«نساء ديستوفيسكي».. نموذج راقٍ للتوثيق الأدبي


*إيهاب الملاح


رغم مرور ما يزيد على القرن ونصف على رحيل شيخ شيوخ الرواية ومعلمها الأكبر الروائي الروسي العظيم فيدور ديستوفيسكي؛ فإنه ما زال يحتل مساحة عريضة وضخمة من الاهتمام والشغف، حياته رواية كبرى وتراجيديا خالدة، وأما أعماله الروائية التي دشن بها «عصر الرواية» وجعل منها الفن الأول بلا منازع في العالم كله، فهي الأخرى ما زالت تستحوذ ببريقها الذهبي وحيويتها الإنسانية التي لا تبلى على محبة وشغف كل محبي الأدب والرواية في العالم أجمع.
وإذا كانت شخصيات رواياته الخالدة التي صارت نماذج كبرى، وأنماط بشرية فنية، جسدها ببراعة وحساسية وعبقرية، فإن شخصية ديستوفيسكي ذاتها وحياته الثرية يمكن تشبيهها بسردية روائية كتبت بالعرق والدم والمعاناة، كان منها العام الموغل في اتصاله بقضايا وهموم المجتمع الروسي في فترة تحول كبيرة، ورصد بعين الروائي تشكلاته وتقاطعاته المصيرية، وكان منها الخاص شديد الخصوصية، احتلت فيها النساء مساحات كبيرة، وتنوعت التجارب العاطفية التي خاضها ديستوفيسكي (هل نقول عاناها؟) وحملت هي الأخرى تراجيدايتها ودراميتها الإنسانية الفاتنة.
عن سلسلة (الروائع) التي تصدرها قطاع الثقافة بمؤسسة أخبار اليوم، ويشرف عليها الكاتب والروائي عزت القمحاوي، صدر كتاب «نساء في حياة ديستوفيسكي» لـ ليونيد جروسمان، ومن ترجمة د.أنور إبراهيم. الكتاب الذي يقع في 128 صفحة من القطع الصغير جدا (قطع الجيب الأنيق)، يحتوي على ملحق صور لـ ديستوفيسكي في مراحل مختلفة من حياته وأخرى لنساء اتصل بهن أو شكلن جانبا من جوانب حياته العاطفية.
«نساء ديستوفيسكي» كتاب ممتع غاية الإمتاع، يُقرأ في جلسة واحدة وبسلاسة كبيرة، استقصى فيه مؤلفه التفاصيل المتعلقة بنساء ديستوفيسكي، ارتباطا عاطفيا وزواجا عائليا، وحاول أن يتتبع زمنيا حضور هؤلاء النسوة والأدوار التي لعبنها وأثرن بها في مسيرة حياة وإبداع الكاتب الروائي الأشهر في القرن التاسع عشر، واحد من أعظم كتّاب الرواية على الإطلاق، تميزت أعماله بقدرة فذة وهائلة على السرد وبتعبيرها العبقري عن دواخل النفس الإنسانية، وقد عبّر عن ذلك في عناوين رواياته التي تصف الإنسان في شتى مواقفه.
على ظهر الغلاف (في معرض التعريف بالكتاب)، أوضح المحرر أن ديستوفيسكي، في شبابه الباكر، أغفل تماما حياته العاطفية غارقا في مخطوطات كتبه، لقد صرفه السعي وراء الظهور الأدبي بقوة أكبر عن الانفعالات الرومانسية. وفي سيبيريا انفتح عصر حكايات ديستوفيسكي الغرامية، ومنذ ذلك الحين ظهرت في طريق حياته شخصيات نسائية رائعة انعكست سماتهن بقوة في بطلات رواياته، وهذا هو السبب وراء ولعه الشخصي الهائل بدراسة العديد من النماذج النسائية التي ظهرت في فترة نضجه الإبداعي.
مما يلفت النظر في هذا الكتاب الصغير، فضلا عن المعلومات الغنية والتفاصيل التي يكشفها المؤلف للقارئ عن علاقات ديستوفيسكي النسائية، تلك المزاوجة التي عقدها بين وقائع ارتباطات ديستوفيسكي العاطفية والإنسانية، وبين نماذجه الروائية في أعمال له شهيرة، على سبيل المثال: في الفصل الذي عقده المؤلف للحديث عن إحدى تلك الشخصيات «سوسلوفا»، بطلة واحدة من أكثر قصص الحب التي عاشها ديستوفيسكي قوة، قصة تعود إلى مطلع الستينيات من القرن التاسع عشر، اسمها بالكامل «أبوليفاريا سوسلوفا»، فتاة شابة جميلة تعلق بها ديستوفيسكي وأحبها وارتبط بها، وتركت تلك الفتاة أثرا كبيرا وواضحا في إبداعه الروائي بعد ذلك.
عاشت أبوليفاريا سوسلوفا في بطرسبورج حيث خالطت الشباب التقدمي، وتعرفت على ديستوفيسكي في أحد الأماسي، وبهر الفتاةَ الشابةَ الفنانُ العظيمُ، فراحت تعبر له عن إعجابها به، فاستجاب الكاتب المرهف لهذا الشعور الملتهب الذي بثته فتاة في شرخ الصبا. ويوضح مؤلف الكتاب أن قصة الحب بينهما قد بلغت ذروتها في العام 1863، حيث يسافر العاشقان إلى الخارج، وتكشف خطابات ديستوفيسكي إلى إخوته التي يتحدث فيها بصراحة تامة عن السعادة التي تغمره في السفر بصحبة كائن يحبه. لكن شكوكه المعتاده وتغير مزاجه وعبوسه الملازم ثم خسائره الفادحة على مائدة القمار قد عكرت صفو هذه الرحلة التي قام بها إلى أوروبا بصحبة محبوبته الشابة «سوسلوفا». لم تكن العلاقة بين ديستوفيسكي وسوسلوفا متكافئة أبدا؛ كانا يتخاصمان ثم يعودان، تنتابهما سورات من الغضب والهوس الجامح الذي بدا أنه لا ينطفئ. لم ينقطعا عن تبادل الرسائل من حين لآخر حتى بعد الزواج الثاني لـ ديستوفيسكي.
انعكست هذه العلاقة المشبوبة المضطربة في رواية ديستوفيسكي الشهيرة «المقامر» (صدرت منها طبعة حديثة عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ترجمة سامي الدروبي، 2013). عكست «المقامر» بشكل مرتب تاريخ تلك العلاقة بين ديستوفيسكي وسوسلوفا، وما تضمنته من المشاهد الغرامية..
وعلى هذا المنوال، يزاوج الكتاب بين وقائع حياة ديستوفيسكي والنساء اللاتي ارتبط بهن، وبين انعكاسات هذه العلاقات وتأثيراتها على إبداعاته الروائية، ‬سنجد مثلا صورةَ واحدةٍ من نسائه اللاتي ارتبط بهن، «ماريا ديمترييڤنا» وكذلك العديد من مشاهد هذه العلاقة العاطفية، قد انعكست بشكلٍ واضحٍ وحاد في إبداعه؛ ‬نجدها متجسدة في روايته «‬المذلون والمهانون‮» ‬في الحب المتفاني لبطل الرواية المستعد للتضحية بمشاعره من أجل سعادة شخصين آخرين‮. ‬إن هذه المشاهد تنقل إلينا بوضوح جانبًا ‬من‮ ‬غرام دستوڤسكي في سيبيريا.
وفي رائعته الخالدة‮ «‬الجريمة والعقاب‮» ‬يقدم ديستوفيسكي نموذج «كاترينا إيڤانوڤنا» صورة طبق الأصل من «ماريا ديمترييڤنا» لينبعث معها مصيرها كله. ‬إن مشهد وفاة زوجة مارميلادوف قد كُتب تحت انطباع الحزن على الزوجة الأولى لديستوڤيسكي،‮ ‬بل إننا نجد أيضا بعض العبارات التي تذكِّرنا بوصف هذا الحادث الحزين كما وردت في خطابات ديستوفيسكي (أحب ديستويڤسكي وللمرة الأولى امرأة مريضة، منهكة القوى، انهالت عليها الحياة بالضربة تلو الأخرى. امرأة فقيرة معدمة، كُتب عليها الجنون والموت).
بحسب الناقد محمود عبد الشكور، لا يقدم الكتاب نموذجًا رفيعا وراقيا للتوثيق الأدبى فحسب، ولكنه يرسم صورة واقعية اجتماعية ونفسية لأحوال المرأة الروسية فى فترة زمنية مهمة ومؤثرة، ولكاتبٍ فذ ومتفرد في نفس الوقت، كما يربط بذكاء بين قصص غرام ديستوفيسكي العظيم وبطلات رواياته الشهيرة، ويذكرنا بالطريقة التي تتحول بها مادة الحياة الغنية إلى فن عظيم.
يقول عبد الشكور إنه تعاطف بالتأكيد مع هذا الروائي الكبير الذي طاردته الديون، وعقود النشر والناشرين، والذي عاش إحباطات عاطفية متعددة؛ فـ «مرة لا تشعر به أصلا من أحبها، ومرة يتزوج من امرأة عصبية مريضة بالسل، ومرة تهجره امرأة لأنه لم يهتم بها بما يكفي، ومرة يقع فى هوى امرأة قوية الشخصية ومتسلطة. ربما لم يجد راحة ونظاما إلا مع زوجته الثانية وأم أبنائه وناسخة رواياته بطريقة الاختزال السيدة «آنا جريجوريفنا» التي كتبت بعد زواجهما نصف أعماله وأشهرها، والتي كانت أقرب إلى وكيله الأدبي الذي يتعامل مع الدائنين والناشرين».
إن هذا الكتاب صغير الحجم، غزير المادة، كبير القيمة، يقدم العالم الخاص من المشاعر والهواجس والعلاقات العاطفية الحقيقية في حياة واحد من أعظم كُتّاب الإنسانية علي مر العصور؛ صاحب الروائع الكبرى في تاريخ الرواية «الجريمة والعقاب»، «الإخوة كارامازوف»، «مذكرات من منزل الأموات»، وغيرها من عيون الأدب الروائي في العالم أجمع.
_______
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *