عائشة المراغي*
دائما ما تعاني المطبوعات الثقافية، وحاليا أصبحت تعاني بشكل أكبر. يعوقها كثير من الصعوبات التي قد تصل بها في نهاية المطاف إلى التوقف المؤقت، أو الإغلاق، وهو ما حدث مؤخرا مع بعض المجلات مثل “دبي الثقافية” التي وُضعت لها كلمة النهاية دون سابق إنذار، ويخشى الكثيرون من أن يصيب نفس المصير مجلة “العربي” الكويتية التي تتأخر أعدادها في السوق منذ بداية العام الحالي، علاوة على ذلك ما تعانيه بعض المجلات الثقافية المصرية من عدم انتظام في الصدور أو مشكلات في التوزيع وعدم وصولها للقارئ المستهدف.
هنا نستطلع آراء المسؤولين في المجلات الثقافة لنعرف ما يواجه هذه المطبوعات المهمة من مشكلات وحجم التهديد الذي يقودها أحيانا إلى الإغلاق.
تقول الكاتبة الصحفية فريدة النقاش، رئيس تحرير مجلة “أدب ونقد” الأسبق: “أزمة المجلات الثقافية هي جزء من أزمة الصحافة الورقية بشكل عام في العالم، أما بالنسبة للعالم العربي؛ فمعظم المجلات الثقافية المعروفة والتي كانت منتظمة طيلة عقود، تصدر في بلدان الخليج الغنية بالنفط، والتي تواجه الآن تراجعا متواصلا في أسعاره، وبالتالي فهي تختار إغلاق ما تراه غير ضروري، ونحن نعرف أن الثقافة في الوطن العربي تأتي في ذيل كل الأولويات الأخرى، وأول شيء تفكر الحكومات في الاستغناء عنه عندما تضطر لخفض إنفاقها هو المنتج الثقافي كالسينما والمطبوعات الثقافية والكتاب، وبالتالي تصبح المجلات الثقافية هي الضحية ال أولى لهذه العملية، حتى أنه في الصحف غالبا عندما يتواجد إعلان، تكون الصفحة الثقافية هي الأقرب للحذف من أجله، فالحكومات تعتبر الثقافة ترفا أو شيئا زائدا عن الحاجة، وهذه النظرة قاصرة جداً، وكانت لابد أن تؤدي إلى ما نحن فيه من انتشار الجهل والأمية الثقافية والوعي المشوه، كما أن ثورة الاتصال والانترنت والفيسبوك والمواقع الإلكترونية؛ سحبت الكثير من جمهور هذه المطبوعات، خاصة بين الشباب، وبالتالي أصبحت معرضة للخسائر المتواصلة، وإذا لم تجد دعما من الحكومات فإنها تغلق أبوابها”.
وعن كيفية مواجهة تلك الأزمة، تقول النقاش: “لابد أن تتغير نظرة الحكومات للثقافة، خاصة بعد انتشار الإرهاب على نطاق واسع وانجذاب قطاعات كبيرة ومتزايدة من الشباب نحو الإيديولوجية الدينية المتطرفة، فلابد أن تهتم النظم السياسية اهتماما خاصا بالثقافة وتضعها في مقدمة جدول أعمالها، لأن هذا هو الملاذ الدائم والاستراتيجي لمواجهة أفكار التطرف والعنف والقراءة النصية للدين واستخدام السلاح في مواجهة المجتمع والحكومة، أما المسألة الأخرى؛ والتي تعلمناها من تجربة مكتبة الأسرة في مصر، حيث وزعت توزيعا هائلا، لأن الجمهور فقير وأسعار مطبوعاتها كانت زهيدة جداً وفي متناول الفقراء، وهذا يوضح لنا أن دعم الحكومة للمجلات والكتب والصحف الجادة هو ضرورة في هذا العصر الذي ينجذب فيه الشباب بشكل خاص نحو وسائل الاتصال الجماهيري ويبتعدون عن المطبوعات الورقية ومن بينها المجلات الثقافية”.
تضيف النقاش: “لقد عاشت تلك المجلة لمدة 30 عاما على الجهد المتواصل الذي يبذله العاملون فيها دون أجر، وعلي تبرعات القراء، ولكن أسعار الورق والأحبار والطباعة ترتفع، ولن يكون التطوع بصفة دائمة هو الحل، فهذا يؤدي إلى تضييق رقعة الذين ينشرون في المجلة، ولذلك لابد من الدعم الحكومي، وهو ما لن يأتي إلا إذا تغيرت نظرة النظم السياسية والحكومات والأحزاب للثقافة”.
من جانبه؛ يرى الأديب محمد المنسي قنديل، رئيس تحرير مجلة “إبداع”، أن المجلات الثقافية دائما تواجه المشكلات وتعاني من قلة التوزيع، فيقول: “كانت هناك مجلات لها تاريخ قديم استطاعت تحقيق أرقام هائلة جداً في التوزيع مثل العربي الكويتية، والتي عملت بها فترة من الزمن، كنا نطبع حوالي 120 ألف نسخة، لكن تلك المجلات ذات طبيعة خاصة، ليس لها جماهيرية ضخمة بحيث تنتشر وتحقق أعدادا مرتفعة، بالإضافة إلى وجود الوسائل الأخرى مثل الكمبيوتر والانترنت والتليفزيون بمحطاته المتنوعة، وهو ما أثر كثيرا على المجلات، فحتي مجلة العربي نفسها ظل توزيعها ينخفض تدريجيا كلما تقدمت وسائل الاتصال الحديثة، فعلي سبيل المثال؛ كان هناك باب بالمجلة خاص بالاستطلاعات، نسافر خلاله إلى بلدان كثيرة لعمل تحقيقات، لكنه فقد قيمته مع تطور التليفزيون الذي يقدم أفلاما كاملة عن أي بلد يرغب المتلقي في مشاهدتها، كما أن طباعة المجلات تكلفتها عالية ولا تحقق ربحا، لذلك لابد أن تكون مدعومة من الدولة، فلا توجد مجلة تستطيع الصمود وحدها سواء هنا أو في الخليج، وما حدث مع مجلة دبي الثقافية لم يكن مجرد توقف وإنما “موت بالسكتة القلبية”، فمن الغريب أن تكون مجلة ضخمة وفاخرة الطباعة وسخية في مكافآتها، وتتوقف فجأة هكذا، ولا أعتقد أن السبب هو قلة التوزيع، أظن هناك خلافات كثيرة جداً ومشاكل تخصها كمجلة ثقافية جعلتها تتوقف”.
وعن تجربة مجلة “إبداع”، يقول قنديل: “نحن نصدرها لتناسب الواقع الثقافي المصري، طموحها الرئيسي أن تكتشف المزيد من الأقلام الشابة، وأظن أنها نجحت في ذلك حتى الآن، لكن ينقصها جهاز توزيع جيد يجعلها تصل إلى أركان جديدة، فنحن نحاول تعويض ذلك بوضع نسختها “البي دي إف” علي الانترنت، إلا أنني أتمني أن تحصل المجلة على دعم أكبر من الوزارة وأن يكون لها جهاز توزيع جيد لتصل إلى الشباب الذين يكتبون بها ويحلمون برؤية اسمهم مطبوعا على صفحاتها، فالهدف الأكبر هو مواطن الأقاليم لأنه الأحوج للمنتجات الثقافية”.
وبشأن لجوئهم لاستخدام الانترنت لنشر المجلة وإن كان ذلك مؤشرا لزوال النسخة الورقية، يقول المنسي: “أتمني أن يأتي اليوم الذي تزول فيه الكتب والصحافة الورقية ولا يكون هناك شيئ اسمه ورق، لأننا بسببه نعتدي على مساحات كبيرة من الغابات والخضرة، ربما تنقذ الصحافة الإلكترونية بعضا من البقية الباقية من مستقبل البشرية، فالورق هو أكبر عدو لوجودنا على الأرض”.
الروائي سعد القرش، رئيس تحرير مجلة “الهلال”؛ فضل الحديث عن تجربته مع المجلة، التي يعتبرها خاصة جداً ومستقلة، ويستطرد: “هي مجلة القارئ والمثقف العربي بوجه عام، فلا علاقة للدولة بها إلا من حيث تسهيل الاطلاع، ولكن الخدمة لا تصل إلى مستحقيها بسبب التوزيع سواء داخل مصر أو خارجها، فالمجلة لا تصل إلى أحياء كاملة في القاهرة، وهناك محافظات لا يصلها إلا بضع نسخ فقط منها، أما بالنسبة للتوزيع في الخارج، فالمجلة كانت صوت مصر، والآن ما يزيد عن نصف كتابها من العرب، لذلك يغلب عليها الطابع العربي في كثير من الأحيان، وهذا هو دورها منذ تأسيسها قبل 124 عاما، ولكن شركة “القومية للتوزيع” التي تحتكر توزيع المطبوعات المصرية في الخارج لا تقوم بدورها إلا باستثناءات قليلة، فهل يعقل مثلا أن يكون في المجلة 35 نصا شعريا من الجزائر بما يشكل ديوانا للشعر الجزائري الآن، ولا تصل المجلة إلى الجزائر، وكذلك فيما يخص طرح ملفات إبداعية عن القصة في المغرب واليمن والإبداع السوري والعراقي والشعر في تونس وغيره، نحن ننشر لكتاب لا يقرأون المجلة”.
يستكمل القرش: “لابد أن نكون على قدر المسؤولية في الأشياء التي لا نملك غيرها، فنحن لا نملك أي شيء على الإطلاق سوي القيام بدور ثقافي، لأننا مؤهلون لهذا الدور، ولكن الدولة عليها إيصال هذه الخدمة، فمنذ توليت مهمة “الهلال”؛ الكتاب العرب يكتبون مجانا تقريبا، ورغم ذلك يكتبون بحماس شديد، لأنهم – كما قيل لي في البداية – يستعيدون مجلتهم التي تربوا عليها ويريدون رد الجميل لها بالكتابة فيها لأجيال أخري، فعلي الأقل؛ يجب أن تصل هذه الكتابات إلى القارئ”.
أرجع الكاتب صبحي موسى، رئيس تحرير مجلة “الثقافة الجديدة” سابقاً، الأمر إلى الوسائل الحديثة القائمة على شبكة المعلومات الدولية، والتي تهدد كل أدوات المعرفة الورقية، لسرعتها ويسرها، ويضيف: “استطاعت التكنولوجيا الحديثة توفير الخدمات بشكل أفضل وأكثر إتاحة للجميع، وهذا أثر بالضرورة على الجرائد والمجلات الورقية بشكل أساسي، فجميعها متعثرة في مقابل حالة من الرواج لصالح المواقع الإلكترونية، لكننا مازلنا في العالم العربي لم نصل بعد إلى درجة رفاهية كبرى تمكننا من إلغاء الطباعة الورقية والتعامل مع الانترنت بشكل مباشر، مما يضطرنا إلى الوقوف مع الأشكال القديمة بدرجة ما، لأنها مازالت أدوات نافعة بالنسبة للتثقيف العام، خاصة في ظل وجود هيئات معنية برفع الوضع الثقافي العام، كقصور الثقافة أو هيئة الكتاب، فهي جهات غير استثمارية، ولكنهم يصنعون الإشكاليات بأنفسهم، من خلال تخفيض عدد المطبوع، فعندما تصدر دورية في 2000 نسخة على مستوي بلد بتعداد 90 مليون مواطن، فالأمر يحتاج إلى إعادة نظر في خريطة التوزيع على مستوي الجمهورية، بما يؤكد أننا نحن أنفسنا نصنع مأزق جديد للمجلات الثقافية في ظل مأزقها العام في العالم كله وهو الانترنت، للأسف لدينا أكثر من 20 مجلة لكنها جميعا لا تؤتي بثمارها لأنها مجرد رقم”.
بينما إلكترونيا؛ يشير موسى إلى ضرورة وجود تكامل بين المجلة وموقعها الإلكتروني، بحيث تستفيد عندما تنسحب ورقيا، فيكون القارئ مستمرا معها على الشكل الإلكتروني الحديث، ويستطرد:”للأسف أغلب المجلات لا تفعل ذلك وغالبية المواقع الحكومية على الانترنت لديها مشاكل عظمي، ويتحكم فيها شخص أو اثنين، فمن المفترض أن يكون لمجلة مثل الثقافة الجديدة موقع حدثي يتابع الواقع الثقافي لحظة بلحظة، ولكننا بالكاد لدينا صفحة على الفيسبوك نتيح من خلالها العدد “بي دي إف”، فمازالت النظرة إلى الثقافة الرقمية، وظيفية قديمة لا معنى لها”.
فيما يخص المجلات العربية مثل دبي الثقافية والعربي أو عالم المعرفة، يقول موسي:”هذه جهات بدرجة ما هادفة إلى الربح، وإذا قارنّا نوع المطبوع وجودته والمكافآت المجزية التي تُعطي للكتاب، تصبح المؤسسة في مأزق لأنها لن تستطيع تحقيق دخل موازٍ لذلك، ومن ثم يكون عليها إعادة تقييم الأوضاع، لكن مؤسساتنا وضعها مختلف بعض الشيء لأنها خدمية، بل أن البعض منها لا يقف عند فكرة تحقيق عائد، وإنما على استعداد أن يخسر، مثل قصور الثقافة، في مقابل تقديم رسالته، ونحن للأسف لدينا جمهور كبير في النجوع والقري وغيرها، ممن لا يتعاملون حتى الآن مع الثقافة الرقمية بشكل جيد، وبالتالي مضطرين لتوفيرها ورقيا، لأن دوري كمؤسسة هو تفعيل الوعي الثقافي في الشارع وسياسته، وعدم ترك الساحة لصالح الجماعات السلفية والفكر القديم، فإذا كانت لديك خطة لمواجهة الفكر الظلامي لن يكون ذلك بطباعة 2000 نسخة، فالمواجهة تحتاج نوعا من التحدي وخطة كبيرة وحضور ورقي ممسوك في الشارع”.
برؤية نقدية، يفسر د. مدحت الجيار، رئيس تحرير مجلة “الرواية” قائلا: “المجلات الثقافية بشكل عام خدمة اجتماعية وفكرية للمواطنين في أي مكان، ولذلك هي تتكلف مبالغ أكبر من السعر الذي تباع به في الأسواق، وبالتالي لابد لأي وزارة أو دولة تصدر مطبوعات ثقافية أن تتحمل التكلفة الاقتصادية، فبالنسبة لدول الخليج؛ هم نفذوا إلى مجال به تهديد من الإرهاب بمعظم البلدان، وبالتالي زادت مصروفاتهم في التسليح، ونظرا لأن اقتصادهم الآن اقتصاد حرب، فبعض الدول الخليجية قررت إنهاء خدمة عدد من المجلات الثقافية بسبب التمويل، لأنهم في حالة من الحرب يتكبدون خلالها تكاليف عالية جداً”.
أما في مصر، فيقول الجيار: “الأمور الثقافية لدينا طبيعية، والمجلات كذلك، فهناك استمرار واستقرار في الدوريات الثقافية المصرية، سواء كانت جرائد أو مجلات أو كتبا، ومنها بالطبع مجلة “الرواية”، التي تصدر في مواعيدها، رغم أن تكلفة العدد تزيد عن تكلفة البيع 100٪، لكنها خدمة تقدمها وزارة الثقافة المصرية للجماهير سواء في مصر أو خارجها، وحتي الآن لم نصادف أي أزمة، فالكتاب يحصلون على حقوقهم المادية، وكذلك الموظفون وهيئة التحرير، كما أن التوزيع يزداد عددا بعد الآخر، فهي أكثر المجلات الصادرة عن وزارة الثقافة توزيعا، طبقا للإحصاءات التي تقوم بها الوزارة، إلي جانب أنها جغرافيا تصل إلى كل المحافظات والأقاليم بما فيها المناطق البعيدة كمرسي مطروح أو أسوان، لذا نفكر الآن في زيادة المطبوعات؛ لإرسالها إلى الدول التي تأثرت بالحروب وأنقصت إصدار المطبوعات الثقافية، حيث نحلم بتعويض هذه البلدان بإصدارات وزارة الثقافة، ومنها مجلة الرواية”.
بينما يتساءل القاص سعيد الكفراوي: “في ظل ازدحام وسائل الاتصال والنشر ومزاحمة التقنيات الرقمية، يجب أن تطرح المجلات الورقية سؤالا؛ لماذا تصدر؟ وهل هذا الواقع المتغير في حاجة لصدور مجلات بصيغ قديمة أم مطلوب من المجلات تطوير رؤيتها؟ فالكثير من المجلات الثقافية تعيش أزمة التخلف عن الواقع، والبعد عن الأسئلة الجديدة المطروحة على الفعل الثقافي، فلابد لأي مجلة تصدر أن يكون في وعيها تعبير عن الحرية، والنقد الذي يعبر عن الحقيقة عبر مواد لمتخصصين، وأن تهتم بتجارب الكتابة الجديدة في الإبداع؛ شعرا وقصة ورواية ونقدا، محاورة قضايا الواقع مثل الحريات والمصادرة وقوانين ازدراء الأديان ومجابهة فساد أي سلطة، رحم الله طه حسين الذي أصدر الكاتب المصري، فكانت مجلة في حينها لا تهتم بمقال نقدي أو مناقشة ظاهرة ولكنها كانت تحرث الأرض وتمهدها أمام الكتابات الجديدة والرؤي الجديدة، فعبر هذه المجلة عرفنا الوجودية وقرأنا كافكا وألبير كامي وسارتر، وفتحت أمامنا رؤية، وكذلك فعل يحيي حقي في مجلة المجلة”.
واستطرد الكفراوي: “كما أن هناك جدلا وصراعا موجودا بين المطبوعة الورقية وما يجري في التقنيات الحديثة، التي تهدد زمن الكتاب والقراءة ومتعتها، فهناك أزمة في المحتوي تعاني منها أغلب مجلاتنا، باستثناء حاليا مجلة إبداع التي رفعت شعار “إذا لم أجد مادة في الإنتاج المحلي أقوم بالترجمة”، فمن خلال اختياراتها المتقدمة جداً أصبحت في قلب العصر”.
* أخبار الأدب.