*عائشة بنّور
خاص ( ثقافات )
بقيت، برهة وأنا واقفة أمام خيمتي القابعة، وسط المخيّم بعين الحلوة، أطّل على المدينة البعيدة (عكا)، تلفني نسمات بحرية بعبق اللوز، تسرق من صمتي مراكب عتيقة وأنفاسا محترقة.
عكـا، مدينة الرمـل الحار ولحظة الولادة، ويافـا لحظة التهجير والوجع، وفي كل مرة فاصل زمن يشدّني إليهما كحبل الوريـد.
كنت غائبة عن الوطن بكل الألم الذي يسكنني، وعند عودتي توقفت مع ذكرياتي وصور حميمية ومؤلمة أسترجعها مع أولئك الذين جمعتني بهم الأقدار، أو رسموا لحياتي معالم وشكلوا من روحي نبض الحياة من جديد.
فكّرت أنه لا شيء يهم، ولكن في الحقيقة أن كل الأشياء بتفاصيلها كانت تهمني، أشياء كثيرة كنت أبحث عنها في ذاكرة تجرني إلى الوراء وتستوطنني حد العجز، وفي كل مرة ألوذ بالصمت بعد رحلة مريرة ومفجعة، وما بقي في جعبة الذاكرة سيرمي بظلاله على حياتي القادمة.
لقد كان عالمنا في مدينة عكا نشطا، وأرضنا تعج بالفوضى، والمرح والطرب، أحيانا وبالهدوء أحيانا أخرى، سماؤنا وبحرنا وسهلنا وبساتيننا كبساتين الجليل لا مثيل لها.
أذكر ونحن في المخيّم أن صاحبتي كانت سريعة الغضب والبكاء، كانت أيلول تنوح كلما فقدت عزيزا منا، كانت تقول وهي نائحة:
اسمي أيلول، ابنة فدوى القاسم وسالم البكري أعشق التراب واللون الأخضر، رومانسية وصريحة، قلقة ومهمومة وكثيرة التفكير، باردة وساخنة، والاعتراف بالخطأ لغة أجهلها تماما.
أنا كل الفصول الأربعة، شتائية وباردة وقاسية ولكن ماطرة بالحب، وترميني الرياح كما تشاء إلى أرضي التي هٌجِّرت منها كلما يجتاحني الحنين وفقد عائلتي، تأتيني محملة برائحة زهر اللّوز الذي كان يزين بيتنا في عكا.
أنثر العطر والجمال في كل مكان، فتزهرٌ أرضي رغم جروح الدهر وصمت الخلان، وأنوح حد الجنون، كلما يدغدغني الفقد، فأحن إلى أخي صابر، وخبز أمي، ورائحة غليون أبي، وعصفوري طائر المَحَنا الذي كان يرافقني في مشوار عمري المتهالك.
اليوم عكا حزينة، المدينة الجميلة تناثرت كالهباء المنثور أمامي، الدخان الأسود يتصاعد في الأفق، يلف أحلامنا، ورائحة لحوم بشرية مشوية تحترق، وخارج الأفق شمس محتشمة، محجبة بوشاح أسود يسرق ضياءها.
المكان مكتظ بالبشر، وآخر مكتظ بالجثث المتراصة، وآخر بعيون دامعة، وقلوب مجروحة، وآخر بحركة بشر متزاحمة، وآخر هــارب بحلمه ليسرق من المساحات الفارغة سكينته، ووجدت نفسي وسط مساحة أخرى، بلا شك لم تكن في المدينة لأنني لم أعد أعرف الشبابيك المفتوحة، ولا الساحات الواسعة، ولا تصميم المدينة، ولا الشوارع الطويلة.
المدينة بعضها واطئ، والآخر كومات من الركام، وأنا لا أدري في أية نقطة من المدينة أقف!
الخراب الضارب أطنابه يرثي المدينة، يرثي الأسوار المنقوشة ببصمة الأجيال البائدة التي نفخت فيها من روحها، وتفننت فيها من صبرها، وما أراه اليوم لا يعدو كومة أشباح لوجوه تلاشت في زحمة الحكايـــا واللهـــب.
وَلِجتُ العتمة التي حمِلَتْني على الدهشة، فمشيت فوق الركام الحامي، مشيت ومشيت ويد أخرى تشيّع الحلم في روحي هاربة، تتخطَّفُني دهاليز المدينة المنكوبة، تترصدني العيون الباكية، كل ذلك تركته ورائي وخرجت من نقطة تمركزي إلى أرض تزحف من تحت أقدامي، وخطى أخرى تتسارع نحوي ثم تهرب مني وأنا في الدروب لا أعرف في المدينة أين رمى بيتي دويّ الانفجار.
عكـا…
عكـا ولِجَت العتمة، لم تلحظ خروجي ولا دخولي، عكا سرقت كحل عيوني، وتزينت به، فمُها مفتوح على الجراح، لم يعد فمُها متأهبا لقبل العاشقين، ولا إلى نظرات الحالمين، جسدها الناعم تهالك، والفراغ في جوفها مفتوح على الهاوية، ونواح طويل يستقبلني خلف رماد البيوت التي غادرتها مكرهة تشبه الأوهام التي تطاردني وأنا في لحظتي الخرساء.
اليوم عكا حزينة وشاحبة، والضيعة فارغة وموحشة وباردة، لا أصدق أنني سقطت كورقة خريف ذابلة، وبقيت وحيدة في العـــراء، أمرر الساعات وأنتهي بوجعي، وأقلب النظرات من حولي فتهدأ شهوتي للحياة.
من حولي أحكيها خرابا بروحي، وبقايا من الذكريات الجميلة مازالت تبتــز كهوف ذاكرتي المشروخة.
وددت لو أنام في حضن أمي، وأقص مأساتي بعدها، وددت أن أحكي لأبي عن فقراء الضيعة بعدما طردوا منها إلى مخيّمات باردة، عن أقرباء لنا سجنوا وماتوا وعذبوا ورحلوا…
وددت أن أحكي لأبي عن كل واحد من الأهالي، وهو يحمل حقيبته وقلبه بكثير من الصمت والرهاب.
وددت أن أخبره، وأخبر الموت أن يمهلني نظرة إلى وجوههم وفي زوايا بيتنا، وأن أحمل صورنا العتيقة معي.
آه..
لقد كنت ابنة أبي سالم البكري، غزا الشيب مفرقي، ومازلت ابنة أبي، أهرع إليه محتضنة في مخيلتي كل أطياف السماء، أنام في حضنه كصغيرة تتوسـد ذراعه اليمنى، وأندس في عباءته كطفلة تتوارى عن الأنظار، ومازلت ابنة أبي سالم البكري..
أبي بعباءته وكوفيته وفرسه ذاكرة أمة، وروح متجددة بداخلي ترعاني وتحرسني، أنا الكبيرة الصغيرة في عيون أبي…..
وددت أن يبقى من بيتنا القديم مكان ولادتي، ورجفة أمي ودهشة الحارة من صراخها، فتهرول العجوز أم سالم إليها في قلق، بصحن الماء الساخن نحوها، وهي تصرخ، تتعثر بوالدي بعدما ارتطم قدمه بقدمها، حتى كادت أن تسقط بصحن الماء الساخن، وقد تدفق القليل منه على الأرض، وانتفضت العجوز غاضبة في وجهه قائلة:
ـ اخرج من هنا ..هيا ..اخرج..
وددت أن تُكْمل أمي قصة يوم مولدي، وأنا أتلملم في حجر أبي، وهو يداعبني ضاحكا، يا عفريتة، ماذا فعلتِ بنا؟
وددت أن أمتلك الحياة وأدفع الموت عنكما، وددت يا أمي أن أخبئ دميتي في فراشها، حتى لا تحترق وتأكلها ألسنة النار، وددت..، ووددت…
ولكن لم يبــق شاهد منكـــم غير جسمي الهزيــل، ولقمة لم أتذوق طعمها، منذ فجر ذاك اليوم الذي احترقت فيه المدينة، وخوفي من المجهول يحفر مخالبه في عقلي الصغيـر، وصفير ريح بارد، يلفني بين أحضان جدي اليعقوبي المتعب.
ما تبقى من العمر يا وطني أضعه بين يديك، ما تبقى من العمر أهديه إليكَ بانكساراتي، وما تبقى من العمر دمعتان حارقتان، وابتسامة باهتة كالتي كانت مرسومة على وجه دلال المغربي وكأنها نائمة.
وما تبقى من زهر اللوز أنثره على جراحِك يا ضيعة الطفولة.
أريد لحظة السلام أن ترفرف على روحي الجريحة، والحلم بالنور أن يمزق ستارة الظلام الذي يسكنني، ولكن يا أمي ما جدوى النور، وبعدَك حياتي ظلام.
اليــوم يا أمي المدينــة خراب والوجوه شاحبـة، اليـــوم يا أمي الأرض حبلى بالقبور، ليتني وجدْت جسدَك لأحفر لك قبــرا، وأضع لك شاهدة، وأكتب عليها: هنا تنام روح أمي الشهيدة وأزورك كل يوم.
لقد دفنت ذراعك من دون سوار، سامحيني يا أمي، لقد نزعته من ذراعك المتفحمة وخبأته عندي، هو قطعة منكِ، هو روحك التي تحوم حولي.
البارحة، حفرنا القبر لأبي، كانت جثّته مفحمة، أما أخي صابر لا أعرف ملامح وجهه، لكن وُضع له قبـر صغير بجانب أبي، وقبر لذراعك يا أمي؟
مازلت أشهد، في زحمة الفوضى، على امرأة بُترت أوصالها أمامي في لحظتي الخرساء ورضيع يبكي من الألم، وأرواح أخرى أنهكها الوجع.
أريد أن يجيبني عن الأراضي التي اغتصبت منا، وحُوِّلت أخرى إلى كومة رماد، لقد صفعني الواقع، يا أمي بكثير من المرارة التي ألعقها اليوم، وجراح عميقة لن تندمل.
واليوم يا أمي تعلمت من عرائي وجوعي وفزعي واضطرابي وجنوني، دروسا لا تقدم في أكبر الجامعات التي تنادي بالحرية وحقوق الإنسان…..
___________
*من رواية “ذكريات نساء في الجحيم” تصدر قريبا.