ديوان “طفل مكفن بالقصيدة” وأنامل صناعة الدهشة



أحمد الشيخاوي*



خاص ( ثقافات )


هو موت من طراز آخر ومغاير تماماً لما قد يغزو المخيلة من مفاهيم شاحبة ومتيبسة وقاصرة قد تجانب وضع القصيدة في حجمها الحقيقي والمقبول وإبرازها تبعا لكادرها السريالي إذ يتشرّب وبعمق ووعي كذلك ما هو هامشي ومغرق في التفاصيل الحياتية ويرتع بالتالي في آفاق ذاكرة الطفولة ليلون لحظتنا الرمادية بشتى معاني الديناميكية والنبض والحيوية والحياة. هل الكفن هنا إلا ما يومئ ويحيل على ما وراء زخم البياض والفراغ المحفز على المجابهة والتحدي والمقاومة والصمود اتكاء على مرايا ذاتية مفجّرة لأسئلة صوفية ووجودية مبددة إلى حد ما خلطة القلق والشك اللذان قد يسبقان ولربما يمتدان في أي فعل إبداعي يروم صاحبه استراتيجية أكثر فوضوية وتبنيا لما من شأنه فبركة الدهشة الكافية لإقناع مكامن الفضول الطبيعي في إنسانيتنا وتحريض الشيطنة الطاعنة بلذة الخطاب الصافي الدفين أو الكامن على نحو استشرافي يتوسم راهنا غير هذا الذي نتخبّط في أدغاله المقفرة والموحشة والجانية حدّ الموت. 


في مجموعته “طفل مكن بالقصيدة” الصادر 2012 عن دار الفراشة الكويتية، والذي تلقيت نسخة رقمية منه تكرم على بها صاحبه الصديق العزيز مشكورا، الشاعر والناقد والأكاديمي المغربي أحمد الدمناتي.. قلت في هذا العمل الجليل والجميل تتبلور منظومة عوالم متداخلة ومتشابكة ومتكاملة ومجسدة للوحة إنسانية بديعة تنتصر للموضوعة الطرفاوية على نحو يدغدغ حواس التلقي ويؤجج روح المشاركة استناد إلى نهايات ممتدة ومفتوحة تمكث عصية على التبويب أو حصر الأحداث والمشاهد في أزمنة وأمكنة ما تنفك تغدو عرضة لعوامل التعرية والتآكل والنسيان. 


وبذلك نكون إزاء ملحمة كلامية، في نطقاها يكتسي المتلقي وظيفته الإيجابية والتشاركية ولعب الأدوار التكميلية التي تؤهله لاكتساب روح التأثير والفعالية فيما يرى ويسمع. 


“امرأة متشحة بالسواد
تروّد عزلة فلوات الجسد
والقصيدة متعبة هذا المساء
الجديدة لا تعانق إلا أطفالها*
القادمين من خرائط الأمكنة والنسيان
المرأة التي تسكن الشعراء في الليل
تستيقظ في الصباح وفي شفتيها قصائد مقتولة
لا جنازة تليق بغواية البياض
لا نورس يحفظ فراغات الكراسي
لا زنبقة تعشش في ذاكرة الندى.”
…………….
” السواد صديق التذكار
البياض مؤرخ الأمطار
كل الأمكنة تخون صمتها بالليل، 
والشاعر يطرّز طفولته على محراب القلب الجميل”

*الجديدة مدينة بحرية مغربية

إن استقطاب الذوق لدى شاعرنا أو خلفيات النهل من عصارة ما يسهم بشكل مباشر تصريحي أو خلافه الحافل بحقول الترميز، كل ذلك ينبثق من ممارسات ذهنية صرفة أنأى ما تكون عن الكلفة أو التعسف في اجتراح المعنى الجديد الضاج بمواقف المواكبة بل والسبق في كثير من الأحيان.

مما يتولد عنه تناثر سردي بديع على امتداد خارطة المزاوجة بين الصور والأصوات الموغلة في صميم إنسانية الكائنات والجمادات على حد سواء والضاجة أيضا بجماليات الذات الشاعرة المتماهية حد الغيبوبة مع أسفار الذاكرة والمحتفية بطفولة القصيدة إذ تذيل طقوس الاحتضار وتحاول أو تباشر الانبعاث من رماد الفوضوية والعبثية والاضطراب، كأنها الفينيق المتمنع على الأقنعة والقيود والشروط، والمعتقد بأن لكل زمن ثوبه الملائم، أو أنها السندباد الظامئ أبدا إلى المحطات الزئبقية والتي هي بالأساس نتاج مخيال مشدود إلى الواقع مكتو بالظرفية متجذر المعاناة في قواميس اليومي المصطبغ بالهم العام المتسامي على شتى ضروب الشخصنة.


” في كل قصيدة ليلية
تنام الشاعرة محملة بجنون قلقها
وعواصف انبهارها بالمساءات الهاربة”
…………..
“في كل قصيدة تنكرية
تختبئ اللغة في خيمة الجرح
وتقام أعراس الكلمات
في خرائط دفء الشموع الحزينة”
………….
“فراشة تغسل ومضة الضوء
بقصيدة اغتالت وجه المسافة
بين عطر الصداقة وجمر الولادة”
…………..
” بقلق ساعي البريد
الموت خريطة تكذب توقعات الجغرافيين
الموت خيانة لصمت كثيف يروض عبقرية الجراحين”
……………..
“تصوب بندقية القصيدة بقسوة
إلى جثة اللغة
النهار يدمن أخطائه في مغازلة العصافير
العصافير تعلن الحرب على برج غيمة متعبة
التعب يقلم أظافر الغابة بعناية ماكرة
المكر هجوم الخديعة على صفاء النية
النية بيت العنكبوت تبنيه الرغبة”


كذلك نلحظ وباعتماد تأويلات طفيفة كيف أنه يستشف من تجربة شاعرنا الدسمة هذه، الذي قد يشي بالغاية من إقحام تيمات معينة ونوعية ومقصودة تفيد التكرار الرامي إلى دحرجة ريشة الحكي في اتجاهات تبئيرية وشبه عارية تنتهي بشجب الواقع الغاب في الهيمنة المطلقة لمثالبه واعوجاج الروابط التي يمليها على دورة الإنسان في أفلاكه وهو المتطلع دوما إلى تلمّس أسباب الانعتاق وتأمم ذروة صفاء الصلة بالذات مروراً بالآخر فالوجود إجمالاً. 


“ينهشني الصمت الذي يتسلق جدران المرايا
أن أغوص في خرائط دمع النوارس الخائفة
والمرافئ تكتب سيرة عزلته بهوس الرحيل
تأملت وجه البحر الناعس بحنين قاس 
وهو يذبح طفولة الأمواج بسكين الرغبة
فوق أحداق الشواطئ
تهت كطفل بريء
كقصة زورق تنكرت له
كل الموانئ
بحثت عن عناوين دمعة
تقاوم صحراء العزلة
فوجدت العيون سراب
و طنجة موجة نائمة على خد نورس
تعري جسدها لقبيلة من الغرباء
وتقتل آخر عاشق لها من سلالة الشعراء”
……………..
” لا تعزف على قيثارة الجنون
ما تبقى من هسيس الحلم
توغل في حدائق الندى
امرأة تمتلك المدى
وتزين أحداق الكفن
بأناشيد الوطن
للقصيدة وجه الطفولة
ملح الذكريات القديمة
رسائل المرأة العاشقة
والموج يتدرب على خيانة البياض
كل الممرات إلى بهو الحواس مغلقة”
……………
“بنت ترقع سيرة الموج برغبة المنفى
تعاند تيه البياض المفترس
وتسكن خيمة المعنى
لا تثق بالليل
وانحنى سريعاً في اتجاه السؤال
مطر البارحة ينظف القصائد
غيرة صارخة تجر اللغة
لبهو تأوهات الحديقة”
……………
” قاوم جغرافية حبك لغبطة دمشق
فهي لا تكترث للمدمنين على الانحناء
لا تجفف خريف الحب برقصة سنبلة
فسيرة المكان راوغت قلق المعرفة
بريد يحرص غيمة في منتصف الفتنة
خريطة تحرث نجمة في مفترق الأبجدية
وحدي أرتب لدمشق عناوين فرحها الأبدية”
…………..
“صديق يتسلل متعبا بحكاية الورد
مات درويش
عاشت القصيدة
درويش والقصيدة تفاحتان تعلقان الندى
من خيط أغنية
هل الجراحة تصطاد الجسد أم القصيدة؟
الشعراء يرحلون دون خجل
كأطفال يبيعون سلة الذكريات لامرأة عاشقة
(لا تعتذر عما فعلت)
فالقصيدة لا تعترف بجريمتها في تهديد البياض
الحزن شرفة لحنين لا ينتظر أحدا
الحزن طفل أنيق يوبخ سيرة أخطائه
كل صباح أمام المرآة
الحزن رسالة امرأة لصديق مدفون في رحم الغياب
تطل الدموع الدافئة كالسناجب الخائفة
من كهف غيمة غسلت جنونها”
………….
“المعنى عناية عائلة عاشقة
تربي سلالة نورس شقي
يحرس رسائل العاشقين
من محو مؤجل”
…………..
” آخر الحب الكي
هكذا قالت عرافة
لامرأة تفرخ الذكريات
تحت جبّ وسادتها 
محبرة
الحبر تفاح البياض الأنيق
يوبخ خريف الكتابة المرّ
ويهش عن شاعر
يقص أحجية الحنين لقصيدته الأخيرة
مؤامرة
ما الفائدة من تحريض رقصة الخريف على الانتحار
وذاكرة العشب
تدفن تجاعيد التسلط
وشيخوخة الكبرياء
بفرح طفل شقي”
تلكم أغوار النفس البشرية لما تفيض بمخزونها فتنساب معها عذوبة الأحرف مشبوبة بمغزى ما ورائيات اللون ومترنمة بالسيمفونية المنتصرة للإنسان حيثما وجد.


إنها تجربة نابضة بالحس الوطني، تطال الرموز وسير العظماء من أجل تكرار فرص الظفر بالخبرة في سياق التمرد على التقليدانية والنمطية عبر موازاة مقتضى وحتمية الصيرورة وسرمدية نظرة العالم غلى ما هو آت لا محالة وإلى حيث يمكن رسم الخطو المستقبلي حتى في غضون مغازلة الماضوية جنوحا إلى ذاكرة حية وقوية عاكفة على استنهاض الآثار الفردوسية لطفولة تسكننا للأبد.


هو كذلك الابن البار لوطن في أعتب تجلياته أشبه بامرأة تلبس البحر وترحّب بالكفن عنوانا لقصيدة دائمة الطفولة وتستسيغ التدفق البرود لذاكرة اختارت نزيف البوح.
القامة الباسقة التي لا تعرف الانحناء.
* شاعر وناقد مغربي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *