غصون رحال *
إني اعترف …!
كل هذه السنوات المهدورة في ميادين العمل الاجتماعي والتوعوي للتعريف بمبادئ ومتطلبات الديمقراطيه ، والتربية على ثقافة حقوق الانسان لم تطرح ثمرا ، وباءت الجهود الدؤوبه لمن هم مثلي من الناشطين الحقوقيين بالفشل ، فها هو الانسان العربي يحوّل ربيعه وحلمه بالتحرر والحرية الى مشهد ضبابي وغامض .
أني اعترف
نجحت شاشة التلفزيون بما تبثه من اخبار وتصريحات وصور وتقارير في “خطفي ذهنيا ” ! وبذهن مخطوف، اعيد اجترار كل ما اختزنته ذاكرتي من تعاليم ، فاجدني ادورفي دوامة من الشك والحيرة كون تتابع الأحداث يتجاوز حدود المعقول والمألوف ، وما عاد يمكن التنبؤ بعقباه .
منذ بداية تموز الماضي انشغل العالم بتكييف التحرك الذي اتخذه وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي وتصديه – كما يزعم – لحماية الجموع التي ملأت ميدان التحرير يوم 30 حزيران والتي لم يتم الاتفاق على عدد الأنفس المشاركه بها بعد ، وما ذا كان بالامكان نعته بانقلاب ام ثورة مضاده ، وانشغل السياسيون بحسابات المصالح الكبرى وخرجوا علينا بتفسيرات وتبريرات عجيبة كل بما يرضى مصالحه وأهواءه.
بين كون ما حدث انقلابا عسكريا وخروجا على الشرعية كما يراه حزب الحرية والعدالة والمتعاطفون مع حركه الاخوان المسلمين العابرة للقارات ، وبين انه استعادة للمسار الديمقراطي والانتصار للشرعية الثورية التي خرجت في 30 من حزيران كما يطيب للوزير الامريكي وحلفائه نعته، غدت مصر مهدده بشبح الانقسام وعلى شفا حرب أهلية طاحنه .
فأين الخطأ ؟ ان مصر ، تلك الدولة الضاربة الجذور، لم تشهد او تمارس تجربة الديمقراطية من قبل ، مما حدا بنخبها ومثقفيها وحقوقييها الى بذل الغالي والرخيص في سبيل نشر كلمة الديمقراطية والتغني بحسنها في طول البلاد وعرضها على مدى العهد الغابر ، الا ان حانت ساعة الصفر وهبّ الشعب المصري هبة رجل واحد للاطاحة بالرئيس حسني مبارك .
ان مفاهيم الديمقراطيه التي جرى ترسيخها ونشرها حتى حفظها ورددها الشعب بمجمله، التقاليد التي أدت الى قيام الثورة ، والتي انحازت لها جميع الرموز السياسية والقوى المدنية والدينية تنادي بالمشاركه وعدم الاقصاء ، وتعترف بالحوار وسيلة للتفاهم والاتفاق، وتتبنى الاحتكام للقانون خيارا وحيدا لفض النزاعات …. فما الذي جرى ؟ عندما جدّ الجد، اثبتت تلك القوى والرموز عجزها عن التقيد بتلك التقاليد !
فما ان ظهرت نتائج الانتخابات الرئاسية بالاعلان عن فوز محمد مرسي برئاسة الجمهورية حتى نفضت جميع الأطراف أيديها من تلك المبادئ ، واصبح ذاك الاطار النظري الذي نادت به مختلف التيارات صعب المنال وعصي على التحقيق . تلك اللغه المشتركه التي حركت الثورات العربية ودفعت بها الى الشوارع للمطالبه بالحرية والكرامه الانسانيه وبناء عهد جديد تحكمه مبادئ ديمقراطية – وقد بدت واضحه وغير ملتبسه في حينها – تشرذمت وتشظت وشابتها الانتهازية والسلطويه والاقصاء والتخوين والتكفير عند المحك الأول.
فمن ناحية ، بدت التصريحات الصادرة عن الحكومه المصرية المؤقته بما فيها وزارة الداخلية ووزارة الدفاع – سواء من خلال التطبيل المفزع لبعض القنوات الفضائية ، او من خلال المناشير التي تم اسقاطها على المعتصمين في ميدان رابعة العدوية وهي تكيل لهم حسابات العصا والجزرة بميزان حساس – وكأنها مصقوله ببريق من القوة والسيادة ، وواثقة من فعالية ادوات القهر والبطش التي تمتلكها .
ومن ناحية أخرى ، ظهر مشهد المعتصمين في ميدان رابعه العدوية مخيفا ، ليس في حجمه ، ولكن في انسياقه لرغبات او ربما لتهديدات قادته من العلماء المتأسلمين الذين يعدونهم بالشهادة وملاقاة الحورالعين وفق ما صرّح به احد الشباب مشدوها لاحدى القنوات الفضائية . وما يدعو الى الرعب هو ذاك الخطاب الإلهي الذي اسقطوه على رئيسهم حتى غدا دفاعهم عنه ومطالبتهم برجوعه تكليف رباني وفرض عين يجوز الاستشهاد في سبيله ، وربما خدمهم دخول الشهر الفضيل في تعظيم الاجر من الصيام ونيل الشهادة. وما لحقه من استبسال في طلب الموت اثناء ما يسمى “بعملية فض الاعتصام “.
المبادئ الديمقراطيه ، تقتضي ان يقرّ الحزب الخاسر بخسارته ويبارك للحزب الفائز بالفوز ثم يتشارك الجميع في بناء الوطن كلّ حسب رؤيته واجتهاده . غير ان ما حصل في مصر كان مثيرا للدهشة ، نعلم ان عددا من القوى التي لم يكن لها نصيب في انتخابات الرئاسة مثل عمرو موسى وحمدين صباحي اتفقت مع قادة الاخوان على تجيير اصوات مؤيديها لصالح محمد مرسى للحيلولة دون نجاح أحمد شفيق المحسوب على الفلول. وما ان ظهر نجاح مرسي حتى بدأ اللطم من بعض القوى الليبرالية والتي بدت وكأنها تفاجأت بهذه النتيجة ، وعز عليها ابتداء وقبل ان تتبين خير الرجل من شره بشن حملة ضد كل ما يقوم به . وها هي تهلل لخروج مبارك من الحبس الاحتياطي بعد ان منحته الجهات القضائية صكوك غفران غير قابلة للطعن .
إني أعترف
ان محمد مرسي شخصية غير قيادية ، غير خبيرة ، وأن قراره غير مستقل عن جبهة الاخوان المسلمين ، وانه وقع في اخطاء كبيرة ، ولكن موقف القوى المعارضة لم يكن أكثر قيادية وخبرة . من الطبيعي ان تكون للقياده اخطاءها ، وان يكون للمعارضه سبل ووسائل محدده لتصحيح مثل تلك الاخطاء ، ليس من ضمنها شل عمل الحكومه ، واصطناع العقبات امام القيادة الجديدة، واختلاق ازمات الوقود والكهرباء … باختصار، ان النهج الذي اتبعته المعارضة في تصيد اخطاء الرئيس مرسي من أجل الاطاحه به هو أقرب الى العبث منه الى السياسه . ورغم ان الاطار النظري الذي يحرك المسارالديمقراطي بدا واضحا ومفهوما بالنسبة لمختلف التيارات المشتغله بالعمل السياسي وتلغط به ألسنه السياسيين والمحللين والمعارضين على نحو سواء في مختلف وسائل الاعلام ، فما الذي يجعل تطبيقه على ارض الواقع مستحيلا ؟
الا ان أخطر ما في الموضوع ، ان تطبيق النهج الديمقراطي على ارض الواقع بدى مستحيلا ليس من قبل المشتغلين بالعمل السياسي فقط ، انما من قبل الجماهير ايضا ، الجماهير التي خرجب تطالب بالحرية والعداله الاجتماعيه وقدمت التضحيات من ارواحها ودمائها ، انقلبت على أعقابها وتمترس كل فريق في مواجهة الفريق الاخر مهدرا دمه . انها بلا شك ، مهارات ادارة الجموع او القطيع التي تتمتع بها الفئة الغالبة مهما اختلفت انتماءاتها ، حتى ان الفرد الذي يخالف رأي الجموع يتم التبرؤ منه بل وشتمه وتحقيره ، ومثال ذلك ما لقيه الدكتور محمد البرادعي عندما طالب بالتوصل الى حل سلمي لانهاء الاعتصمات في ميدان رابعه العدويه ، وايضا ما تعرض له النائب والكاتب عمرو حمزاوي من تعريض لمجرد ان ابدى رايه في تجنب العنف وضرورة التوصل الى حل سلمي يرتضيه جميع الاطراف . وما تتعرض له جميع الاصوات المطالبة بالتحقيق في جميع الانتهاكات التي ارتكبت مؤخرا .
فماذا تفعل النخبه التي تنظر الى الاحداث بمنظار المصلحه العليا للبلاد ولا تنحاز لفصيل ضد الاخر ؟ هذه النخبه التي تذكر دوما بمعايير الديمقراطيه الحقه وبضرورة التقيد بأليات العمل الديمقراطي دون محاباة فئه على اخرى من اجل تحقيق مصالحه وطنية ولم الشمل ، والتي يصبح صوتها نشازا امام هذا الهدير الاعلامي والخطابي القذر .
إني أعترف
ليست العلّه في الديمقراطيه ، العلّه الحقيقيه في التركيبه الذهنيه للانسان العربي ، تلك العقلية النزقه ، سهلة الانقياد ، التي تنتظر ان توزع عليها اوراق الهتافات فترددها وراء صانعيها من غير تفكير ، التي تخرج الى الميادين لا بدافع ذاتي ووعي حقيقي انما مدفوعه بضغوطات حينا او مغريات احيانا اخرى، والا بماذا يفسر جهل العديد من المتظاهرين لمفهوم ومعنى الحرية والديمقراطيه التي يطالبون بها؟! هي كلمات يجرى ترديدها والاستشهاد من أجلها من غير ايمان اصيل بمضمونها او وعي ناضج بمتطلباتها .
قد يقال ان الثورات تحتاج الى زمن للملمه الصفوف والاتفاق على معالم الطريق ، والى زمن آخر لتحقيق الاستقرار المنشود ، وربما الى زمن ثالث للخروج من نفق التبعية الى فضاءات الاستقلال والسيادة الوطنيه . ربما كان هذا صحيحا، ولكن الرهان على خيار الزمن وحده لا يكفي ، فالحرية والديمقراطيه لا تسقط من السماء انما يراد لهما الانسان الواعي ، الحر العصي عن الانقياد لاهواء السياسيين والمتنفعين والدعويين ومن ينصبون انفسهم خلفاء لله على الارض .
الحرية فكر وإرادة ، الثوارت العربية كانت رافعتها الرئيسية الإرادة العنيدة والصلبة لتلك الشعوب المسحوقة والمقهورة ، ولكنها للأسف لم تحمل فكرا خلاقا ورائدا يقود تلك الارداة الى بر الامان .
هل عليّ ان أبدا من جديد ام أسلّم بان ” لا فائدة ” ؟
* كاتبة من الأردن تعيش في بريطانيا