*عبده وازن
يجد الكتّاب العرب الشباب أنفسهم اليوم أمام أسئلة حاسمة يصعب عليهم الاجابة عنها. ماذا عليهم أن يكتبوا في ظلّ هذه المأساة العربية المستشرية التي تخطت سائر المآسي العربية السابقة؟ ماذا عليهم أن يكتبوا في قلب هذه التراجيديا المفتوحة التي تجاوزت تخوم «النكبة» و»النكسة» وبؤس الحروب الاهلية العربية؟
لعل الهزيمة الراهنة التي لم تكن متوقعة بحجمها الهائل هذا، تفترض أدبا يختلف كل الاختلاف عن آداب «التراجيديات» العربية السابقة، أدبا أشدّ إصراراً على فعل التحدّي، بعدما اضحت الحياة العربية أنقاضا فوق انقاض، وبات الامل بصيص نور في وسط العتمة الحالكة. كانت آداب «النكبة» و»النكسة» وسواهما حافزاً على استعادة الذات العربية ونقدها ورثائها والبكاء على أطلالها، من غير أن يغيب الرجاء بـ «نهضة» أو «صحوة» تلملم الجراح وتتجاوز الهزائم وتسعى الى بناء ذات جماعية جديدة. لكنّ تلك الآداب لم يُقدّر لها أن تصمد بعدما راحت رقعة الهزائم الداخلية تتسع وشرعت الذات العربية تلتهم نفسها. ويكفي ان نرسم الآن صورة شاملة لما يحصل من مآس عربية حتى يتضح لنا واقع الخريطة العربية الراهنة، وفي مقدّم هذه الصورة تحلّ المأساة الفلسطينية التي انقلب أهلها بعضهم ضد بعض، متقاتلين على ما تبقّى من الارض- رحم الله محمود درويش. أما مصر وليبيا والعراق وتونس والسودان وسورية ولبنان… فأحوالها جميعاً تؤكد ان المستقبل العربي قاتم جداً وأن الخروج من هذا القدر الاسود يتطلب معجزة غير بشرية… لم يشهد العالم العربي ما يماثل هذه المأساة سابقاً، لا في تاريخه الحديث ولا في تاريخه ما قبل الحديث. عالم عربي ما عاد يحتاج الى جيش غريب ليغزوه ويدمّره، فهو قادر على تدمير نفسه بنفسه وعلى غزو أراضيه ومدنه وعلى إحراقها وتخريبها… هذا مشهد بابلي بامتياز، لكنّ البكاء عليه لم يعد يجدي. لقد فات زمن البكاء والوقوف على أطلال العالم العربي.
في ظل هذه المأساة العربية الرهيبة ماذا على الكتّاب العرب الشباب أن يكتبوا؟ أقول الشباب ولا أقول الكتّاب الكبار أو المخضرمين، حجماً وسنّا، فالشباب هم المعنيون الآن وهم الاقرب الى الساحات والمعتركات والتظاهرات والثورات… والثورات هذه بات ممكناً إحاطتها بمزدوجين بعدما فقدت – أو تكاد – بوصلتها، وبعدما تمّ الاعتداء عليها وتشويه غاياتها النبيلة. الشباب الآن يكتبون نصوصاً جديدة، لا بدّ لها من أن تتّضح وتتبلور وتمضي في ترسيخ مشروعها الابداعي. هذا الادب الشاب الجديد بدأت فعلاً تلوح ملامحه في مصر وليبيا وسورية وتونس… كتّاب شباب، روائيون وشعراء وقاصّون، وجدوا أنفسهم منساقين في خضّم الثورات، عن كثب او من بعيد، فراحوا يتمرّدون على سلطة الكتابة نفسها ليبدعوا نصوصاً جريئة لا توارب ولا تداهن ولا تهاب العواقب. نصوص فاضحة وهاتكة، ذات لغة قاسية وعارية، لا بلاغة فيها ولا فصاحة، وكيف لا والظرف ليس ظرف البلاغة والفصاحة الآن. لغة توازي لغة الواقع الاليم والمرير، لغة الناس المقتولين والمجروحين والجائعين، لغة النار التي تلتهم الأحياء والمنازل والحقول…لكنها حتماً ليست لغة خطابية ولا منبرية على غرار ما قرأنا سابقاً في القصائد والنصوص «الوطنية».
إنها نصوص «النكبة» الجديدة و»النكسة» الجديدة، نصوص مشبعة بالمأساة والدم، مثقلة بالخراب، عبثية وساخرة، واقعية ونزقة، حالمة ورافضة. نصوص الكارثة التي تحل الآن ملء العالم العربي، جماعة ومواطناً. الكارثة التي تشبه لعنة القدر عندما يسكب ناره على شعب، على تاريخه وجغرافيته.
علينا ان ننتظر قليلاً لننصف هذا الادب الجديد الذي «يُصنع» الآن في مصر- خصوصاً مصر- وفي سائر الاوطان الجريحة والنازفة. هذا الادب الذي بدأت تلوح تباشيره الاولى، سيكون أدب الواقع الجديد، أي أدب المأساة العربية، أدب الكارثة العربية.
_________
* شاعر وكاتب من لبنان(الحياة)