إيهاب مصطفى.. صك الغفران وحارس المدينة



د. حمدي النورج



خاص ( ثقافات )

لا تغرنك الأقوال الجوفاء فقد تريث قليلا، لتعرف مصوغات التكوين ذهنيا ثم انطلق لتقويم بنية جدلية فاحصة وواعية، هكذا ينطق الخطاب الروائي المطعم بالحوارية المستوية والنقاش المرهف عبر أفق الرواية الممتد زمنيا والمتسع مكانيا باتساع وطن سؤال حائر يتردد ويشاغل ذهنية المتلقي، من له الحق في توزيع صكوك الغفران على مجتمع الحب؟ أليس الحب كافيا لجبر خواطر أهله؟ أليس لنا الحق في أن ندخل ساحته لأننا من أهله؟ أهل حب وقربى.

عبر لغة تراثية منحوتة من صخر الوادي، بريشة أهل الفن العتيق، والطوق القبلي الذاكر، في فضاء القيم، يا عبدالله يا عبدالله، يرن صوت المحبوبة في قلب المحب العاشق للأخت ماتيلدا، التي شاركها سنوات الرضاعة، هذه هي الدائرة الكبرى التي أحكمها الروائي حول متلقيه منذ الوهلة الأولى، ثم هاهو يمارس سلوك الغواية الإبداعية، يشد الخناق ثم يرخيه في بناء سردي مستوٍ، يأبى على التصنيف والانحرافات في عالم السرد وتعدد الأصوات، تتنوع اللقطات والتوازنات والمفارقات كلها في سعي لشحن ذاكرة القراء من خلال تحويل الحكايات القبلية السائرة من ماض إلى حاضر، من بعثرة واقعية مجهولة إلى بعثرة فنية ممزوجة ومنصهرة بعثرة مخيلة لكنها مرمرية وثابتة في شوارع الحياة.

لماذا يكتب هذا الروائي؟
يكتب للحب الذي فرد جواز سفر يعبر به كل أبواب السماء دون عائق، يكتب للوحيد في هذا العالم، يكتب للشقي، للمتعب، للمعذب للمهمش، للمنزوي للمقهور، يكتب للمراوغ، للماهر للمتعلم، يكتب ويتشفع بالحلم رؤية ليزرع ثقافة الحب في مجتمع تضربه تقاليد ممقوت بعضها والبعض الآخر محبوسة بروح التعصب الفج.

هذا الخطاب الذي أوهم صاحبه فلم ينم طوال ليله عندما رأى ستائر الليل المظلمة وهي تنداح رويدا رويدا من وسط ثقوب الصفائح التي تسقف الغرفة، وكأن الصباح طفل تتعثر ولادته، كأن دهرا مضى قبل أن يتخلل الشعاع إليه.

ألا إنه قد ملك اللحظة المسحورة، وأجاد عزفها وقدم خطابا تصالحيا بناءً مثمرا يثمر واقعا إيجابيا ونفوسا حية وحيية.

وأهل الحب تتسع أرواحهم حتى كأنهم يرون الكون كله لهم، وهم منسجمون به فرح بهم.

أنا يا سيدي ابن عالمين، كلاهما لي، فلم يتصاعد غباركم حولي؟ أبي يفتح ذراعيه أنسل من جسدي وأصير أبيض مثلكم، وكان آخر ما رآه وجه ماتيلدا أخته.
في بنية شهودية ومشهدية، وعبر تأملات تجعل المشهد ناطقا، لسيطرة الراوي المشارك وهو يمسك الرولة ويطرح التساؤل الباقي، لماذا نحاسب على أخطاء لم نرتكبها؟ هل إننا تحت قوانين غير مكتوبة يمشى الكل تحت رايتها أم أن السكوت يزحزحنا إلى خانة الجبناء؟

عبر صك الغفران تفاجئك الأسئلة غير التقليدية المحفزة، ومع إتقان كامل لحالة الوعي يتسرب إليك أيضا هاجس الاحتجاج العميق المتمرس على سلوك التعصب كوباء منتشر.

“وقال لي في مرة أتؤمن بوجود الله؟ قلت نعم، قال وما إثباتك على وجود الله؟ قلت أوتدري هذه الرولة التي أمسكها قال نعم، قلت لماذا لا تقع من يدي؟ قال لأنك تمسكها جيدا، فنظرت إليه نظرة ذات مغزى وقلت هكذا السماء.”

الكاتب هنا يحاول تأريخ وجدان محيط جغرافي عبر تقنية شائكة وملغزة، عزف ألحانها أكثر من روائي، بحسب التنوع والتكوين والمصدر الثقافي المؤثر.

نجح الكاتب بحق في مادته التراجيدية التي ختم بها تجربته، وبتوثيق يجعلها كحالة استمرار زماني ومكاني وهي تقنية لا ينحو بها إلا روائي مألوف، يومئ النص أيضا إلى عدد من الأسئلة كما يجيب في الوقت نفسه عن بعضها، مع تنوع الإيماءات والإجابات يبقى الهاجس النفسي للشخصيات، لكن علامة الاستفهام الكبرى داخل النص تبدو مفتوحة بعملقة واقتحام، علامة استفهام تبدأ من رأس الدلتا وصولا إلى النقطة الحائرة فوق السد.

“هذا وقد تغير اسم المدينة من مدينة الكشح إلى دار السلام وهو الاسم الذي كان سجلا لمدينة الكشح قديما مع اسم آخر هو أولاد طوق”.

إذا فالمصير واحد روح مليئة بالسلام يجب أن تهتف في خشوع فنحن حراس المدينة، نهاية لا أحد يملك أن يوزع صكوك الغفران، الله في قلوبنا جميعا.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *