العصر الذي عاش فيه الشاعر عبدالحميد أديب عصر قلق متمرد، ثار على الظلم والظلام في مصر، وأسقط كثيراً من جبابرة الحكم فيها من أمثال صدقي ومحمد محمود ومن دار في فلكيهما من الحكام، كذلك كان عصراً مزدحماً بجبابرة الفكر والأدب من الذين تمردوا على كل موروث وأخص منهم الشعراء أمثال عباس محمود العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازني اللذين تمردا على مدرسة البعث والكلاسيكية معاً، أيضا علي محمود طه وإبراهيم ناجي اللذين تمردا على الثورة وسبحا في بحار الرومانسية وأحمد زكي أبو شادي الذي ارتمى في أحضان الغرب.
يقول المؤلف محمد رضوان في كتابه “اعترافات فيلسوف الصعاليك عبدالحميد أديب”: وُلد عبدالحميد الديب عام 1899 بقرية كمشيش بمحافظة المنوفية. وُلد لأسرة فقيرة بائسة، وألحق عبدالحميد الديب بكتاب القرية، فحفظ القرآن وجوّده في فترة وجيزة، وفي تلك الحقبة من حياته كان ينظم شعراً ساذجاً أشبه بالمواويل يهجو به أقرانه ويسخر فيه من الشيخ والعريف.
كان لأبيه أمنية عزيزة، وهي أن يرى ابنه شيخاً مجاوراً في الأزهر يجلس إلى أحد أعمدته يدرس العلوم ويفسر القرآن الكريم لتلاميذه ومريديه، وهكذا التحق ابنه بمعهد أزهري في الإسكندرية، وبعد أن نال منه شهادة متوسطة اتجه إلى القاهرة عام 1920 حيث التحق بالأزهر الشريف.
ويضيف الكاتب: التحق عبدالحميد الديب بمدرسة دار العلوم العليا، ومضى الديب يقرأ أمهات الكتب ويقرأ روائع الشعر العربي القديم، إلى أن كان ذات مساء ساقته المصادفة إلى حي “بولاق أبو العلا”، وهناك جلس في أحد المقاهي يسترق السمع إلى شخص آخر كان يجلس في الركن المقابل، أخذ يردد بصوت هامس في شطرة من أغنيته تقول: والله تستاهل يا قلبي، وظل يرددها عشرات المرات ولا يتمها ولاحظ الأديب ذلك، فتقدم منه وقال بلا مقدمات: اقترح أن تتمها هكذا:
والله تستاهل يا قلبي ** ليه تميل.. ما كنت خالي
أنت أسباب كل كربي ** أنت أسباب ما جرالي
وكاد الرجل يطير فرحاً فقام واحتضن عبدالحميد الديب وراح يغمره بالقبلات، وقدم له نفسه فإذا هو الموسيقار سيد درويش.
أما عن ليالي السجن، فيذكر المؤلف: دخل الشاعر البائس السجن غير مرة بتهم مختلفة، منها التشرد والصعلكة والسكر البين وعدم أداء الدين والعربدة وشم الكوكايين، والعجيب أن حياة الديب في السجن رغم قسوتها ومرارتها، إلا أنه وجد فيها الرحمة والأمان.
كان يخالط في السجن فاقدي العقل والأفاقين وعتاة المجرمين، لكنه كان يرى السجن لذة بعيداً عن سخرية المجتمع وقسوته:
له بفؤادي لذة ووجيب ** ومنه قلبي بلسم وطبيب
ملأت به الدنيا هوى وصبابته ** وهلهلت فيه الحب وهو جنيب
ثم يرسم لنا صورة دقيقة وافية لحياته في السجن مع رواده من عتاة المجرمين والأفاقين وكيف كان بينهم يوسف يفسر لهم أحلامهم ويجمل لهم الأماني.
وإخوان سجن قبحت من وجوههم ** هموم توالي دائماً وخطوب
فمنظرهم أضحوكة كلباسهم ** ومخبرهم في الحادثات رهيب
لقد كنت فيهم يوسف السجن صالحاً ** أفسر أحلاماً لهم وأصيب
ومن اعترافات الشاعر البائس، بعنوان “كيف يستغلون بؤسي؟”، يجيب على هذا التساؤل الشاعر البائس: حدثتك أن حياتي تأثرت بإشاعة البؤس الذي يستوعب كل حياتي ولكني سأحدثك عن بعض الأنذال الذين استغلوا هذه الإشاعة لمآربهم الوضيعة.
طلب إلى مدرس يدعي صداقتي (بالعافية) أن أصاحبه في نزهة شارعية، وفي الطريق رجاني هذا المدرس أن أنتظره دقيقة حتى يعود، وعلى بضع خطوات من موقفي المدرس يحادث رجلاً آخر ويشير بين الجملة والجملة إلى مكاني، واشتد حرارة الحديث بينهما فهرعت إليهما لعلي أكون سلاماً في خصومهما المفاجئ، وحين وصلت إليهما قال لي الرجل وهو مختنق من الغيظ:
أمات والدك يا أستاذ وتريد السفر اليوم.. وتريد.. وحاول إكمال الحديث فكتم المدرس فمه ومنعه من قص الحداث المخجل. لعلك فهمت الآن أن هذا المدرس المحتال الذي استغل عقيدة الناس في بؤس فأراد أن يبني على أنقاض هذا الجدار من ربحه الوضيع، وليته كان مضطراً إلى المال إذن لغفرت له نذالته، ولكنني أعلم منه أنه مقامر يقبض مرتبه ليدسه حطباً لنار المائدة الخضراء.
ويتناول المؤلف في هذا الجزء من الكتاب “خواطر وتأملات للشاعر البائس”، فجاء بعنوان “الديمقراطية في الحب”، يذكر: ولأول مرة في الحياة بكيت عقب زيارتي لمستشفى المجانين في الأيام الأخيرة ذلك بأني سمعت من عاقل أسلمه الحب إلى سرير بمستشفى الخانكة، وقد طوى بالمستشفى عشرة أعوام سمعت منه قصته:
فإذا قيس الملوح (مجنون ليلى) يناجي ليلاه باكياً:
معذبتي، لولاك ما كنت هائماً ** أبيت سخين العين حران باكياً
معذبتي، قد طال وجدي وشفّني ** هواك، فيا للناس قل عزائيا
رأيت العبرة في مجنون “ماري” في جسمه الذابل وفي صوته الحزين، في نظراته الساهمة وفي هدوئه الثائر، وأثار دمعي من حديث هذا العاشق البريء أنه علق فتاة يهواها سواه، وأنه كان يكتفي بكلمة منها أو ابتسامة تشعره ولو بعطفها وتقديرها لقلبه المعذب، وتذكرت أنني رأيت مثل هذا الشهيد البريء في بعض غياهب السجون وفي مستشفى قصر العيني، وبين الأفاقين المساكين في عالم الحزن والآلام.
وعن عبدالحميد الديب ناقداً أديباً، فيذكر: لقد صدق كثير من الناس في اعتقادهم أن الشعر من تعاليم الجن، فإن مسألة الجن والشياطين وتدخلهم في الإنشاد جاءنا عن طريق القدامى من الشعراء جاهليين أو إسلاميين أو مخضرمين وأذكر أنهم نسبوا لحسان بن ثابت الصحابي المعروف قوله:
إني وإن كنت صغير السن ** وكان من العين نبو عني
فإن شيطاني أمير الجن ** يذهب في الشعر كله فن
والواقع أن الشعر فوق مستوى العقول العادية، لهذا يمكن أن يوصف بأنه وحي الضمير أو شيطان النفس أو جنون العقل.
يذكر أن كتاب “اعترافات فيلسوف الصعاليك عبدالحميد أديب” لمؤلفه محمد رضوان صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة ويقع في نحو216 صفحة من القطع المتوسط.
وكالة الصحافة العربية