رتيبة كحلان
خاص ( ثقافات )
امتلأ الكون حولي بصفرة الميموزا فعرفت أنّ الربيع قد حلّ .. وها هي الخضرة تندفع في وجوهنا اندفاع من لا يخشى الصدّ، والكون يعرض مفاتنه مع قلة من ينتبه لذلك فكأن الكون الذي كان قد رحل وحلّ محله كون آخر مختلف التفاصيل. في الربيع تتفتح قلوبنا للحياة ونحبّ وجودنا أكثر ويخرج الفرح من مخابئه على قلته، ثم لا يهدأ الربيع إلا بعد أن يوزع عطاياه بعدل، ويمنح للجمال عصاه السحرية ليرسم بها ما يشاء، فلا خوف من مسّ الجمال. ومع كل هذا التحدي لبشاعة العالم لا تكتمل الصورة ما دامت الذاكرة تتحرش بالزمن ولا تعترف بدورة الفصول ولا تهمها مواثيق الأخضر الحي، الذاكرة تواجهنا بغربتنا، الذاكرة تقيم في ذواتنا وطنا لأولئك الذين لن يروا مجددا ملامح ربيع وطن تركوه خلفهم هربا من ربيع مزيف ولّد أزمات لن تنتهي. لم يكن ربيعا قط فالخضرة لا تنبت حيث البارود، والدخان المتصاعد من تحت الركام سيخنق صفرة الميموزا التي تمهد للدفء .. والإنسان الراكض بعيدا عن التصفية لن تقنعه وردة على حافة الطريق أن يتمهل ليتأملها، وحدهم الأطفال يرتمون في حضن كل تلك الألوان ولن تدرك سوى حواسهم عطايا الربيع الحقيقي كما ينبغي .. فلا وقت لنشرح لهم. هكذا هم أيتام الوطن، الموضوعين على هامش دفاتر الربيع لا نملك لهم سوى مهارة نكأ الجراح وإشعال حطب الوجع وانتظار المجهول، وماذا نفعل بدفاتر البهجة وكل ما يحدث حولنا يطمس حضور الربيع، إنه تضامننا السري مع فاقدي الوطن يجعلنا نمد لهم رائحة العشب الأخضر الغارق في الندى، والتربة المسقية على عجل المطر، ورائحة الياسمين الحقيقي الموزع بسخاء على أنوف العابرين .. وماذا أيضا ؟ : ونهرّب لهم الذكريات وهم يركضون بعيدا على كل الحدود هربا من الربيع. تنام على جفونهم مشاهد أزهار أمس المتفتحة، ويخفف الأمل تعبهم، وينساهم الجميع ولا ينساهم الربيع. ها أنا أحاول تذكر التفاصيل التي أعرف .. والتي لا أعرف عن الربيع هنا وهناك وفي أي مكان صار الآن ذكرى .. بعد أن كان وطن الغربة يا كرام تحاصرنا جميعا: قالوا إنهم يرسمون لنا ربيعا عربيا ! وقالوا إننا أخيرا سنعرف طعم الحرية ! وقالوا … وقالوا .. ولم يحدث إلا عكس ما قالوا .. وحدث كل شيء بسرعة: وقذفنا بكرة الحروب المشتعلة، وصار من المستحيل أن ينتهي الكابوس، صار الدمار الفصل الوحيد الذي يحاصرنا. ومضت القافلة محملة بصبرنا: أخذت الوطن، أبناء الوطن وصادرت الربيع، لكن الحبل السري للحنين يقاوم داخلنا دائما وينغص على النسيان مآدبه الفاخرة.