*بسمة النسور
يعتبر التطرق إلى مواضيع حسّاسة، متعلقة باللباس والمظهر، بمثابة عبور منطقة حرجة، بالغة الوعورة، مثيرة للجدل، لارتباطها الوثيق بتفسير تعاليم الدين، وبمنظومة القيم والأعراف والعادات والتقاليد التي تحكم مجتمعاتنا، ولا سيما إذا تعلق الأمر بالمرأة. وقد غزت مواقع التواصل، أخيراً، حكاية رجل سعودي أقدم على تغطية وجه زوجته بكوفيته، لمّا اكتشف، مذعوراً، أن المطعم الذي اختاره لا يخصّص سواتر تخفي وجه زوجته عن الجمهور. وتراوحت ردود الفعل بين اتهامه بالتخلف والإشادة بحميته وشدة غيرته على شرفه المعرّض للاستباحة، إذا ما كشفت المرأة، لا قدر الله، عن وجهها، لكي تتمكّن من تناول طعامها، مثل أي بشر سوي.
وتظل مسألة المظهر، متعلقةً بالحرية الشخصية التي ينبغي صونها واحدةً من حقوق الإنسان. ومن المتفق عليه أن طريقة اللباس عنصر أساسي في الحكم على الشخص. لذلك، نولي اعتناءً مضاعفاً بأناقتنا، حين نذهب إلى مقابلة عملٍ مثلاً، لكي نترك أفضل انطباعٍ ممكن. ومهما حاولنا التقليل من شأن المظاهر، فإنها، شئنا أم أبينا، معيار أساسي يُعتدّ به. وتعكس طريقة اللباس شخصية الإنسان، باعتبارها وسيلةَ تعبيرٍ عن أمزجةٍ وقناعاتٍ دينيةٍ، بل ومواقف سياسية أحياناً. من هنا، أصبحت الكوفية الفلسطينية رمزاً كونياً للرفض والتمرد على الاستبداد، مثل صورة غيفارا على قمصان الشباب، في العالم قبل عقود.
أبدت الثقافة الغربية حياداً وتسامحاً غريباً، في هذا الشأن، وغضّت الطرف عن صرعات الموضة، بالغة التطرف والعنف، من أزياء لا تخلو من شراسة وغرائبية: جنازير ورؤوس حليقة وقصّات شعر طاووسية بألوان عجيبة، ووشوم ذات مضامين عدوانية على الأجساد العارية، وعري فج يخدش الذائقة البصرية، ولم تشرّع قوانين تحدّ من هذه المظاهر المتطرّفة. ومع ذلك، سخّرت هذه الثقافة طاقاتها في مجابهة الحجاب الإسلامي، وأبدت أقصى درجات التشدّد إزاء صاحباته. وقد تعرضت نساءٌ كثيرات، مسلماتٍ يحملن الجنسية الأوروبية، أو الأميركية، لانتهاكٍ صريحٍ لحقوقهن المدنية، جرّاء لباسهن الإسلامي، وتعرّضن لاضطهاد وتمييز وظيفي، وفصل من العمل، ومنع من دخول الجامعات بسبب ارتباط مظهرهن بالفكرة المصنوعة بخبثٍ شديدٍ عن الإرهاب. كل ذلك في ظل ثقافة تدّعي تقديساً لحرية الفرد، واحتراماً لخصوصياته، والتي ذهبت بعيداً في هذا الشأن، فأباحت زواج المثليين، وسنّت قوانين تجيز لهم تبني الأطفال!
وتظل مبرّرات هذا الواقع، على إجحافها، مفهومة، كونها من ملامح ثقافةٍ عنصرية المنهج، استعمارية الجذور. أما ما يثير العجب، فهو التمييز السافر التي تتعرّض له المحجبات في بلادنا. والمعروف أن كفاءاتٍ نسائيةً كثيرة لا تحظى بفرص غير المحجبات نفسها، ولا سيما في القطاع الخاص. وفي المقابل، ومن أجل الموضوعية، لا بد من التطرّق إلى تعرّض غير المحجبات، أيضاً، إلى تمييزٍ واضطهاد كثيريْن من المجتمع. ولا يختلف الأمر في مؤسساتٍ محافظةٍ كثيرةٍ، فتنعدم فرص توظيفهن بسبب مظهرهن، مهما بلغت درجة كفاءتهن، حتى أن قراراً مخالفاً للشرع والمنطق صدر، أخيراً، من محكمةٍ شرعيةٍ أردنيةٍ، برفض شهادة المرأة غير المحجبة، مهما كانت جدّيتها ووقارها واحتشام لباسها واعتدال مظهرها، قياساً إلى مرتدياتٍ صرعات الحجاب “الستايلش” المنتشر في أيامنا، حيث غطاء الرأس فاقع الألوان، والملابس الضيقة، والماكياج الصارخ الذي يبرز مفاتن الوجه. لا تلتفت المحكمة الموقّرة سوى إلى غطاء الرأس الذي بات بمثابة صكّ غفرانٍ مصدّقٍ حسب الأصول، يجعل كلمتها مصدّقة ومحترمة، ويغفر ما تقدّم من ذنبها وما تأخر، في تقزيمٍ سافرٍ لمفهوم الأخلاق والأمانة. وثمّة نقيب سابق لنقابة تقدميةٍ كبرى تعامل مع زميلاته، وفق هذا المنطق، فمارس أشكال تمييزٍ جائرة، طاولت حقوقاً نقابيةً لزميلات مهنة، عقاباً لهن على مظهرهن غير المتفق مع توجهاته الفكرية.
وفي جميع الأحوال، يبقى الاعتدال في المظهر والسلوك الحلّ الأمثل للخروج من مأزق الإدانة الجاهزة، والأحكام الاستباقية المبنية على المظهر، وغير المعنية، لفرط سطحيتها، بالجوهر، وهو ما ينبغي أن يعوّل عليه على الدوام، لأنه خيرٌ وأبقى.
________
*العربي الجديد