يوميات بيت هاينريش بول


قاسم حداد*



الموعظة 


كل عزلة سفرٌ ورحيل
ما إنْ تضعَ قدمكَ خارج البيت
حتي تكونَ في المغامرة
والمغادرةُ شيء من الحضور
فلا مفرَّ
لا مفرّ مما تذهب عنه
فأنت ذاهبٌ إليه
في العزلة من الدرس ما يقتل
وفيها ما يَصقل
وفيها ما يَنقلُ الكائن
من بيت إلى بيت
المسافة بين بيت في زرقة الأرض
وبيت في خضرتها
نهرٌ من الحجر
البيتُ من ماء ومن سماء
هكذا جئتُ إلى العزلة
في نبيّ يعرّج إلى الحلم
فوجدتُ السفرَ في الرحيل
ففي الانتقال جُسورٌ جَمّةٌ
هكذا خرجتُ من بيت الأرض
إلي بيت السماء
لستُ غريبا في العزلة
ولا مستوحشا في الغاب
خرجتُ عما يَكبتُ
دخلتُ في ما يَكتب.
ففي العزلة درسٌ
وفي الرحيل درسٌ
وفي السفر درسٌ
وفي بيت “هاينريش بول”
حكمةٌ بلا كاهن.

ملاك
تحتفي بك الملائكةُ
وأنتَ في مهدك البعيد
أحدها يحرثُ الأرضَ
أحدها يطوي الطينَ على البذور
والكسلُ يقدح الماءَ في النهر
ملائكة خفيفةُ الروح
طَفَقَت تقطفُ الوردَ باكرا
وتطرح الأسئلة في حوض ومزهريات
كانت تأتمر في واضحة الليل
والمهد يترقرق في ماء بلا قرار
هل لك سطوةٌ على الملائكة.

صاحبُ البيت
ماذا اسمّي رحيلك قبل وصول الضيوف
يا “هنريش بول” المحترم
رأيتكَ بقلمك الذي لا يترك أصابعك النحيلة
بالعوينات الأكثر تعبا من النظر
بافترار ابتسامتك المكتومة
وأنتَ تري إلى ما يدور حولك
كأنه لا يريد أنْ يحدث.
تهمس في كتف صديقك الروسيّ العجوز:
تعال أنظرْ الي هذا البيت الذي يصير أفقا
وكلما جاءه غريبٌ زاده سعةً
وازدهرتْ فيه الألوان.
يا “هنريش بول” المحترم
ماذا أسميك وأنت تذهب باكرا
دون أنْ تسمعَ كلمات أصدقائك
وهم يحفرون أسماءَ أيامهم في خشب بيتك
وأحجارِه العتيقة
مثلما يحفر السجناء أحلامَهم في زنزانة الحرية.
سيداتٌ طويلاتُ القامة
في ما يُشبه التبجيل
وأكثر قليلا من الخشوع
تقفُ الأشجارُ غير منتظمات في الحقل تَشبُّها بالغابة
فواكهُ وأحراش وكوخةُ أقزام تحرس أخشابَ المدفأة
لشتاء يأتي حثيثا
بصمت وحذر
وفي تباعد خشيةَ المباغتة
التفاحُ الأجاصُ الكرزُ
وريفٌ صغيرٌ من فصوص الزهر
يروّنق التضاريسَ المتحاجزة
كما لو أنَّ البيت يـتأرجح بين الحفل والمبارزة
والشجيرات يتوشَّحنَ بما يقيهنَّ من البلل
السيداتُ الطويلات
ينحنين لكي يدخلن كوخ الأقزام
ويتركنَ المطرَ وحده
حيث ما مِنْ شمس
وليس هناك زهرةٌ واحدة من عبّاد الشمس
الغابة تطوفُ في ممرات الريف
تسأل عن حديقة صغيرة ضَلَّتِ الطريقَ
عسى منْ يعثر عليها
أن يردّها إلى أمها
صَبيّةٌ مستهامةٌ ببيت “هينريش بول”
طفلةُ الغابة الضائعة.
*

في انتظار النص
أين كنتَ
ونحن أسراكَ الخرافيون منتظرون
في بهو الجنازة
ما تأخرنا
وجئنا في المواعيد
استبقناكَ لكي نفتحَ قبوَ الخمرِ
نخفيك عن الأعداء.
كان الموتُ تمويها لكي ينصرفَ الجندُ
عن القرية
كانوا يسألونَ الكأسَ
والأنخابَ في ليل النبيذ
ويرُوزُونَ دموعَ الحزن في أحداقنا
فيهبُّ الراقصون
جوقةُ في الجاز
والأبنوسِ في صاج الجنون
المغني غيَّرَ الإيقاعَ كي يأتي الطهاة
ويرصُّونَ الكؤوس
في عيون العَسَس اليقظى
تآمرنا لكي نَحميك
هاتِ النصّ،
نحن في انتظارك.
أين كنتَ الأمس،
السهرةُ احتالتْ على الأعداء
فاشتدَّ حماسُ الرقص
واهتزَّ المغنونَ انتشاءً
وتلاشتْ ثقةُ القتلى بأنصال السكاكين
كعُكازاتهم مكسورة في الحرب.
ماجَ الحفلُ،
نُخفيكَ وراء القصف
فالجندُ التهوا بالخمر
في تهريجةِ الحوذي
يَغوي خيلهم
بالنوم تحت الجسر
يَهوونَ تباعا
كلُّ مَنْ لا يُحسنُ العوم
قضي في ما وراء النهر،
كنا وحدَنا في وحشة الغابات
أجَّلنا التفاصيلَ
وصِرنا في انتظارك
أينما كنتَ
ستأتي
كل ما يجري هنا تأجيلك الثاني
وموتٌ جاهزٌ للنقض
هاتِ النصّ
لا تذهبْ بعيدا
نحن أسراكَ الخرافيون
لم يبصرْ مرايانا من الجرحى
سِواك
نحن ضمَّدنا بقاياك لئلا يسألَ الجندُ
عن الحفلة
غُضَّ الطرفَ عن مأزقنا في حضرة الجند
ولا تتركنا في دورة النار
فهل كنت ترانا … عندما كنا نراك.
*

سيداتٌ طويلاتُ القامة
في ما يُشبه التبجيل
وأكثر قليلا من الخشوع
تقفُ الأشجارُ غير منتظمات في الحقل تَشبُّها بالغابة
فواكهُ وأحراش وكوخةُ أقزام تحرس أخشابَ المدفأة
لشتاء يأتي حثيثا
بصمت وحذر
وفي تباعد خشيةَ المباغتة
التفاحُ الأجاصُ الكرزُ
وريفٌ صغيرٌ من فصوص الزهر
يروّنق التضاريسَ المتحاجزة
كما لو أنَّ البيت يـتأرجح بين الحفل والمبارزة
والشجيرات يتوشَّحنَ بما يقيهنَّ من البلل
السيداتُ الطويلات
ينحنين لكي يدخلن كوخ الأقزام
ويتركنَ المطرَ وحده
حيث ما مِنْ شمس
وليس هناك زهرةٌ واحدة من عبّاد الشمس
الغابة تطوفُ في ممرات الريف
تسأل عن حديقة صغيرة ضَلَّتِ الطريقَ
عسي مّنْ يعثر عليها
أن يردّها إلى أمها
صَبيّةٌ مستهامةٌ ببيت “هاينريش بول”
طفلةُ الغابة الضائعة. 

* القاهرة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *