صدمة القذيفة والإبداع



د. لورا ك. كير/ ترجمة: آماليا داود


خاص ( ثقافات )

في نهاية القرن الماضي اهتمت العديد من الدراسات بالصدمة وأثرها النفسي، وقام أوبنهايم عام 1889 بإنشاء مصطلح ” الصدمة العصبية “، وبعدها درس العديد من الأطباء النفسيين هذه ” الاضطرابات العصبية “، وقد شكك فرويد أن للصدمة دوراً في نشأة الاضطرابات النفسية، وخلال الحربين العالميتين الأولى والثانية تم دراسة تلك الحالة على الجيش ” صراح الخنادق ” و” صدمة القذيفة ” و” الحرب العصبية”، وبتأثير من جماعات الضغط النسائية ودعاة السلام اعترفت الولايات المتحدة بالآثار السلبية للصدمات، بسبب تأثيره الكبير على المحاربين القدامى في فيتنام، وبسبب مقالة بيرجيس عن ” صدمة الاغتصاب”، مما أدى إلى وصف شامل للاضطراب الذي سمي أخيراً اضطراب ما بعد الصدمة. 

وفي دراسة عام 2011 للدكتور روبرت ميلر ودايفيد جونسون، أنه يوجد رابط بين اضطراب ما بعد الصدمة والإبداع، وقد كشفت الدراسات أن اضطراب ما بعد الصدمة يرتبط مع قدرة كبيرة على التخيل الرمزي، وهو أمر ضروري للفنانين وللمحاولات العلمية. وقارنت الدراسة بين المحاربين القدامى وأناس آخرين يفتقرون إلى تجربة الحرب، في البداية اعتقد الدكتور ميلر وجونسون أن أبحاثهم سيكون من شأنها أن تظهر أن اضطراب ما بعد الصدمة يفقد كفاءة الفرد التلاعب بالصور الرمزية لكن مع ذلك، عندما طلبَ من المشاركين وصف وتمثيل مشهد خيالي:

” مجموعة المصابين باضطراب ما بعد الصدمة مقارنة بغير المصابين كانوا أكثر قدرة على وصف الحدود بين الواقع ولعب الأدوار، أن يندمجوا مع أدوارهم، وتمثيل أدوار شخصيات محددة متناسقة مع بعضها، وإنتاج مشاهد معقدة تفاعلية ضمن قصة متماسكة، بينما المجموعة ” الطبيعية ” مثلوا مشاهد ضعيفة الخيال نمطية وضيقة، بالرغم من مستواهم التعليمي العالي وخبرتهم في أداء الأدوار.”* 

ونأخذ بعين الاعتبار أن اضطراب ما بعد الصدمة يتم تشخصيه عندما يرى الشخص ذكريات من الماضي وكوابيس وتخيلات مزعجة، وكلها صور رمزية للحدث الفعلي، ونتائج هذه الدراسات تدعم تجربة الاضطراب: لأنه يزيد من الاحتمال النفسي للإنتاج والتفاعل مع الصور الرمزية، ومع ذلك لماذا يحدث هذا مع تلك الحالة؟ لماذا ينتج العقل مادة رمزية وتخيلية كرد على التجارب المؤلمة؟ وكيف تزيد التجارب المؤلمة قدرة الشخص على ” اللعب ” مع الصور الرمزية؟ 

وصف سيجموند فرويد الصدمة على أنها حاجز الاستجابة للتحفيز الطبيعي الذي يحمي من المحفزات البيئية الساحقة، ومن المرجح أن الشخص شهد حدثاً ساحقاً عندما يتجاوز هذا الحدث القدرة الطبيعية للشخص لمعالجة المحفزات الواردة (على سبيل المثال: الحرب أو الاعتداء الجنسي)، أو عندما يكون الحدث غير متوقع ولا يوجد الوقت لإقامة دفاعات بديلة (على سبيل المثال: حادث سيارة أو الكوارث الطبيعية) أو حادثة مزمنة تمنع الحماية الذاتية الصحية (على سبيل لمثال: تكرار الإساءة في مرحلة الطفولة أو الإهمال). 

عندما نتعرض للتهديد تتفاعل دفاعات الجسم الغريزية، معتمدة على الظروف والشخص نفسه، يصبح الدماغ مستعداً للمعركة والهروب أو تجميد الاستجابة. يزداد التنشيط في منطقة الدماغ الحوفي وجذع الدماغ، جنباً إلى جنب مع تثبيط النشاط من الفص الجبهي، مما يقلل قدرة الفرد على التفكير، وتصبح منظومة الجسم كلها مهيأة للرد السريع للبقاء على قيد الحياة. والتفكير في الصدمة يؤدي إلى بطء زمن الاستجابة، والناجي من الصدمة يكون غير قادر على تشكيل سرد متماسك لما حدث. 
والتجربة الساحقة _ سواءً كانت على شكل أفكار أو مشاعر أو صور أو أحاسيس الجسد تُسجل ولو بشكل لا واع، وهذه الذكريات المؤرقة للصدمة تفتقر إلى الاندماج مع السيرة الذاتية، والذكريات تتشكل عندما لا يتعرض الإنسان للخطر أو الإرباك. وذكريات الصدمة تنفصل عن الإدراك الواعي، والتي يمكن أن تعيد إطلاقها المنبهات في البيئة التي تُذكر بالصدمة الأصلية. 

التجارب المؤلمة يمكن أن تطارد الناجي بعد فترة طويلة من توقف التهديد، من خلال ذكريات الماضي والأوهام والكوابيس، وهذه الصور الفضولية النفسية تبحث باستمرار عن الأجزاء التي انشقت عن الذات. 
وتكون النتيجة بالنسبة للناجين من الصدمة زيادة الميل إلى ” اللعب ” مع التخيلات الرمزية، مما يؤدي إلى زيادة خفة الحركة مع المواد المتخيلة، ومن هنا زيادة التعبير الإبداعي. 

والاعتماد على الآخرين لديه القدرة على مساعدة الشخص على التماسك في وجه الأحداث المؤلمة ويمكن أن يكون حاسماً في التغلب على أثر الصدمة، التواصل مع الآخرين والإحساس بالدعم يقلص الشعور بالتهديد، ويمكن إعادة تأسيس الحدود الصحية. الصدمة بطبيعتها تعزل الفرد من الشعور الشامل بالذات ومن الإحساس بالأمان في المجتمع، وهي ردة فعل مشتركة لضمان الحدود، والعلاج من الأزمة يتضمن جوانب استعادة الذات التي فقدت فضلاً عن كسب العلاقات مع الآخرين، وقد يكون التخيل الرمزي جسراً لكليهما. 

التخيل الرمزي ضروري بشكل خاص لاستعادة القدرة على التعبير عن المشاعر التي يتم تجنبها بعد التعرض للصدمة، لأن تلك المشاعر يتم تجنبها نظراً لقدرتها على تفعيل ما بعد الصدمة. وجود مجموعة دعم عاطفية مهم للوعي الذاتي والعلاقات مع الآخرين، وبدلاً من أن يتأثر الإحساس بالذات بأفكار ذاتية المرجع، يتأثر بما سماه الطبيب النفسي جوناثان تورنر ” الشعور بالذات ” وهي عملية مستمرة تربط الأفكار بالمشاعر، بالتالي يتم وصف الخبرات والعلاقات بإثارة الاشمئزاز أو أكثر جاذبية. وبربط المشاعر مع الأفكار، الشعور الذاتي يُكتسب عن طريق الذوق والجاذبية والراحة والقيم وما شابه ذلك، والانفصال العاطفي عن التجارب يساهم في الشعور بعدم المعني وتدني احترام الذات، وهذا أمر شائع للأشخاص الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، وبدون الشعور بالإحساس بالذات فمن الصعب تأسيس شعور بالإحساس بالآخرين. 

على الرغم من أن العودة إلى التواصل الاجتماعي أساس الشفاء من الاضطراب، يمكن للتجارب المؤلمة أن تجعل الشخص يرفض الاتصال الاجتماعي. وهذا موقف دفاعي يعكس ردود فعل دفاعية عند الناجي من الصدمة، تجاه الانقسام في محتويات النفس، وهذا الموقف يجب احترامه، كما ذكرنا، أن تجارب الصدمات تكون عندما يهدد الشخص بالسحق، وتجاهل ذكريات الصدمة هي استراتيجية صحية إلى أن يحس الشخص بأنه أصبح آمناً بما فيه الكفاية لإدارك المسببات التي فصلته عن نفسه والآخرين. 

قد يكون التخيل الرمزي المادي فرصة لـ”اللعب” مع الأجزاء التي انشقت عن الذات، ويمكن رؤية الفن الناتج بعد التجارب المؤلمة بأنه محاولة للحوار مع مناطق معزولة من الذات، وكذلك للتواصل مع الآخرين بتلك الطريقة، من خلال الخيال يقترب الناجي من المناطق المعزولة في نفسه، من خلال ” اللعب ” بما كان سابقاً يهدد حياة الشخص دون المخاطرة بأن يصبح عاجزاً مرة أخرى، من خلال التخيل الرمزي يتم الكشف عن العواطف بدون تهديد، نبرة الشعور بالذات تعاود الظهور. 

المصدر: laurakkerr.com

*الدراسة: (ميلر ر.ج وجونسون د.ر (2011). القدرة على الرمزية في اضطراب ما بعد الصدمة. الصدمة النفسية: نظرية البحوث والممارسة وخطة العمل). 


شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *