حسين عبدالبصير*
يعد أدب السيرة الذاتية من أقدم الأشكال الأدبية التي عبر الأفراد من خلالها عن هويتهم وتركوا بصماتهم على وجه الزمن لتجنب النسيان وتأمين استمراريتهم وذكراهم وبقائهم بعد الموت. وظهر هذا الجنس الأدبي مبكراً في مصر القديمة.
وكتبت تلك السير بداية من عصر الدولة القديمة إلى العصر اليوناني-الروماني على أسطح التماثيل واللوحات وجدران المقابر والمعابد والتوابيت والصخور. ويمكن القول إن جذور السير عميقة في التاريخ المصري القديم وربما تعود بداياتها إلى لوحات الأسرة الأولى التي حمل أصحابها العديد من الألقاب مروراً بلوحات حسي رع الخشبية في المتحف المصري بالقاهرة (من الأسرة الثالثة) وصولاً إلى سيرة متن (من بداية الأسرة الرابعة). غير أن أول سيرة تقدم لنا نوعا من الفن القصصي هي سيرة دبحن (من نهاية الأسرة الرابعة أو بداية الأسرة الخامسة). ويمكن تقسيم هذا النوع من السير إلى نوعين: «سير مثالية» تتفق كلية مع مفهوم «ماعت» الأخلاقي، وتقدم صاحبها بجمل تقليدية طويلة تعنى بإظهاره كشخص مثالي، والنوع الثاني يسمى «سيرة ذات حدث» ويصف خبرات صاحب السيرة والحدث (الأحداث) التي مر بها في حياته (خصوصا الوظيفية)، ومن خلالها يمكن استنتاج التاريخ. ومنذ نهاية الأسرة الخامسة، بدأت السير تقدم حياة أصحابها الوظيفية بتفاصيل عديدة مثل عهود الملوك الذين خدموهم ويطلق عليها «سير الوظيفة». وعبرت سير عصر الانتقال الأول عن التشرذم السياسي الذي مرت به مصر في تلك الفترة العصبية من تاريخها القديم. ومع توحيد البلاد في عصر الدولة الوسطى، ظهرت روح جديدة في السير تستند إلى القيم الأخلاقية. وفي عصر الدولة الحديثة امتلأت السير بالأحداث التاريخية نظرا لفتوحات مصر العسكرية في الشرق الأدنى القديم وأفريقيا، بينما لم تزدهر السير كثيرا في عصر العمارنة (فترة أخناتون)، على عكس عصر الرعامسة (رمسيس الثاني ومن تلاه) الذي شهد اهتماماً كبيراً بالعقيدة الجنائزية؛ ذلك التوجه الذي استمر وازدهر في سير عصر الانتقال الثالث والعصر المتأخر والعصر اليوناني-الروماني.
ولم تشكل السير المصرية سيراً ذاتية بالمعنى المعروف لدينا عن السيرة الذاتية في ثقافتنا الحالية؛ وذلك لأن السير المصرية القديمة ربما ألفت في حياة أصحابها أو بعد وفاتهم. ومن المحتمل أن صاحب السيرة قد يكون شارك في تأليف أو اختيار أو إملاء النص الأدبي الخاص بسيرته؛ غير أن هذا الأمر غير مؤكد. وألف أغلب السير الذاتية المصرية القديمة بضمير الفرد المتكلم «أنا».
وكتبت السير مكثفة في مضمونها، وتداخلت مع أجناس أدبية عديدة مثل فن القص وأدب الحكمة والأدب الجنائزي والأدعية الأخروية. وركزت على أهم معالم مسيرة المسؤولين الوظيفية والمحطات البارزة في حياتهم. وكتب عدد كبير من موظفي الدولة المصرية سيرهم مثل الكهنة ورجال الدين والفنانين والأطباء والوزراء والموظفين المدنيين والعسكريين بدرجاتهم الوظيفية والموظفين الإداريين كالمشرفين على القصر الملكي أو الحدود المصرية أو بلاد النوبة. وتنوعت درجات وأطياف الموظفين؛ فكان من بينهم موظفون من كبار رجال الدولة من الصف الأول وموظفون من درجات وطبقات وظيفية أدنى منهم قليلا، غير أن جميعهم انتمى إلى صفوة المجتمع المصري القديم وطبقة النبلاء المتميزة، ولم تكتب السيرة لغير هذه الطبقة الإدارية الحاكمة بأغلب أطيافها البيروقراطية والتكنوقراطية، فلم نجد على سبيل المثال سيرا تخص عامة الشعب، وكذلك لم تنتشر سير النساء من الطبقة العليا إلا في العصر المتأخر والعصر اليوناني-الروماني.
وأظهرت المسؤول بصورة مثالية متوافقة مع أفكار ومعتقدات طبقة النبلاء المصريين. وكان الغرض من كتابة مثل هذه السير إضفاء مسحة من التقوى والورع على صاحبها في أعين الآلهة وأفراد عائلته ومجتمعه والأجيال التالية؛ وذلك حتى لا تندثر سيرة الموظف وحتى يكون سجل إنجازاته في الوظيفة والحياة فخراً له ولعائلته، وحتى يرث أفراد أسرته منصبه من بعده وحتى ينعموا بالامتيازات التي تمتع بها صاحب السيرة في الحياة الدنيا والتي يأمل أن تستمر بعد وفاته وأن ينعم بحياة أبدية سرمدية في العالم الآخر وألا تتوقف القرابين المادية من مأكل ومشرب عنه وعن مقبرته. وفي هذه السير، صور الفرد كانعكاس للسياق الثقافي والاجتماعي للمجتمع المصري القديم. وكنتيجة غير مباشرة، ألقت تلك السير- بشكل عفوي- بأضواء كاشفة على التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لمصر القديمة.
ويعتبر هذا الجنس الأدبي طرازاً أدبياً فريدا ًظهر في مصر القديمة مقدما الفرد المصري في سياق أخلاقي وقيمي ومجتمعي وثقافي وأخروي يختلف تماما عن مفهومنا الحالي لفن السيرة الذاتية. فلقد انتمى هذا الشكل الكتابي للأدب المصري القديم في سياقه العريض، وعلى وجه الخصوص إلى العقائد المصرية القديمة التي تميل إلى إظهار المتوفي في صورة مثالية تكون شفيعة وتكفل له دخول جنات النعيم (حقول الإيارو) في العالم الآخر.
وكان تأليف تلك السير نمطيا للغاية في معظم الأحوال. وتتكون السير عادة من ألقاب وصفات صاحب السيرة، واسمه وشجرة عائلته، والنداء إلى الأحياء، والنص القصصي، وتمنيات للحياة الآخرة. وكرست وقدمت وأعلت السير المنقوشة على جدران المقابر من شأن أصحابها، وعبرت عنهم بأسلوب مكتوب عجزت المناظر والنقوش عن تقديمهم به.
وفي النهاية، أؤكد على قدم وتميز وتفرد فن السيرة في الأدب المصري القديم، وأنه كان خير وسيلة عبرت عن طبقة النبلاء وأوضحت بجلاء أفكارها ومعتقداتها وتراثها وتطلعاتها لما بعد الموت والحياة الأخرى. وأن تلك الطبقة كانت تسعى حثيثا للقضاء على النسيان ومحاربة إهمال ذكرى وشأن وأمر صاحب السيرة بعد الموت، وأنه كان عند هذه الطبقة رغبة عارمة في الحفاظ على ذكراها حية طيبة ومتمتعة بمفور الجزل والعطاء الذي كانت تحظى به في الحياة الدنيا من أجل الفوز بأبدية لا شقاء ولا فناء من بعدها.
* المصري اليوم.