صناعة المستحيل!


*خليل قنديل

إن فعل التراكم الحضاري السريع الذي نعيشه هذه الأيام لا يبشر بالخير، ذلك أن ما كنّا نحلم به قبل سنوات ونضعه في مصافّ المستحيلات السبعة صار يقبل التحقيق بسهولة مذهلة، وصار التشكيك في أقل بدهياته هو فعل ارتباط بالتخلف وفقدان البصيرة الواعية.

إنّ العالم الذي أخذ في التطور في المجالات الحياتية والاجتماعية والتصنيعية كافة، بدا كأنه يجب القدرة المخيالية عند الإنسان ويسبق عليه صفته التخيلية ويجعله يقف مذهولاً من سرعة التطور والإنجاز البشري الذي صار يحدث بين يوم وليلة! ولا غرابة أن نقف قليلاً لنتأمل في المنجز التصنيعي البشري ونحاول إعادته الى أولوياته لنكتشف خفة التحليق الإنساني والانجازات الخطيرة لمثل هذا التحليق. ولا غرابة أيضاً أن نكتشف أن الإنجازات التصنيعية المعاصرة وسرعة تطورها وتغيرها أخذت تلجم المخيال التصنيعي الإنساني! فالذي كنا نعتقد أنه صعب التحقيق صار الغرب يصنعه كي يدرب أطفاله على الابتكار وإحداث المعجزة التكنولوجية. وصار كل شيء ممكناً بشرط الإخلاص للفكرة والمثابرة على تحقيقها. إن فعل التناسل التصنيعي السريع الذي نعيشه في قرننا الحالي يدلل على أننا نعيش حالة من التسارع التكنولوجي قد تصل بنا الى رفع أيدينا عن حركة العالم والتاريخ، وترك دفة القيادة لمخلوقات آلية معبأة ضمن برامج مسبقة يكون لها القدرة على تخليص الإنسانية من حماقاتها! والسير بالانسانية الى مشارب وطرق أكثر حكمة. واقتياد الإنسانية جمعاء الى الهناء الجمعي الذي ظلت البشرية تحلم به طوال قرون!

ومن يقرأ التاريخ جيداً سيكتشف أن الحمق البشري هو الذي أعاق الحركة السلسة للتاريخ، ذلك أن الكثير من المفاصل التاريخية المهمة وقعت بين أيدي حمقاء استطاعت تدمير الحركة العفوية للتاريخ البشري، واعتقال الدماغ البشري في مسالك عدوانية وحروب غير مبررة على الاطلاق، مازالت البشرية تسدد فواتيرها الخارقة!

ومن يتابع الاستعدادات الفطرية للعدوان والرد عليه يكتشف مدى الحمق البشري وأن التفكير في العداوات أعمق بكثير من التفكير في المصافحة والعناق! وأن الشعوب المغلوبة على أمرها هي من تسدد فواتير هذا الحمق.

إن المؤسسات المدنية التي يفتخر العالم المدني بإنجازها يمكن أن تتحول في لحظة حمق بشري الى كارثة يصعب محاصرتها أو السيطرة عليها، بحيث يتم تجييش العداوات من جديد وتكريس فعل القتل والعدوان!

إن جلوس العالم بجغرافيته التي هي من حصاد حربين متتاليتين يكشف لنا حالة «الغش» التي مارسها الإنسان كي يتواءم مع هذه الكمياء العدوانية. وكي يحتفظ في النهاية بالمفتاح السحري الذي يقدر على العودة الى هذه العدوانية كي يوقظها من سباتها كلما دعت الحاجة الى تخليقها. وفي العودة الى المسارات الحربية التي عاشتها البشرية لابد أن نكتشف أن الاسباب لا ترتقي الى مثل هذا الحشد من العدوانيات والحروب وعماء البصيرة البشرية.

إن البشرية التي تبدو أنيقة ومتريثة تتحول في لحظة حمق أبدي الى كارثة تفتح صنابير الدم البشري في كل مكان حين تنهض الحرب من سباتها. ويبدو أن كوكبنا الأرضي حينما يبدأ بالتثاؤب يشعل الأرض بالحروب والقتل الجمعي، ويظل بانتظار العقلاء كي يطفئوا كل هذه الحرائق، وكان الله في العون من كل حروبنا النائمة، فالحروب المقبلة مدججة برغبة القتل والتدمير! وإن السلام اللاحق سيكون بعد أن يتم تدمير معظم المنجزات البشرية.
_______
*الإمارات اليوم

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *