ماركوس أوريليوس.. إمبراطور بدرجة مفكر




د . يسري عبد الغني عبد الله

خاص ( ثقافات )

ماركوس أوريليوس ، كان مولده في روما عام 121 م ، وتوفي والده وهو صبي صغير ، فكفلته أمه ، وقام على تربيته خيرة الأساتذة على أيامه ، ولقد أثنى ماركوس أوريليوس في خواطره على جميع الذين اشتركوا من قريب أو من بعيد في تربيته وتعليمه ، تعلم في صباه البلاغة ، والآداب ، والرياضيات ، والفلسفة ، وتبناه الإمبراطور أنطونينوس بأمر الإمبراطور إدريانوس عام 138 م ، فأصبح ماركوس أوريليوس من أمراء الرومان ، ولما مات الإمبراطور أنطونينيوس عام 161 م ، أصبح ماركوس أوريليوس إمبراطورًا على البلاد الرومانية ، وله من العمر أربعون سنة .
وكانت أيام حكم الإمبراطور ماركوس أوريليوس مملوءة بالقلاقل والفتن والاضطرابات ، إذ كانت الدولة الرومانية نفسها مهددة بالغزو ، فاضطر الإمبراطور الفيلسوف إلى تعبئة الجيوش ، وإعداد عدة الحرب ، وقام بنفسه على رأس الجيش الروماني الذي توجه لصد هجمات البرابرة الذين قدموا من جهة نهر الدانوب ، واضطر أيضًا إلى أن يبيع ما كان يملك من حلي وجواهر ، ليدفع من ثمنها أجور الجنود ، حتى لا يضطر إلى فرض ضرائب جديدة على الشعب الذي كان يعاني العديد من الصعوبات في يومه المعاش .
ماركوس أوريليوس قضى منذ ذلك الحين حياته كلها في جهة نهر الدانوب ، على مقربة من فينا النمساوية ، ولم يكن الرجل محبًا على الإطلاق للحرب الذي يعلم جيدًا أنها شؤم وخراب ما بعده خراب ، ولكنه اضطر إلى خوض عمارها ، ونراه في كتاب (الخواطر) يخلو إلى ضميره ويحاسب نفسه ، فيبدو له أن كل شيء باطل لا قيمة له ، وأن الحروب التي استبسل فيها قليلة الجدوى والنفع ، قال : ” العنكبوت فخور حين يأخذ ذبابة ، وهذا الرجل فخور حين يأخذ أرنبًا صغيرًا .. وذاك فخور حين يستولى على بلاد غيره أو يبيع أرضه ، والجميع من حيث المبدأ لصوص … ” .
توفي الإمبراطور الفيلسوف بمرض الطاعون الأسود في فينا عام 180 م ، فكان يوم وفاته ، كما قال الكاتب والمؤرخ / إرنست رينان : يومًا مشئومًا على الفلسفة وعلى المدينة . 
وقد خلف الإمبراطور الفيلسوف مجموعة من التأملات الفلسفية اسماها (خواطر) ، كتبها باللغة اليونانية في ساعات الفراغ التي كان يقتنصها من حياة مليئة بالمشاغل والمتاعب والمخاطر ، ليخلو إلى نفسه فيخاطبها ويحاسبها أشد الحساب ، وتعد هذه الخواطر من روائع الكتب الإنسانية ، التي تستحق أن نتأملها وننهل مما فيها من دروس مستفادة .
وماركوس أوريليوس آخر ممثل للفلسفة الرواقية في العصور القديمة ، ويلقب عادة بلقب (الفيلسوف على العرش ) ، ولقد جعله القدر إمبراطورًا فيلسوفًا ، فلم ينس واجباته كإمبراطور وحاكم ، كما لم تفارقه لحظة واحدة شيمة الفيلسوف .
آثر ماركوس أوريليوس الفلسفة على الخطابة التي كانت شائعة في عصره ومتقدمة بشكل كبير لم يسبق له مثيل في أي عصر ، واختار المذهب الرواقي فاعتنقه بصدق وإخلاص ، ولكن موقفه من الرواقية أدنى إلى موقف القاضي من موقف المحامي ، نراه يرفض الكثير مما اتخذته المدرسة الرواقية من القضايا المسلمة ، ومن أجل ذلك نجده قد طرح شطرًا كبيرًا من تفاصيل المذهب الرواقي ، فأغفل منه دراسة المنطق والطبيعيات الرواقية ، بل وشكر الله إذ أعانه على ذلك الخير .
ولعل في ذلك الموقف عوضًا ومغنمًا ، فإن ماركوس أوريليوس استطاع بهذا أن يبرز من تلك الفلسفة بعض خصائصها التي استجابت لها قلوب الناس في زمانه ، والتي أصبحت بهذه المثابة آخر رسالة بعث بها العالم القديم إلى الأجيال المقبلة .
ولم يكن الإمبراطور الفيلسوف في رواقيته متشددًا ولا جافيًا ، بل كان في مذهبه لين ويسر وإنسانية ، وفي الواقع أن كل ذلك خصائص مهمة ومطلوبة لم تعرفها الرواقية القديمة ، وكان الرجل يتحاشى قدر الطاقة والإمكان ذكر الاصطلاحات الرواقية البحتة المعقدة ، فكان قوله أيسر على السمع ، وفكره أجرى إلى القلوب المتعطشة إلى كلمة مفيدة نافعة .
قد تسفر الحياة عن وجه عبوس مكفهر ، وطبيعي عند ذلك أن يلتمس المرء ملجأ ومقامًا وادعًا ، ولكن أين يجد المرء هذا الملجأ الأمين ؟ ، يجده في النفس ولا شيء غير النفس ، يقول ماركوس أوريليوس : إنهم يبحثون عن أماكن العزلة ، ويفتشون عن الريف ، ويرتادون الجبال وشواطئ البحار .. ولكنهم في هذا كله يجاوزون الصواب : ” إذا شئت أن تجد مكانًا منيعًا فاطلبه في نفسك التي بين جنبيك ، فليس في العالم موضع أهدأ ولا أبعد عن السآمة مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه ..” ، ويقول أيضًا : ” لتعلم أن نفسك منبع الخيرات جميعًا : هي منبع لا ينضب على شرط أن تزيده كل يوم تعميقًا ” .
يقول الملك الإمبراطور الفيلسوف : لا يغيبن عنكم أن الناس جميعًا متساوون ، وأن لهم من العقل أنصبة متساوية ، وهم من أجل هذا يحبون الاجتماع ، ذلك أن الموجودات كلما ارتفعت في المنزلة ، زاد ائتلافها وانجذابها بعضها إلى بعض .
ويؤكد لنا على أن الواجب على الناس بحسب قانون الطبيعة أن يتحابوا ، وأن يتواصلوا ، وهم مندوبون إلى أن يتعاونوا أوثق تعاون في سبيل العمل الجاد الشامل والخير العميم للناس أجمعين .
لقد أوصت الرواقية أن يعامل الناس بعضهم بعضا معاملة الإخوان ، إذ الناس على اختلاف ألوانهم وشعوبهم ، تجمعهم وحدة العقل والجوهر .
ولا ينسى الإمبراطور المفكر أن يلفت نظرنا إلى رابطة القربى التي تصل بين كل فرد من أفراد الناس ، وبين الجنس البشري عامة ، وليس يعدل هذه القرابة ، في نظره ، قرابة الدم ولا قرابة المولد ، لأنها قرابة قائمة على شرف الانتساب إلى عقل واحد ، وإذن فواجب التعاون وحُسن المعاملة يقتضي الوئام والاتحاد .
ويذهب إلى أنه لربما امتاز الإنسان بأنه قد يحب حتى من اعتدى عليه أو أساء إليه ، على أن الناس إذا كانوا يأتون الشر ويسيئون إلى غيرهم في حياتهم المعاشة ، فذلك في الحقيقة على الرغم منهم ، ولأنهم يخطئون ، فعلينا أن نعمل بقدر الطاقة والإمكان إلى أن نبين لهم خطأهم ونحتمل مساءتهم .
هذا ما يذهب إليه ماركوس أوريليوس ، وهو فيه على اتفاق مع سقراط ومع الرواقيين الأقدمين ، وعليه يرى الإمبراطور المفكر أنه إذا أخطأ إنسان في حقنا فينبغي علينا أن نلتمس له المعذرة ، وأن نكون به من المترفقين ، فالرفق فعال قوي الأثر في النفوس ، على شرط أن يكون بريئًا لا يشوبه عبوس ولا نفاق .. ، فإذا أخطأ مخطئ ، فاقبل عليه بنفس راضية ، وتحدث إليه في رفق ومودة ، من غير إعنات ، ولا لوم ، ولا ضغن ، ولا استهزاء .
ويطلب منا أن لا نكلم من أخطأ في حقنا أو أساء إلينا ، لا نكلمه كما نكلم تلميذًا في المدرسة ، ولكن لكي تشرئب أعناق الحاضرين إعجابًا بك ، بل تحدث إليه وكأنه وحده من غير شهود … 
حقًا هذا الإمبراطور المفكر الفيلسوف يستحق منا أن نعرفه وأن نتأمل أفكاره ، لعلنا نستفيد منها ، ونفيد الآخرين إذا استطعنا إلى ذلك سبيلا .
_______
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *