لمسة سما


*علي سيد


ربما مرَّ أكثر من عام على تلك اللمسة التي أصابت روحي بزلزال لا تزال توابعه تُرْهِق نفسي كلما مرَّت «سما» من أمامي في الكافيتريا. لمسة تبدو عادية، وقعتْ ما يشبهها عشرات المرات، عن قصد، ومن دون قصد، مع زوجتي في فترة الخطوبة، ومع غيرها قبل الخطوبة وبعدها، في المترو، في الميكروباص، في الأسانسير، في الشارع، لكنها مع «سما»، في الكافيتريا، كانت مختلفة. لا يزال لتلك اللمسة وقع منفرد على نفسي، لم أشعر به من قبل مع أي لمسة لي بأنثى. لمسة عفوية، لم يقصدها أحدٌ منّا: أنا أتحرك مستديراً، بعدما تناولت فنجان قهوتي من على «الكونتر»، في اللحظة ذاتها التي اتخذتْ هي قرار العبور من خلفي. كلما أرى «سما» أستدعي مشهد اللمسة. كان الاصطدامُ حتميّاً. وفي مثل تلك اللحظة التي يعلم فيها قائد السيارة أن الصدام واقع لا محالة، ومع ذلك يضغط على الفرامل بقوة في محاولة لتقليل حدته، في مثل تلك اللحظة صَدَّرتُ ذراعي لأُبعدَ القهوةَ عن طريقها، لكنها أقْبَلَتْ، فلمسَ كوعي صدرهَا، في البَرزخ، بين نهديها. كانت لمسةً هادئة، لم يتبدد بسببها «وش القهوة»، وإن اهتز قليلاً.
كلما أرى «سما»، أستدعيها وهي أمامي بعد الاصطدام، بعينيها المرتبكتين بدلال، الفَزِعَتين برفق. أستدعيها أمامي ببلوزتها السوداء. دائماً ما ترتدي الأسود. بينها وبين الأسود علاقة خاصة، تتماهى معه، وتعلم أنه يشكل مع بياضها الشمعي وشعرها الحريري الطويل الفاحم، لوحة أسطورية، تبدو فيها كأميرة حقيقية. هبط كوعي بسلام فوق البرزخ، وفي فضائه استقر. ربما مكث لوقت أقل من ملايين الأجزاء من الثانية، لكنه استقر. كانت بالفعل لمسة هادئة وناعمة على كوعي، لكنها اخترقتني كرصاصة، ورفعتني إلى السماء بصاروخ. لشهور طويلة كنتُ أفتح صفحتها على «الفايس» يومياً. لا تضيف جديداً على «التايم لاين»، أصدقاؤها محدودون. صورها قليلة، في إحداها تظهر وسط شباب وفتيات من عائلتها، في أحد أفراحهم. كانت ترتدي فستاناً أسودَ فوق الركبة. لطالما فتحتُ صفحتها، وحدقتُ في تلك الصورة التي تقف فيها بساقين، تعلم يقيناً، أنهما يشيعان البهجةَ في نفوس ناظريها، ويعدان دليلاً على أن الطبيعة تحبُّ المرأةَ أكثر من الرجل. في إحدى الليالي حلمتُ بها أمامي، تبتسم بهدوء، بينما أصرخ فيها: «ارحمي أمي… ارحمي أمي». لم تكن فَزِعةً من صراخي، حافظت على الهدوءِ نفسِهِ والابتسامةِ ذاتِها وهي تقول: «أنا ماشفتش أصلاً مامتك… إنت بتزعقلي كده ليه؟».
«ارحمي أمي… أنا 39 سنة، وانتي 23، أنا ضهري مقسوم بالمسؤوليات، وانتي كل اللي عليكي قسط العربية اللي دفعلك مقدمتها أبوكي. ابني رايح خامسة ابتدائي، في لغات خاصة، وبنتي هاتدخل «كي جي وان» السنة دي، والشقة الجديدة لسه عليها أقساط، وعليا ديون بعد ما القرض ماكفاش تشطيبها، ده انا حتى قعدت فيها على المحارة. شايفة المحارة؟».
كانت «سما» في الحلم واقفة في إحدى حجرات الشقة، في منتصفها تماماً، ببلوزتها السوداء وبنطالها الجينز المحبوك بعناية على ساقيها، بينما أنا قريب من الباب. قلت لها: «أنا عارف أنك مش بتاعة تهريج ولعب، وأن أكتر من حد حاول يخرج معاكي وبترفضي، بس اعمل إيه. أنا متجوز وعندي عيال… ارحمي أمي». في الحلم، كررتُ «ارحمي أمي»، أكثر من مرة، شاكياً أوضاعاً كثيرة، لا أتذكر تفاصيلها، لكني أتذكر الجملة الأخيرة جيداً: «أنا قلبي اتهد. مش حِمْلِك. ارحمي أمي»، الجملة نفسها التي أرددها، و «سما» تمر من أمامي الآن في كافيتريا الشركة.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

لا شيءَ يُشبه فكرَتَه

 (ثقافات)  نصّان  مرزوق الحلبي   1. لا شيءَ يُشبه فكرَتَه   لا شيءَ يُشبه فكرتَه …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *