المجمع العلمي المصري



د. مصطفى الفقي*



اختلفت الآراء حول الأثر الذي خلّفته الحملة الفرنسية على «مصر»، وانقسم المؤرخون فريقين: فريق يري أنها كانت «حملة تنويرية» أدت إلى نقلة نوعية لـ«مصر»، وانتشلتها من ظلمات العصور الوسطي، حيث يسيطر «المماليك» و«العثمانيون» على مقاليد الحكم ومقادير الحياة في «مصر»، ومازلت أتذكر مقالاً شهيراً لأستاذ الفلسفة الراحل د. فؤاد زكريا كان عنوانه «دهاء التاريخ»، وفيه يعقد ذلك الفيلسوف المصري مقارنة تاريخية بين حملة «نابليون» على «مصر» وحملة «عبدالناصر» إلى «اليمن» ليتأكد من سياسة «ازدواج المعايير» على المستوي الثقافي و«الكيل بمكيالين» عند التأريخ السياسي، فقد قلنا في «حرب اليمن» إن الجيش المصري ذهب إلى هناك في مهمة قومية من أجل تنوير «اليمن» ونقلها من العصور الوسطي إلى القرن العشرين، وقال «نابليون» أيضاً إنه أتي بحملة ثقافية فيها جيش من العلماء لتنوير «مصر» ونقلها من ظلمات التاريخ إلى بدايات القرن التاسع عشر، وفي ظني أن كلتا المقولتين صحيحة جزئيّاً، ولكنهما لا تخلوان من دوافع سياسية ومصالح إقليمية ومكاسب استراتيجية.
كانت هذه مقدمة ضرورية، إذا أردنا الحديث عن «المجمع العلمي المصري» باعتباره واحداً من ثمرات «حملة نابليون» والآثار الثقافية العميقة لها في «مصر»، فإذا كان كتاب «وصف مصر» من العلامات البارزة في تشخيص «مصر» أرضاً وشعباً وموارد طبيعية وبشرية، فإننا نحسب أن «المجمع العلمي المصري» هو الصرح الثقافي الذي يجسد الآثار الفكرية للحملة الفرنسية فقد أنشأه «نابليون»، وتنقل «المجمع» من مقر إلى آخر، عبر السنين، وظل صامداً أمام الأهواء والأنواء حتى جري إحراق مبناه في «ميدان التحرير» إبّان فوضي الأحداث الدامية التي أعقبت ثورة 25 يناير 2011، وكان الجغرافي المصري العظيم د. سليمان حزين قد نقل إلى «المجمع» مجموعة من الخرائط النادرة للمحافظة عليها، بسبب تغيير مقر «الجمعية الجغرافية» منذ عقود قليلة، ولكن النيران الآثمة أتت على جزء كبير من المقتنيات النادرة للمجمع، سواء من كتب أو مخطوطات أو خرائط يتصل بعضها بالحدود المصرية في فترات مختلفة من تاريخ هذا الوطن، وذلك يضع علامة استفهام كبيرة أمام دوافع الحريق وملابساته، لأن تلك الخرائط النادرة هي وثائق يصعب تكرارها أو الحصول على بديل لها، وأنا أحسب أن حرق «المجمع العلمي المصري» هو واحد من الجرائم السوداء التي جري اقترافها في حق الحضارة المصرية وثقافة الشعب وتراثه العظيم، وقد حاول «أمير الشارقة» ذلك العربي العاشق لـ«مصر»، الذي جعل من إمارته واحة ثقافية في كل الأوقات، لقد حاول تعويض بعض ما احترق من كتب ومخطوطات ووثائق، ولكن تبقي الخسارة فادحة والجريمة نكراء، ومازلت أتذكر أن الرئيس الأسبق للمجمع الدكتور «إبراهيم حافظ» قد علم بمأساة الحريق وهو على فراش الموت، فعجل الخبر بوفاته، حيث جاوز المائة من عمره، وجدير بالذكر أن شخصيات كبيرة قد توافدت على رئاسة ذلك الصرح الثقافي الفريد كان آخرهم الجرّاح المصري الراحل د. إبراهيم بدران.
إنني أكتب هذه السطور لكي ألفت النظر إلى أهمية ما نعاني منه من استهداف لأعمدة الدولة المصرية سياسية واقتصادية وثقافية، لأن «الكنانة» تملك من المقومات ما لا يملكه غيرها من صروح شامخة في المجالات المختلفة، بدءاً من «الأهرام» و«أبوالهول» و«المعابد» مروراً بـ«قناة السويس» وصولاً إلى «المساجد» و«الكنائس» حتى «مكتبة الإسكندرية» و«المجمع العلمي المصري» وغيرها من مظاهر التراث الحضاري لهذا البلد العريق، وأنا أتمني أن نعيد النظر في قيمة ما نملك، وأن نكون حراساً يقظين لكل ما لدينا من مقومات، وأن نترفع عن حالة الغفلة والتقاعس واللامبالاة التي تجتاحنا، ولا تجعلنا نقدر قيمة ما لدينا، فلا نعرف كيف نحافظ عليه، ونرقي به، ونجعله رمزاً للماضي والحاضر والمستقبل، ولعلي أطرح هنا وصايا ثلاث:
الأولي: ضرورة الربط بين المواقع الثقافية المهمة والأجيال الجديدة من شبابنا، حتى لا تبدو تلك المؤسسات الفكرية الكبرى كأنها بقايا تاريخية محنطة ليس لها قيمة كبيرة ولا مكانة فريدة، كما أنني أتطلع إلى ربط تلك المؤسسات الثقافية الكبرى بالجامعات ومراكز البحث العلمي الأدبية والعلمية.
الثانية: إن الدول تفاخر بما تملك من مقومات ثقافية ومنارات علمية، ولذلك فإنه من غير المقبول أو المعقول أن تمر جريمة حرق «المجمع العلمي المصري» بلا عقاب رادع، دون انتباه شديد ويقظة دائمة! حتى لا يتكرر ذلك الحادث المأساوي الذي يقترن في ذهني بـ«حريق الأوبرا المصرية» عام 1971.
الثالثة: إنني أهيب برجال الأعمال، وفيهم مفكرون ومثقفون أن يتبنوا بقوة دعم المنارات الثقافية والمؤسسات الفكرية في البلاد، لأنها في مجملها قاطرة تشد المجتمع إلى الأمام فضلاً عن أنها «جسور حربة» نحو المستقبل ومراكز لتفريخ العلماء وإنتاج المفكرين والدفع بقادة الاستنارة، في ظل ظروف صعبة، وتحديات عاتية، ومشكلات لا تنتهي.
تحية لـ«المجمع العلمي المصري» والقائمين عليه، ودعوة مخلصة للارتفاع به والارتقاء بشأنه حتى نكون محلا للاحترام، ومركزاً للاهتمام، ومصدراً للتنوير.
* المصري اليوم.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *