القاهرة- عرفت الشهرة طريقها إلى توفيق الحكيم، حين أصدر مسرحيته «أهل الكهف» عام 1923، خصوصاً عندما كتب عنها الشيخ مصطفى عبدالرازق والعقاد والمازني، وقد كتب الأخير: «إن مؤلف أهل الكهف هو نفسه من أهل الكهف»، لأنه لم يكن قد ظهر بعد بشخصه في المجتمع الأدبي، وكان لا يزال يعمل وكيلاً للنيابة العامة بدمنهور، لكن مقال طه حسين عن المسرحية كان ذا أثر كبير، حين أشار إلى أن «أهل الكهف»، تعتبر فتحاً في باب التمثيلية الأدبية.
ظلت رغبة عميد الأدب العربي في كتابة مقدمة للمسرحية تلح عليه، إلى أن سعى الحكيم لإصدار طبعة ثانية منها، وطلب منه العميد بشكل مباشر كتابة مقدمة للعمل، وكان ذلك يمثل فصلاً من فصول سوء التفاهم بينهما، وما أكثرها، فالحكيم لا يحب كتابة المقدمات، وقد كتب ذلك مباشرة: «أما المقدمة فليس عندي ما أقوله سوى ما قلته في القصة، وأما أن يقدم للقصة أحد كبار الأدباء المشهورين في مصر، كما هو المتبع، فهذا ما أمقته، لذلك تجدني مصراً على عدم التمحك في الكتاب المشاهير، لأحظى بمقدمة، لا تظهر إلّا نفاق كاتبها، وجهله بالقصة التي يكتب عنها».
ظل الحكيم ثابتاً على موقفه هذا، ما أغضب عميد الأدب العربي، الذي كتب: «ونتحدث عن «أهل الكهف» وعن طبعة ثانية تذاع بين الناس، فأقترح أن أقدمها إلى الجمهور، ويظهر الأستاذ (الحكيم) وأصدقاؤنا الرضا بذلك والابتهاج له، ثم يلقي الستار ويرفع، وقد تمت الطبعة الثانية من أهل الكهف، وأبطأت أنا بالمقدمة أسبوعاً أو نحو أسبوعين، فينشر الكتاب بغير مقدمة، وبغير أن يتحدث أحد في ذلك، فيسوؤني ذلك بعض الشيء».
لكن كيف بدأت الصداقة بين الكاتبين الكبيرين؟ حاول الكاتب «إبراهيم عبدالعزيز» تقصي هذه العلاقة، في كتابه «أيام العمر» الذي نشر فيه مجموعة من الرسائل المتبادلة بين الحكيم وطه حسين، وسعى إلى ملء الفجوة في علاقة ممتدة بينهما، وصلت إلى أن يكتبا معاً كتاب «القصر المسحور» ويقف «عبدالعزيز» على كثير من التشابكات المصيرية بين الكاتبين، حيث فقد طه حسين بصره على يد «حلاق القرية» وكان الحلاق سبباً في إنقاذ عيني الحكيم، وثار العميد على طريقة تدريس العلوم الجامدة في الأزهر، ورفض الحكيم دراسة دكتوراة القانون، وبينما عاد الأول من باريس بدكتوراة في الأدب، عاد الثاني من هناك بحقائب مملوءة بكتب الفن، وقد فشل في الحصول على الدكتوراة، كان الأول يأخذ نفسه بمشقة التعلم، في حين أن الثاني انصرف عن ذلك إلى متابعة الفنون، حيث كان يسكن في حي مونمارتر، بينما كان العميد يقطن الحي اللاتيني.
قبل أن يسافر الحكيم إلى باريس، تبدأ العلاقة، حيث يقول في «سجن العمر»: «بلغ مسمعي أن شاباً أزهرياً مكفوفاً نابغاً يهاجم بمقالاته العنيفة علماء الأزهر المتجمدين، دون أن يخطر لي على بال أنه بعد نحو عشرة أعوام ستنشأ بيني وبين هذا الأزهري النابغة صداقة، وسنمرح معاً على جبال الألب، ونسجل معاً مرحنا في كتاب» ويأتي رد طه حسين في مقال يعرض فيه ل «سجن العمر»: «وأنا أشكر للكاتب إشارته إليّ وذكره أننا صرنا صديقين، ولكني لا أدري لماذا لم يبين كيف صرنا إلى الصداقة، ومن يدري لعل ذلك لأن طبعه أكبر من موهبته، ومن جهده ومن أمله معاً».
كان طه حسين يشير إلى ما كتبه الحكيم نفسه حين قال إن أمله أكبر من موهبته، وأن موهبته سجينة طبعه، الذي ورث أكثره عن أبويه، ويرد العميد معلقاً على هذا قائلاً: «إن أمل كل كاتب أكبر من جهده، وأن هذه هي مزية الكاتب الجدير بهذه الصفة، كما أنها مزية الشاعر الممتاز والفنان البارع بوجه عام، وويل للأديب الذي يكون أمله على قدر جهده، فهذا الرجل ليس من الأدب الحق في شيء».
كانت العلاقة بينهما مشوبة بالتوتر من وقت لآخر، فقد لمح طه حسين تعالياً من الحكيم، حين كان يتحدث عن نفسه، في أحد المقالات، وحين وجه خطابه إلى العميد قائلًا: «لست في حاجة إلى أحد يخاطبني بلسان التشجيع» حينئذ يبادره العميد: «إن هذه اللهجة لا يملكها غير رئيس الوزراء» ثم يكتب الحكيم: «إن أكبر سلطة في الدولة لا تستطيع أن تفسد الصداقة بيننا» ويكتب: «لا دخل لما بيننا في الرأي والفكر بأي أمور سياسية، ولم يخطر ببالي مطلقاً، حينما لم أدعك تكتب مقدمة أهل الكهف أن ذلك يدخل في باب الخصومة، إنني أكن لك وداً وحباً بالغين».
حين أصدر الحكيم مسرحيته «شهرزاد» كتب العميد إن مؤلفها في حاجة إلى مزيد من القراءة الفلسفية، ما استفز الحكيم الذي كتب خطاباً يقول فيه إنه قرأ في الفلسفة أكثر مما قرأ طه حسين نفسه، وأنه ليس في حاجة إلى نصائحه، لكن رأي العميد أعلنه في جلسة علنية بمجمع اللغة العربية، حين استقبل الحكيم فيه عام 1954 قائلاً: «ومضيت فيما مضيت فيه من كتبك، التي لا أجد وسيلة إلى إحصائها، وأكاد أعتقد أنك لو استأنيت في شيء من الإبطاء، لأعطيتها آيات تشبه في جودتها وقوتها وبراعتها واستعدادها للبقاء، هذين الأثرين: أهل الكهف وعودة الروح».
وإذا كانت «شهرزاد» قد سببت خصومة بين الأديبين الكبيرين، فإنها جمعت بينهما عام 1936 على قمة جبال الألب في باريس، ومن المداعبات بينهما خرج كتاب «القصر المسحور»، حيث تظهر لهما شهرزاد بعد موت «شهريار»، ويحاول كل منهما الفوز بها، بانتقاد الآخر، وفي العام التالي يصدر الكتاب، ويكتب الحكيم مسرحية «شهرزاد»، ويكتب طه حسين «أحلام شهرزاد» إلى أن يشتركا معاً في كتابة «القصر المسحور».
_______
*الخليج الثقافي
_______
*الخليج الثقافي