أحمد المديني
أتساءل كيف نسيت الأوساط الأدبية العربية أن تحتفل وتتوقف عند الذكرى المئوية لميلاد الرواية العربية، المتوافق عليها بسنة 1914، بالاحتفاء، أقلّه التنويه والتنبيه، خاصة مع السيل العرم مما يصدر في السنوات الأخيرة من روايات أو مؤلفات سردية منسوبة إلى جنسها، حقاً أو عُسفا، أو ما شئتم، المهم أن دور النشر تروّج لها بوصفها واعتبارها ذلك.
أياً كانت الآراء والاجتهادات، من عديد أقطار ودارسين، حول الأعمال المقترحة والمعينة بداية للنص الروائي في الأدب العربي الحديث، أو إرهاصاً به، من قبيل «غابة الحق» (1865) لفرنسيس فتح الله مرّاش (1836ـ 1836) فإن الجمهور (بالمعنى القديم) أجمع على رواية «زينب مناظر وأخلاق ريفية» لمحمد حسين هيكل، مثَّلَ متنَ التأسيس والريادة لهذا الفن في أدبنا، انطلاقاً منه يمكن التأريخ للرواية العربية نشأةً وتكويناً وتطوراً، ومدارسَ وتيارات، إلى ما انتهت إليه في الزمن الحاضر.
أعود وأقول متسائلاً كيف، ولماذا غفلت الأوساط الأدبية العربية وفاتها أن الرواية العربية سلخت قرناً من عمرها، وراكمت عشرات، لم لا؟ مئات العناوين، موزعةً ومتقاسمةً بتفاوت بين البلدان العربية جميعها، حسب مستوى نضج وقيمة واستهلاك المنتج الأدبي في كل بلد على حدة. حدث هذا، بينما لم نعد نلاحقُ عديد ما تفرغه المطابع من كتب في الأسواق تحمل أغلتها صنف (رواية)، ولا عدد من يصطف في فِرق ومِلل ونِحل هذه الكتابة مثل من انفصلوا عن حرفتهم أو هوايتهم الأصلية والتحقوا للانضمام إلى سلكها، مستعدين، أو مغامرين، مجازفين، وحتى عابثين وعابثات، كأنما لا كتابة، ولا أقول لا أدب، غير هذا النوع، ومن لم يغمس فيه يراعَه، وتبْرع في مرآته موهبتُه، ما عُدَّ ناثرا، كيف شاعرا، إلى حد أن الشعراء أنفسهم ينعون قولهم، طاله البوار من شدة تكالب أي عابر قلم وكلام عليه!
هو قرنٌ انصرم على شروع القلم العربي في نسج الكتابة السردية حسب مقتضياتها وفنيتها المجسدة والمسننة في الآداب الحديثة، الغربية منها على الخصوص، إمّا كما اطلع عليها بعض آبائنا وأجدادنا في مضانها الأصلية، أو منقولة في ترجمات تبلورت بين مراتب الاقتباس والحِرفية والإجادة، مما انعكس على التمارين القصصية التي جاءت محاكية لها، ولاحقا متتلمذة على أصولها، وتدريجيا نحو نصوص طمحت إلى إنشاء فنّيْ القصة القصيرة والرواية في أدبنا، ليسا من موروثه بكل ما فيه من رصيد حكائي وخبَري، ومبناهما شأن روح منبتهما ودواعي الظهور مقترنةٌ بأسباب نشأة المدنيّة الحديثة، ومفهوم الأدب في ثقافتها، كتعبير حديث ذي خصوصية، بأجناس ومنطق وحاجات وظروف وحوافزَ ومتلقين بكيفية مغايرة لتسميته السابقة، والهياكل الثقافية والموضوعية الكبرى التي أنجبته.
أجل، لقد كُتب كثير في تأريخ الرواية العربية، في المراحل المختلفة التي درَجت فيها، وتميزت بين بيئة أدبية وأخري. نتوفر على خزانات، سواء منظمة، أو مبعثرة، في كل بلد عربي، للمدوّنة الروائية المكتملة، مع وفرة من الدراسات والأطاريح في الجامعات، والمقالات النقدية والتعليقات في المجلات والصحف، قليلٌ منها منهجيٌّ ومعقول، وأغلبها مُهوّل، مضمونيٌّ وتاريخي النزعة، مُغلِّبٌ للهوى مُؤولٌ للغرض، على حساب الشكل والتأصيل الفنيين، ليسا مطلبا عزيزا. وإذا كانت هذه الخزانة مفيدة، هي وحصيلة الآراء والتقويم الذي شمل السرد التخييلي، ابتداءً من الوصف، والشرح، ثم التعليق، وانتقالا إلى التحليل للمعني والشكل وفق أطر نظرية وإيديولوجية وشكلانية، أيضاً إلى حد ما، موزعة بين أبحاث (بانورامية) وقلة محدودة جداً على أساس نصوص مفردة، وفي مونوغرافيات معينة ومعتمدة؛ فإنها تفتقر إلى قراءة للرواية العربية في صورة وبمنهج الدراسة الهيكلية، بالأعمدة البانية لها، والمفاهيم المستمدة من تاريخ الأفكار وروح الأشكال، التي توجد في جذور نشأة هذا الجنس الأدبي وتحوله إلى أقوي وأبلغ تعبير بين فنون القول الحديثة والمعاصرة، لكي نعرف هويتها، وأنساقها، ونظامها/ أنظمتها، وهي ترتسم في خطاطات وشبكةً واضحة وجوهها من حيث هي فن، بالمقتضيات القرينة به والمخصوصة له تصوغ دوالها (لنقل الكلمات والموسيقي والصورة والعلاقات..)، ولتتعيّن، تُنضدُ الدلالات المجرِّدة للمعني، زُبدة العوالم والمصائر والمحكيات بالصراع الدرامي الناشب دوما بين الذوات ومعضلات الوجود، كما تخوض فيها أقوي وأنضج الروايات، هي دلالات أكبر وأغني من شواغل مضمون تلهث القراءة السهلة وراءه لا سيما مع ضحالته مبذولا في كتابات مسطحة، بمدلولات واستطرادات جاهزة سلفا، لا مستنبتة من وبطرز الأدب.
أحسب أن الأمر لا يخص الرواية وحدها، بل الأدب، بمفهومه الحديث كله، كما انتقل إلينا، وكما نسجناه وأنتجناه نواصل بوعي أو عناد أعمي يتعلق بسؤال ما الأدب؟ ولماذا هذا التعبير بالذات؟ أعتبر أن التطرق للموضوع من هذا المنظور يحتاج إلى مجتمعات تصل فيها الإنتاجات الرمزية أولا إلى درجة من الاعتراف والاستهلاك كبيرة، وإلي مرتبة سامية كمظهر ودليل رُقيٍّ كلي، باختصار حيث الأدبُ يقع في صلب المرجعية الثقافية والهوية الوطنية والحضارية، لا وشْيا فقط، أو يصنِّف موقف الكاتب فيه (مضمون عمله) وفق درجة ومسألة التزامه تجاه قضايا مجتمعه (كذا) أو كتابتُه تأتي سندا وترويجا لخطاب إيديولوجي بعينه، مما هو بالحتم من مداميك الرواية، وهي تعيد رسم الحياة كما اقتضي التحول الاجتماعي والاقتصادي، وأفرز نماذج عيش وشعور وبحث من طينة عصر جديد، تطلب قولا، جنسا أدبيا، قالبا فنيا، يستوعب إشكالياته ومعضلات بشريته، يكون ملائما لزمنه. أحسب أن هذا معني «زمن الرواية»، بما يستدعي طرح السؤال هل توفر لدينا بما يكفي من الجدارة التي ترتبط بالشروط الصحيحة لبناء الدولة الوطنية في تعالق مع الاستتباب الراسخ للمدنيّة الحديثة، حيث شروط المواطنة قائمة وكيان الفرد مضمون ومنفتح على مصيره.
ما يقودني إلى سؤال أدقّ، هو عندي بيت القصيد من وراء هذه المقالة، أستنتجه من محتوي سابقه، ويخيّل إلى أنه من وراء سوء الفهم الكبير، إن لم أقل من باب المفارقة، إنه مصدر أكثر من التباس حول فهمنا للرواية، العربية، طبعا، والمراد منها، ثانيا، من جهة الكتاب، أولا، وأولا أيضاً من جهة المتلقين، فعموم القراء الذين قد ينشغلون بالحكاية أكثر. سؤالي: ألم تنشغل جلّ المؤلفات السردية، منذ (زينب) وإلي آخر نص سيصدر غدا، لا أجازف بعنوانه (أظن أن السباق على أشده للاصطفاف في ماراثون الجوائز بالدرجة الأولي! ليكن) برصد القطاعات الطولية للمجتمع، ما حبسها في التوصيفات والمشهديات الأفقية، متخللة أحيانا باستبطانات عمودية، وجعل شاغلها القضايا الكبرى، أمس وخلال واليوم دائما، حتى إنك تجد حاليا من يجلس ويخطط وحده كأنه سيؤسس حزبا أو جمعية لرواية عن آثار العولمة في العالم العربي، ولم لا عن الخراب الوشيك الكامل لهذا العالم، ليعتبرها نبوءة إبداعية، واستطرادا، يقول هذه هي الرواية، من غير أن يتساءل عن جوهر الإنسان وأدوات فنه لو عددنا بضاعته فنا. لا بل من غير أن يدرك أن الرواية جاءت للاستجابة إلى حاجة الفرد، والتجاوب مع هواجس الذات، والتعبير عن أزماته في زمن التحول والانقلاب الصناعي الرأسمالي، على حطام قيم سابقة، روحية ومادية. ومنه ولذلك فشكلها، (تكنيكها) اقتضى التركيب والحبك، لا الثرثرة والإنشائية الرّثة، واستعراض التقارير من أي نوع!
لن آتي بجديد إن قلت بأن الخلل قائم تبعا لهذا في انتفاء الفهم للموضوع، للشيء الروائي، والانصراف بدلا منه إلى الموضوع الجمعي، اجتماعيا كان أو سياسيا أو الغالب طافيا على سطح اليومي ومخيال الناس، أي إلى المبذول، واستعماله مادة خارجية، وليس في تكوين أزمة خصوصية ومعضلة فردية، ذرة واحدة، مفردة لتصبح كلية، منها تنبعث الإشعاعات والارتدادات الواصفة لرؤية الواقع ومرآته، والمتلفظة للخطاب الاجتماعي، بها يتسع وانطلاقا منها يكتسب الشمول. وبالطبع، فإن الانتقال من العام إلى الخاص، من الكلي إلى المفرد، هو عمل الإبداع، وبالنسبة للرواية فمضماره التخييل، أو فهمها بكونها تخييلا، وبالتبعية له نظامه ولغته وأسلوبيته ورؤيته، لينطلق من واقع ما، إنما لا قيمة له أدبيا إن لم ينفرد بخلق (العالم) الذي لن يوجد إلا عنده وفيه، ومثل ذلك بانهماك الكتابة بآلية صناعية محكمة، لَعِبية، مفخّخة بالحيل، ومُطرّزة صادحة بتعدد الألوان والأصوات. الأهم أن يأتي هذا السرد التخييلي بفنية وأسلوب صاحبه، لا بهيئة الوصفات المبذولة، والمعاني القريبة، والصور المنمّطة، والخطابات المسلّعة، لجلب القارئ العابر، وضمان الرواج والكسب العاجل في سوق ما عاد لها، خلا استثناءات نادرة، لا حسيب ولا رقيب. ذا بعض ما تشكو منه الرواية العربية اليوم، ويزداد داؤه استفحالا فيها، كأن لا أحد يريد لها أن تتحرر من يقين القضايا الكبرى، وديكتاتورية الشمول، إلى قلق وحيرة الحيوات والهواجس الصغرى، وبتشغيل حُفور فنية من جنس بحثها، متناغمة مع زمن آخر. حتى الآخر الغربي يريد حبس الرواية العربية في الاستنساخ الواقعي والعجائبي، اسألوا وكلاءه، وينفرد هو بالفن مطلقا.
* جريدة القاهرة.