلاحات التي يقوم بها ، ولم يطل بهم الأمر حتى اتجهت أفكارهم إلى اغتيال يوليوس قيصر .
كان قيصر يعرف الخطر الذي هو مستهدف له ، وقد كان هناك من حذروه مرارًا وتكرارًا ، بيد أنه لم يعر هذا الأمر أدنى اهتمام ، بل أمعن في هذا إلى حد أنه كان يصرف حرسه الخاص ويتجول دون أدنى حراسة ، ورأى أعداءه أنهم لن يجدوا عناءً أو مشقة في قتل القيصر ، وشيئًا فشيئًا تم استدراج إناس أكثر للاشتراك في تلك المؤامرة الخبيثة .
ولما كان من المقرر أن يبرح قيصر روما عاجلاً إلى (بارثيا) ، فقد كان لا بد لهم من التحرك بسرعة ، وتم تحديد يوم الخامس عشر من شهر مارس عام 44 قبل الميلاد موعدًا لتنفيذ الاغتيال ، وكانت الخطة تقوم على قتل قيصر عندما يلقي خطابًا له في مجلس الشيوخ ، فيقف أحد المتآمرين لتعويق مارك أنطونيو صديق قيصر الحميم لدى الباب ، بينما يلتف الآخرون حول قيصر كأنما يقدمون له ملتمسًا ، ثم يغمدون فيه خناجرهم .
ولقد رويت فيما بعد العديد من القصص عن أحداث غريبة وقعت في عاصمة الإمبراطورية الرومانية (روما) عشية اليوم السابق للخامس عشر من شهر مارس ، فقد حدثت عاصفة عاتية كلها بروق ورعود ، وسمعت في أرجاء المدينة أصوات مرعبة كأصوات الأشباح والمردة ، ويقال : إن درع الإله مارس قد هوى إلى الأرض محدثًا دويًا كبيرًا في قصر الكهانة ، وساورت (كلبورنيا) زوجة قيصر أحلاما مخيفة أو كوابيس مزعجة ، حتى إنها توسلت إلى زوجها في اليوم التالي ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ ، وآزرها في هذا العرافون ، الذين قالوا : إن الطوالع غير مواتية ولا سارة …!!
وكان من عادة يوليوس قيصر ألا يحفل بهذه الأمور ، ولكنه للمرة الأولى لجًا إلى اللين أو الطاعة ووافق على ألا يذهب إلى مجلس الشيوخ ، ومع ذلك فإن واحدًا من المتآمرين أقنعه بتغيير رأيه ، وبينما هو يغادر بيته ، هوى تمثاله القائم في الردهة على الأرض محدثًا دويًا مفزعًا .
ورغم ذلك مضى القيصر في طريقه ، وفيما هو يدخل مجلس الشيوخ قدم له أحدهم لفافة مكتوبة بها تفصيل كامل للمؤامرة الإجرامية ، ولم ينفسح الوقت أمام قيصر لقراءتها ، إذ أحاط به في الحال رجال معادون ، وراح برهة يقلب نظره في وجوه قتلته ، وبعضهم رجال أبقى على حياتهم ، وأسدى إليهم من قبل بعض أفضاله ومآثره ، ثم لم يلبس أن فاضت روحه عند قاعدة تمثال بومبي ، بعد ما أثخنوه بمئات الطعنات .
كان كثيرون من المتآمرين رجالاً ذوي خسة ونذالة في منازعهم ، فعلوا ما فعلوا بدافع من الحسد والحقد والغيرة والأمل في الانتفاع والكسب ، ولكن كان بينهم رجل واحد صادق الطوية ، نقي القلب ، صافي الضمير ، يؤمن عن إخلاص بأنه لا بد من موت يوليوس قيصر لخير روما !! ، كان هذا الرجل هو ماركوس بروتس ، الذي كان قيصر يختصه بأشد الحب ، إلى حد أن الكثيرين ظنوه ابنًا له ، وهناك اعتقاد متواتر على مدى الأجيال بأن كلمات قيصر الأخيرة التي قال فيها ” حتى أنت يا بروتس ” لم يدفعه إليها سوى أساه الشديد لرؤية بروتس الطيب أو الذي كان طيبًا بين قتلته .
إن الروح الدافعة بين المتآمرين ، والرجل الذي دبر المؤامرة ، والذي أفلح في كسب تأييد بروتس الطيب ، إنما كان هو (كايوس كاسيوس ليونجينوس) ، ولقد كان ، شأنه شأن معظم المتآمرين ، ممن قاتلوا ضد قيصر في الحرب الأهلية ، ثم منح العفو فيما بعد ، وعين في منصب رفيع ، كان خلقه ينطوي على الغيرة والحسد والعنف ، وكان هو المسئول أكثر من أي رجل آخر عن المؤامرة التي دبرت ضد قيصر .
كان مارك أنطونيو من أقرباء قيصر ، ومن أكثر أنصاره ثباتًا ، وقد حارب معه في بلاد الغال ، ثم فيما بعد أثناء الحرب الأهلية ، هذا ، ولقد أخطأ المتآمرون خطأ فادحاً حينما قرروا أنه ليس من الضروري قتل مارك أنطونيو مثل قيصر أيضًا ، فقد كان هذا في النهاية سبب سقطتهم مرة واحدة ، وفي أول الأمر ، توارى أنطونيو منتظرًا أن يرى اتجاه الأحداث وتطورها ، وفي خلال ذلك كان المتآمرون نهبًا للتردد ، ولا يدرون ماذا تكون خطواتهم التالية ؟ ، فلقد كانوا في لهفة كبيرة لالتزام جادة القانون بقدر ما وسعهم ذلك .
ولكن لكي يفعلوا هذا ، فإنهم كانوا في حاجة إلى عون من مارك أنطونيو ، والذي كان يتقلد في ذلك الوقت منصب القنصل ، ثم لم يلبثوا آخر الأمر أن طلبوا منه إلقاء خطاب في جنازة قيصر ، وهنا وجد أنطونيو فرصته المنشودة .
لقد كان الشعب الروماني في أعقاب الجريمة مكتئبًا حزينًا مشدوهًا ، لا يدري كيف يفكر أو ماذا يفعل على وجه التحديد ، ثم لم يلبث أنطونيو أن طالعه بخطبة حماسية هائلة ذكرهم فيها بكل ما فعله القيصر لروما من روائع الأعمال ، من بلاد جديدة قام بفتحها ، وأصبحت توابع لروما عاصمة الإمبراطورية الرومانية ، ومن قوانين حكيمة شرعها ، ومن مآثر عطف وكرم ومحبة ونبل أسداها إلى الفقراء والمساكين والمحتاجين من الشعب الروماني .
والحق يقال إن هذا الخطاب الحماسي حرك مشاعر الجماهير ، ولا سيما عندما استرسل أنطونيو يقول لهم : إن الأب العظيم للبلاد ، ذلك الذي لم يستطع عدو أجنبي أن ينال منه أو يمسه بأذى ، قد اغتيل على صورة من الخسة والغدر بادية ، ها هنا في وطنه ، وفي نفس البقعة التي طالما سار فيها مظفرًا .
وهكذا سرعان ما انقلبت المدينة روما بأسرها إلى شر حال من الاضطراب والهياج والضجيج ، وسارع المتآمرون بالهروب من المدينة ، ولقد اعتصموا بالولايات الشرقية في الإمبراطورية الرومانية ، ونجحوا في إعداد جيش ، ولكن بروتس وكاسيوس لقيا الهزيمة في عام 42 قبل الميلاد على أيدي أنطونيو وأكتوفيان (أوكتافيانوس) في معركة قيليبي .
ورغم كل ذلك فإن التآمر والخيانة أمر مرفوض مهما كانت الظروف والصروف والأحوال ، وأيضًا القتل والاغتيال نوع من أعمال الهمجية والتوحش ، وأبشع الأمور أن تأتي لك الضربة من أقرب الناس إليك ، أو من الذين وثقت فيهم وأعطيتهم الكثير ، ولسان الحال يقول : ” حتى أنت يا بروتس ” !!
___
*باحث وخبير في التراث الثقافي
___
*باحث وخبير في التراث الثقافي