ماركوس أورتس‮..‬ ‬كتابة تنفذ مباشرة تحت الجلد


* ‬حسن الحديدى

رجل يستعين علي حياته بالحَفر؛ لا شيء سوي أن يحفر،‮ ‬وورثة بجانب الفقيد يتناقشون‮: ‬بأي ترتيب سنمشي خلف النعش،‮ ‬أو بالأدق‮: “‬مَن سيمشي أين‮.. ‬خلف النعش؟‮” ‬وقطيع من الخنازير يعلن تمرده ويثور،‮ ‬وموسيقي تحاكي حياة البشر كمرآة صوتية‮ …‬

حكايات‮ ‬غير مألوفة؛ يغازل كاتبها توقعات القارئ‮ (‬يخالفها في أغلب الأحوال‮)‬،‮ ‬لكنه قادر علي إقناعه عبر قدرات لغوية وطاقات تعبيرية موحية،‮ ‬وصور يمكنها بنجاح أن تنفذ تحت الجلد‮. ‬يتمهل ماركوس أورتس‮ (‬45‮ ‬عاماً‮) ‬طويلاً‮ ‬لكي يدس إصبعه في داخل الجرح،‮ ‬بل وربما ذرَّ‮ ‬في الجرح بعض الملح أيضاً،‮ ‬مما يجعل قصصه حادة ولاذعة،‮ ‬مكثَّفة وعبقرية‮.‬
ماركوس أورتس‮ (‬فيرزِن‮/ ‬دسلدورف‮- ‬1969‮) ‬درس الفلسفة واللغات الرومانية القديمة،‮ ‬واللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة فرايبورج،‮ ‬وعمل بين عامي‮ ‬1991‮/‬1992‮ ‬كمدرس للغة الألمانية في باريس،‮ ‬ثم عاد ليعمل كمدرس للغتين الإنجليزية والفرنسية ببعض المدارس الألمانية‮. ‬وقبل عامين من النجاح الكبير لروايته‮ “‬حجرة المدرسين‮” ‬كان قد تفرغ‮ ‬نهائياً‮ ‬للكتابة السردية‮. ‬وعلي مدار‮ ‬15‮ ‬عاماً‮ ‬نشر‮ ‬أربع مجموعات قصصية بدأها بنشر‮ “‬رمل للكتابة‮” ‬عام‮ ‬1999،‮ ‬بجانب‮ ‬8‮ ‬روايات حقق معظمها نجاحاً‮ ‬كبيراً،‮ ‬وتُرجمت أعماله حتي الآن إلي‮ ‬18‮ ‬لغة ليست العربية من بينها‮. ‬وبصفة دورية يقوم أورتس بتنظيم ورش للكتابة الإبداعية بالأكاديمية الاتحادية للتأهيل الحضاري‮. ‬
‮ ‬نال أورتس العديد من الجوائز والتكريمات من بينها‮ ‬open mike‮ ‬عام‮ ‬2000‮ ‬في المسابقة السنوية التي تنظمها ورشة برلين الأدبية،‮ ‬كما نال في‮ ‬2008‮ ‬إحدي جوائز مسابقة إنجبورج باخمان السنوية،‮ ‬وتعد هاتان من أهم المسابقات الأدبية التي تمنح جوائزها لشباب الكُتاب في محيط الأدب المكتوب بالألمانية‮.‬
بروايته الثانية‮ “‬حجرة المدرسين‮”‬،‮ ‬والتي تعد من أعظم الأعمال الروائية الساخرة،‮ ‬أوجد أورتس لنفسه مكاناً‮ ‬علي خارطة الأدب الألماني،‮ ‬بسخرية لاذعة ومضحكة في الوقت نفسه يُعرِّي نظام العمل بالمؤسسات التعليمية وبخاصة المدارس الثانوية،‮ ‬حتي يتعرف القارئ آليات العمل بها ويستخلصها بنفسه من بين الضحكات المتعاقبة‮. ‬ففي أول يوم له بعمله الجديد الذي حصل عليه أخيراً،‮ ‬يتعرف المعلم‮ “‬كرانيش‮” ‬في حجرة مدير المدرسة علي الأركان الأربعة التي يرتكز عليها نظام العمل بالمدرسة‮: ‬الخوف،‮ ‬والألم،‮ ‬والمَظهَر،‮ ‬والكذب‮. ‬االكذب،‮ ‬هكذا استهل المدير تعقيبه بشكل مباشر،‮ ‬مستطرداً‮ ‬أن عليَّ‮ ‬أن أعي جيداً‮ ‬أن الكذب هو إكسير الحياة بالنسبة للمدرسة،‮ ‬فكلهم في المدرسة يكذبون وهو،‮ ‬المدير،‮ ‬أولهم جميعاً‮.« ‬ورغم أن السرد في الرواية يمضي بضمير المتكلم إلا أن القارئ لا يكاد يتعرف علي السارد بصورة جيدة،‮ ‬وفي الغالب يعتمد السارد علي الحوار‮ ‬غير المباشر الذي يرتفع بمستوي السخرية في كثير من المواقف‮.‬
يتكئ الكاتب علي خبرته السابقة في العمل كمدرس ليقدم لنا بأسلوبه الساخر بعض المفارقات الغريبة والمضحكة من واقع العملية التعليمية مستغلا في ذلك قدراته اللغوية واللعب علي الألفاظ المترادفة،‮ ‬وقد كان لدراسته وتدريسه للغات الأجنبية دور ملموس في تنمية وعيه بالفروق الدقيقة بين الألفاظ التي قد تبدو مترادفة،‮ ‬مما جعله يزن الكلمات بميزان من ذهب ويختار ألفاظه بدقة فائقة‮.‬
في رواية‮ “‬فتاة الغُرَف‮” ‬يرسم لنا أورتس لوحة مكثفة لحياة فتاة عنيدة تعمل بخدمة الغرف بأحد الفنادق‮. ‬قصة الفتاة‮ (‬لين‮) ‬المهووسة بالبحث،‮ ‬والتي تريد أن تعرف كيف ينجح كل هؤلاء الناس فيما يشق عليها هي أن تنجح فيه‮: ‬الحياة‮.‬
يستخرج ماركوس أورتس حكايته من رأس الفتاة‮ (‬لين‮) ‬ليتركنا نسمع بأذنيها ونبصر بعينيها،‮ ‬لتصبح المساحات الضيقة المتربة تحت السرير بإحدي الغرف،‮ ‬فراديس من الحس والإدراك‮. ‬مساحات من الخيال‮ ‬غير المحدود،‮ ‬كل شيء فيها قابل للتصور‮. ‬وفي ذلك تبقي‮ (‬لين‮) ‬ظلاً‮ ‬يعكس قلق القارئ ومخاوفه‮. ‬يُبقيها أورتس علي هذه الحالة من الريبة وعدم اليقين‮. ‬وفي هذا العمل‮ ‬كما في بعض من أعمال أورتس الأخري‮ ‬يتراءي لك بين الحين والحين شبح كافكا،‮ ‬إذ يقدم لنا في هذا العمل قصة محمَّلة بالانفعالات تتأرجح تفاصيلها بين الواقع والحلم/الكابوس‮. ‬والجرح الذي تضع الرواية إصبعاً‮ ‬عليه،‮ ‬يتعلق بقطاع تقديم الخدمات التي من شأنها أن تسهل علينا أمور حياتنا،‮ ‬إذ أننا نكون في بؤرة سمع وبصر هؤلاء الذين يساعدوننا ويقدمون لنا الخدمات،‮ ‬غير أننا مضطرون لأن ننسي عيونهم وآذانهم المتربصة بنا حتي يمكننا أن ننعم بالراحة مدفوعة الثمن‮.‬
جرب أورتس الكتابة بأشكال متعددة وتنوعت أجواء قصصه كما تنوعت رواياته،‮ ‬فكتب الرواية الساخرة،‮ ‬والتاريخية،‮ ‬والنفسية،‮ ‬كما تجمع روايته الأخيرة الصادرة هذا العام‮ “‬ألفا أوميجا،‮ ‬أبوكاليبس للمبتدئين‮” ‬بين الكابوسية والخيال العلمي‮.‬
وعن بداية علاقته بالكتابة يقول أورتس‮: ‬أكتب منذ استطاعت يدي الإمساك بقلم،‮ ‬أي مذ كنت في السادسة‮. ‬كان أبي قدوتي،‮ ‬فقد كان يكتب قصصاً‮ ‬دينية ينشرها في الصحف الكنسية،‮ ‬وقد سرتُ‮ ‬علي دربه‮. ‬وفي الصف الخامس كانت معلمة اللغة الألمانية هي الحافز،‮ ‬إذ كانت تطلب منا دوماً‮ ‬أن نكتب قصصاً‮ ‬خاصة بنا،‮ ‬واقتديت في ذلك بمجموعة من الكتاب يمثلون لي القدوة والمثل الأعلي‮: ‬فيليب روث،‮ ‬فيودور دستويفسكي،‮ ‬فرانتس كافكا،‮ ‬توماس برنهارد ذ فتعلمت الكتابة بالقراءة‮. ‬وفي التاسعة عشرة من عمري بدأت أكتب نصوص روايات أحاكي فيها بعض الكتاب الكبار‮. ‬وبعد خمسة وعشرين نصاً‮ ‬رأيت أنه لابد من البحث عن صوتي الخاص‮. ‬فقط بعد النص السابع والعشرين واتتني الجرأة وبدأت أرسل بعض كتاباتي للمجلات الأدبية‮. ‬وبعد ذلك تغيرت الأمور كثيراً‮ ‬علي مدار أكثر من خمس عشرة سنة‮. ‬بطبيعة الحال اكتسب المرء بعض الثقة وشيئاً‮ ‬من التمكن،‮ ‬لكن ذلك في أمور معينة‮: ‬فمثلاً‮ ‬حين أكتب بعض النصوص للإذاعة،‮ ‬فإني أكتبها بسرعة نسبياً،‮ ‬لأن الكتابة لم تعد تمثل لي عناء‮. ‬أما النص الأدبي فهو علي العكس من ذلك يمثل في كل مرة بداية جديدة‮. ‬وهنا يصعب علي المرء أن يقول‮: ‬ها أنت الآن قد تعلمت،‮ ‬فدع الأمور تمضي‮.‬
________
*أخبار الأدب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *