غزال يبشر بزلزال‮..



محمود درويش*



من الطبيعي أن يكون دمه قد جف‮. ‬ومن الطبيعي أن يكون أصدقاؤه قد عادوا إلى لغتهم‮. ‬ومن الطبيعي أن نستعيد قدرة الكلام عنه كما نتحدث عن الانهار التي اخترقتنا وذهبت‮.‬

وهذا ما يحدث لي‮: ‬أيام وأيام أحاول فيها ان أعتاد هذا‮ (‬الطبيعي‮) ‬لأكتب عنه في هدوء‮. ‬ولكنه يطردني عن الورق، ‮ ‬فإن حبره لم يجف‮. ‬هو الذي يمنعني من أن أفي بوعدي، ‮ ‬هو الذي يمنعني عن الكتابة‮.‬

الكتابة‮! ‬كم نتساءل‮: ‬ما هي؟ ونتعثر‮. ‬ذباب كثير يحط فوق الكلام الجميل‮. ‬وكأنه الفلسطيني الوحيد الذي أعطي الجواب القاطع الساطع، ‮ ‬وكانت الشهادة شهادة، ‮ ‬وكأنه أحد النادرين الذين اعطوا الخبر زخم الدم‮. ‬وفي وسعنا ان نقول‮: ‬ان‮ ‬غسان كنفاني قد نقل الخبر إلى مرتبة الشرف، ‮ ‬وأعطاه قيمة الدم‮.‬

فيه حسم لتعدد اشكال سوء الفهم والتفاهم‮. ‬وفي‮ ‬كتابته سطوة اليقين‮. ‬من يتقن قراءته يطرح الاسئلة على مستويات مختلفة‮.‬

هنالك من يعتبر الحياة اتهاما وخيانة، ‮ ‬فيثني الكتابة عن فعاليتها لان الحرية لا تأتي بغير الموت‮!.. ‬ومن هنا، ‮ ‬يتحول الموت لدي هؤلاء إلى هدف في حد ذاته‮. (‬أنت متهم إلى أن تثبت موتك‮). ‬داء شاع في حياتنا الفلسطينية‮. ‬فاتخذ الفاشلون فينا جثث الشهداء متاريس وخنادق وقاعات محاكم‮. ‬أطلقوا النار على الذات مرة، ‮ ‬وانتظروا رصاص الاعداء، ‮ ‬مرة أخري، ‮ ‬ليكون معيار الجدارة‮. ‬هذا الطراز ذاته من النظر إلى الحركة وإلى الأشياء يحول جثة‮ ‬غسان كنفاني إلى قاعدة لاغتيال الكتابة‮. ‬وهي، ‮ ‬بذلك تجرد كاتبنا الكبير من أية قيمة خلاقة عدا الموت‮.‬

وهنالك، ‮ ‬هنالك من يعطي الكتابة قدسية الانفصال، ‮ ‬وشرعية الطلاق عن المغامرة، ‮ ‬والاحتيال على الحياة والخطر‮. ‬هنالك من يعتبر الكتابة‮ ‬غاية في حد ذاتها‮.‬

ولكن‮ ‬غسان كنفاني هو كاتب الحياة‮. ‬كان يكتب لأنه يحيا‮. ‬وكان يحيا لأنه يكتب ويحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكان المستقبل‮. ‬لم يكن الموت هدفه لأنه لم يكن عاجزا عن الحياة في الكتابة، ‮ ‬ولأنه لم يكن بعيدا عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياتها في الصراع، ‮ ‬وكان توحده في الفعل الكتابي، ‮ ‬والذي يبلغ‮ ‬حد التصوف، ‮ ‬نوعا من استرداد حياته في حياة شعبه وصياغتها في مسري الحلم العظيم‮.‬

لقد سقط‮ ‬غسان كنفاني في ميدان الصراع‮. ‬سقط وهو يسيطر على موقعه الكتابي‮.. ‬وقد اغتاله الأعداء لأنه حل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلا سيعثر على اداة التعبير عن فاعليته في السلاح‮. ‬ولذلك، ‮ ‬فإن الدفاع عن‮ ‬غسان كنفاني، ‮ ‬امام اخطاء من لا يري فيه‮ ‬غير موته، ‮ ‬هو دفاع عن الكتابة وعن الحياة‮.‬

ويعرف الكاتب الثوري ان اداة التعبير عن فاعليته الاجتماعية تأخذ شكل الكتابة لأنها تميزه وسلاحه‮. ‬وليس بوسع الكتابة أن تحقق أثرها النضالي الا اذا كانت كتابة ناجحة، ‮ ‬فالفن الرديء الذي يروج له الصغار في حياتنا الآن، ‮ ‬تحت أي شعار‮ ‬كان، ‮ ‬لا يقل ضررا عن السلاح الرديء‮. ‬وقد كان‮ ‬غسان كنفاني فعالا ومؤثرا بإتقانه مهنة الكتابة، ‮ ‬بخصوصيته الفنية الجميلة، ‮ ‬وبطريقة توظيفه هذا الجمال‮. ‬وليس بانقلاب المعادلة‮.‬

لن نلتقي به بعد‮.. ‬لن نسمع مزيدا من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية‮. ‬ولكنه يقتحمنا دائما بقوة كلماته التي لا تموت‮. ‬كم كتب الفلسطينيون وماتوا‮. ‬ولكن حبرهم كان يجف مع دمهم‮. ‬كتابته هو قد تكون هي النادرة النادرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها‮. ‬وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من‮ ‬غسان كنفاني‮.‬


لماذا هو‮.. ‬لا سواه؟ تلك هي الهدية‮. ‬ذلك هو النجم‮. ‬هو الموهوب الذي عرف كيف يربي موهبته وفي أي نهر يضعها‮.‬
لقد تمكن‮ ‬غسان كنفاني من أداء دوره، ‮ ‬لان له دورا، ‮ ‬ولأنه مؤهل، ‮ ‬فنيا، ‮ ‬للقيام بهذا الدور‮. ‬كان نتاج رحلة العذاب الفلسطيني من السقوط المتمثل في وعاء المخيم حتى الصعود المتمثل في واقعية البندقية‮. ‬وفي عمله الكتابي الذي مارس من خلاله دوره الاجتماعي والوطني تاريخ الحركة الفلسطينية في قلب فنان‮. ‬لقد كان ثوريا من حيث هو كاتب ثوري‮. ‬لم تنتزع هذه الصفة من لحظة الاستشهاد‮.‬

كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب‮. ‬ولكنه كان يعرف أيضا ان قيمة هاتين المسألتين مشروطة، ‮ ‬لإنتاج الفن، ‮ ‬بإتقان تطبيق المسألة الأخري‮: ‬كيف يكتب؟

لم تسلم كتابة‮ ‬غسان من الاتهام حين ارتقي بشكله الكتابي من حالة السكون الوصفي إلى حالة ارقي وأصعب بتأثير تعقد القضية التي تحتويه‮. ‬ولم تسلم من مواجهة هذا السؤال الابدي‮: ‬من يفهم هذا الاسلوب؟ لم يكن‮ ‬غسان كنفاني سهلا كما يبدو لقرائه السطحيين‮. ‬صحيح انه كرس كل طاقته الخلاقة ونشاطه الاجتماعي في خدمة قضيته الكبري‮. ‬وصحيح ان هذه القضية، ‮ ‬بجماهيرها واشكال صراعها، ‮ ‬كانت هدفه العظيم‮. ‬ولكن الكتابة، ‮ ‬كقضية، ‮ ‬كانت أيضا هاجسه‮. ‬وان التعامل مع سؤال مثل‮ (‬قضية الكتابة‮) ‬جعله قادرا على التطور الدائم وحيا إلى هذا الحد‮.‬

لم يستطع‮ ‬غسان كنفاني أن يكون مؤثرا وفعالا إلا لأنه كان كاتبا محترفا‮… ‬حتي في كتابته الصحفية أو اليومية كان شديد الخصوصية والتميز والاتقان‮. ‬رشيقا ومتوترا كغزال يبشر بزلزال‮.‬

كان ممتلئا بحيوية نادرة في هذا الجيل‮. ‬كان مسكونا بكهرباء لا تنضب‮. ‬ولم يترك لنشاطه الواعي مجالا واحدا للراحة‮. ‬لم يقض اجازة لاستعادة قواه بين رواية وأخري، ‮ ‬أو عمل وآخر‮. ‬لم يذهب للامتلاء بالتأمل من أجل تنفيذ عمل كتابي جديد‮. ‬كان يجدد وقوده الابداعي بتبذير قواه‮. ‬كان يتزود بالطاقة تلقائيا، ‮ ‬فالذاكرة الجماعية لا تستنزف‮. ‬وكان يستعيد ملء طاقاته بعمليات تفريغها الدائم‮.‬

هل كان حقا يشعر بموته المبكر‮. ‬فأطلق ينابيعه إلى هذه الدرجة من الاسراف؟ هل كان هاجس الموت يستدرجه لصب طاقاته في وقت قصير؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية‮ – ‬البداية دافعا لتناول كل اشكال التعبير من قصة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث، ‮ ‬ليسجل دمه على أصابعنا وذاكرتنا؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة؟

ربما‮. ‬وربما كان هذا السباق أحد أجمل تجليات‮ (‬الانانية‮) ‬الخلاقة والتفاني في آن واحد‮. ‬انها شكل نادر من اشكال تحقيق حياته في سياق تبذيرها في حياة الآخرين‮. ‬وهكذا تتحول أنانية الفنان إلى نهر كريم‮.‬

إن الذين عرفوه، ‮ ‬عن كثب، ‮ ‬كانوا يعرفون مدي حيويته وقدرته الثمينة على العمل‮. ‬وكانوا يعرفون ايضا حرصه المرهف على تحقيق ذاته الفنية‮. ‬كان يقوم بكل الاعمال العامة طيلة النهار‮. ‬وفي آخر الليل‮… ‬في أول الفجر كان يذهب إلى كتابته‮ “‬الخاصة‮”‬، ‮ ‬إلي كتابته الفنية، ‮ ‬فلم يكن متاحا له ان يتخصص بشكل علني، ‮ ‬كان يحترف الكتابة سرا، ‮ ‬لماذا؟ لأنه فلسطيني‮.. ‬ببساطة لأنه فلسطيني‮.‬

لم يقل أحد ان الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم‮. ‬سأقول‮: ‬ان الفلسطينيين لا يرحمون ادباءهم‮. ‬ذلك من‮ ‬فرط ايمانهم بفاعلية الادب الذي قدم لهم، ‮ ‬ومنهم، ‮ ‬تعويضا عن مهانات، ‮ ‬عندما فقدوا كل شيء ولم يملكوا الا كلمات‮. ‬وذلك لأنه استمد منهم القوة ليؤسس لهم العلاقة‮. ‬نادرا ما يسطو الوطن، كما يسطو على أدب الفلسطينيين‮. ‬ولذلك، ‮ ‬يدرك الفلسطينيون، ‮ ‬وبحق، ‮ ‬أنهم هم الذين خلقوا ادباءهم‮.. ‬ولذلك ايضا يطالبونهم دائما بالمواطنية المثالية وبالطاعة الفولاذية، ‮ ‬ولا يسمحون لهم ان يكونوا أقل من جنود أو قديسين‮. ‬ومن هذه العلاقة الصارمة، ‮ ‬من هذه المطالبة التي تشل كل شيء يجد الاديب الفلسطيني نفسه‮ “‬يسرق‮” ‬حرفة الادب سرا‮.‬

وفي النهار عليه أن يمارس اشكالا أخري للتعبير عن التزامه بسلطة الوطن‮!‬
هكذا كان‮ ‬غسان كنفاني يغتصب كتابته الفنية من الساعات المخصصة لنومه‮. ‬ولم تكن الكتابة الا نتاج علاقته بفلسطين‮ – ‬الوطن والحلم والصراع والجماهير والمنفي‮. ‬كان اكثر من كاتب‮.. ‬لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف‮ (‬للتمييز‮) ‬بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا‮: ‬كان كاتبا ومناضلا‮. ‬ليس الامر في مثل هذا التفصيل فقد كان‮ ‬غسان كنفاني كاتبا مناضلا‮.‬
كثيرا ما يجابه الكاتب الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام‮: ‬هل أنت كاتب أم مناضل؟‮. ‬في مرحلة تاريخية معينة يحدد الكاتب المناضل بأنه الكاتب الذي يعبر عن حركة القوي الثورية‮.. ‬عن حركة الجديد‮. ‬وغالبا ما تكون أداة تعبير الكاتب عن اندماجه بقوي الثورة وهي الكتابة‮. ‬وقد بقي‮ ‬غسان كنفاني مطاردا بهذا السؤال إلى ان بلغ‮ ‬الشهادة، ‮ ‬فهزم السؤال وانتصرت كتابة‮ ‬غسان‮.‬

كان نشاطه الكتابي متعددا‮. ‬والطريق التي سفك فيها دمه محرومة من الوصف‮. ‬لقد رسم جسده الممزق حالات القضية الفلسطينية‮.. ‬لقد حقق الأسطورة‮.‬

كم من صديق رثيت‮. ‬ولكن لم أحس بأنني أرثي نفسي، ‮ ‬فأعيد صياغة حياتي، ‮ ‬الا عندما حاولت الامساك بطرف هذا البركان، ‮ ‬غسان كنفاني، ‮ ‬ماذا بوسعك أن تفعل؟ حقا، ‮ ‬ماذا يوسعك ان تفعل؟ هكذا ينقض الكاتب على نفسه في حضرة الكارثة التي لايردها قلم‮. ‬ولعل مثل هذه الحالات التي تنتقص من جدوي الكلمة وقوتها في سياق المقارنة مع عناصر الطبيعة أو الفعل الهائل هو الذي خلق، ‮ ‬منذ القدم، ‮ ‬تقليد عقد المقارنة الظالمة بين الكلمة والفعل‮. ‬ليس الخطأ، ‮ ‬دائما، ‮ ‬ان تقدم اجابة مخطئة‮. ‬أحيانا وفي مثل هذه الحالة بالذات يأتي الخطأ من مجرد طرح هذا السؤال‮.‬

وان الموت حادث‮. ‬ولكن هنالك نوعا من الموت يأخذ شكل الاجابة على معضلة أو مقارنة‮. ‬وهكذا يتحول مصرع الكتاب المناضلين إلى دلالات ورموز‮. ‬وهكذا كان مصرع‮ ‬غسان كنفاني شهادة على فاعلية الكتابة لا نفيا لها كما يتصور الميكانيكيون والعاجزون امام حركة العلاقات، ‮ ‬كهؤلاء الصبية القادمين إلى اسم الثورة من اقاليم العجز والاحباط والقبح، ‮ ‬ليصموا عاهاتهم على الورق وعلي نفسية البشر، ‮ ‬فيتهمون الفن بالردة، ‮ ‬ويتهمون الحياة بالخيانة‮.‬


صديقي‮ ‬غسان‮! ‬كم من صديق ودعت، ‮ ‬ولكن لم أودع مرحلة من حياتي إلا في وداعك الاخير‮. ‬كان آخر ما أنتظر من كوابيس هو ان أقدم لإعلانك السابق عن وجودي منذ عشر سنين‮. ‬لقد ولدت قبل ذلك، ‮ ‬ولكنك أنت الذي أعلن ميلادي‮. ‬لم أقل لك‮: ‬شكرا، ‮ ‬فقد كنت أحسب العمر أطول‮.‬

الآن نقول‮: ‬أدب الأرض المحتلة ونسكت‮!! ‬ولكن الحالة كانت تختلف عامئذ، ‮ ‬فقد كنا مجموعة من شباب دون الثلاثين تفتقر إلى أدني مقدمات الرد العملي على الهزائم التي يعاصرها وعينا وعارنا‮. ‬كنا نحاول كتابة الشعر دون ان نعي انه شعر، ‮ ‬كنا نصرخ، ‮ ‬نتوجع، ‮ ‬نحتج، ‮ ‬فلم نملك اداة تعبير‮ ‬أخري‮. ‬كانت أغلبية مواطنينا تسخر منا، ‮ ‬لأنها تعرف طفولتنا ومراهقتنا وصبانا معرفة لايليق بها الاعجاب، ‮ ‬صبيان يكتبون شعرا‮. ‬وكان لقب‮ “‬شاعر‮” ‬طموحا قاسيا يعذب‮. ‬وفي أحسن الاحوال كان بعض المعلمين يقول‮: ‬مبتدؤون لهم مستقبل‮. ‬حتي العدو نفسه لم يكن يكترث بنا بشكل جاد‮. ‬وفي الامسيات الشعرية التي كنا نقيمها في القري كان الفضول والاعتبار‮ ‬السياسي وبنات المدرسة هي التي تشجعنا‮. ‬فقد كان الشعر‮ “‬المعتبر‮”.. ‬الشعر المقبول، ‮ ‬آنئذ لدى الناس والصحف هو الشعر القادم من الخارج‮.. ‬هو الشعر المصنوع خارج الأرض المحتلة‮. ‬وكانت النجوم الشعرية الرائجة في العالم العربي هي ذاتها الرائجة لدي صحف العدو باستثناءات قليلة‮. ‬ولم نسأل يومها‮: ‬كيف يسلك الشعر كل هذه القدرة على الاحتيال فيكون مطرب الأضداد؟

وبقينا مجهولين‮..‬
إلى أن قام‮ ‬غسان كنفاني بعمليته الفدائية الشهيرة‮: ‬الإعلان عن وجود شعر في الأرض المحتلة، ‮ ‬فانقلبت العلاقة داخل الأرض المحتلة وخارجها، ‮ ‬ومشي التطرف إلى نقيضه المتطرف‮: ‬لا شعر الا في الأرض المحتلة‮!!.‬
الفضيحة معروفة‮. ‬ولا أضيف هنا جديدا‮. ‬وسأعترف بأن شهادتي لا تتمتع بأية قيمة عدا قيمة الاعتراف‮: ‬نحن الذين كنا نكتب ما سماه‮ ‬غسان‮ “‬شعر المقاومة‮” ‬لم نكن نعرف اننا نكتب‮ “‬شعر مقاومة‮” ‬وقد دهشت، ‮ ‬قبل سواي، ‮ ‬بهذا الشغف السياسي بما نكتبه‮. ‬كل شيء قابل للتفسير كأن نقول‮: ‬مرحلة تاريخية معينة انفتحت فيها النفسية العربية الجريح على تقديس كل ما يرد من أرض فلسطين‮. ‬ولكن‮.. ‬ولكن بعضنا داخ من اللذة، ‮ ‬وبعضنا صار يصمم القصائد لحناجر المذيعين، ‮ ‬وبعضنا خاف المسؤولية وقلق وبعضنا أدرك انها موجة وتنكسر ولا يبقى من هذا الزبد‮ ‬غير الشعر الحقيقي‮. ‬ويومها‮.. ‬يومها كتبت‮: “‬انقذونا من هذا الحب‮”..‬

ولكننا نعرف جيدا ان محاولات الغاء الشعر العربي الثوري كله بواسطة خطب حماسية أو بكائيات يكتبها شباب في الأرض المحتلة، ‮ ‬قيمتهم الفنية الاساسية هي انهم يعيشون في الأرض المحتلة، ‮ ‬قيمتهم الفنية الأساسية هي أنهم يعيشون في الأرض المحتلة، ‮ ‬ليست من صنع‮ ‬غسان كنفاني‮.‬

إن ما فعله‮ ‬غسان هو كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الأرض المحتلة، ‮ ‬واضاءة كل موضوع صمود يمارسه ابناء الشعب الفلسطيني هناك‮. ‬وكان الشعر، ‮ ‬ولايزال، ‮ ‬أحد وسائل التعبير عن هذه المواقع وعن هذا الصمود‮.‬

كان اكتشاف العرب بأن العرب في فلسطين المحتلة يتكلمون اللغة العربية ويحبون بلادهم ويكرهون الظلم اكتشافا مذهلا‮.. ‬مذهلا حتى الخزي‮. ‬ومع ذلك اتاح هذا الاكتشاف للصوت العربي القادم من هناك سعادة الاحساس بالانتشار والتغلب على الاسوار، ‮ ‬وكان وعي أصحاب هذا الصوت بوجود من يستمع إليهم حافزا لنموه وتطويره لدي البعض، ‮ ‬وعقبة امام تطويره لدي البعض الاخر الذي اكتفي بالجغرافيا موهبة‮ ‬غير قابلة للمناقشة‮.‬

لقد دل‮ ‬غسان كنفاني الرأي العام العربي على ادب الأرض المحتلة‮. ‬واما المبالغات واختلال الموازين فتلك مسألة تخص الذين درسوا ما قدمه‮ ‬غسان، ‮ ‬لم تكن لفظة‮ “‬مقاومة‮” ‬رائجة في الشعر هناك قبل ان يطلقها‮ ‬غسان عليه‮. ‬وهكذا أيضا دل المسمى على اسمه‮…‬

واذا كان‮ ‬غسان كنفاني قد شمل، ‮ ‬بهذه الصفة، ‮ ‬كل من كتب باللغة العربية في الأرض المحتلة، ‮ ‬فلأن افراحه بما يجد كانت تشمل الكتاب واشباه الكتاب، ‮ ‬والمقاومين واللامقاومين، ‮ ‬لأن أفراحه كانت تشمل اللغة العربية في فلسطين المحتلة‮. ‬ولذلك، ‮ ‬يمكن لفت الانظار الان إلى ان بعض الاسماء الواردة في مقالات‮ ‬غسان كنفاني عن الادب في الأرض المحتلة لا تحتل اكثر من فاصل هامشي في حياة العرب هناك، ‮ ‬وبعضها يحتل هامشا سلبيا يتناقض مع تقدير الوهلة الأولى‮.‬

وفي الوقت الذي كان يكشف فيه‮ ‬غسان كنفاني‮ ‬غطاء السر عما يكتبه كتاب الأرض المحتلة العرب، ‮ ‬كان يدرس نقيض هذه الكتابة واحدي مواد محاوراتها‮: ‬الكتابة الصهيونية ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين‮. ‬وبكلمات أخري‮: ‬كان يدرس فاعلية الكتابة لدي العدو‮. ‬فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية‮. ‬وكان بذلك جديدا وكاشفا ورائدا كعادته‮.‬

واذا كانت الصورة التي قدمها‮ ‬غسان عن الادب الصهيوني تفتقر إلى تصوير بعض الجوانب المهمة، ‮ ‬فذلك يعود إلى اعتماد‮ ‬غسان على النصوص الانجليزية المختارة من الادب العبري‮. ‬واذا كانت هذه النصوص المنتقاة وحدها كفيلة بالتدليل على الدور التدميري للثقافة الصهيونية، ‮ ‬فكم ستكون الصورة حالكة حين نطلع على الاصل العبري الصريح الذي لا يراعي متطلبات الحرص على الرأي العام خارج الوطن المحتل‮!..‬

ان دراسة‮ ‬غسان تتمتع بقدرة كبيرة على التقاط الجوهري وادراك الخصائص الاساسية للأدب الصهيوني، ‮ ‬وتشكل حافزا لدي دارسي اللغة العبرية لمواصلة خط الكشف الذي اسسه‮ ‬غسان كنفاني‮.‬

وقد يكون من المفيد ان نعرف ان الادب الصهيوني هو إحدى وسائل‮ ‬غسل الدماغ‮ ‬الذي يتعرض له طلبتنا العرب في الأرض المحتلة‮. ‬ولذلك فإنه يحمل امكانية تشكيل المكونات الثقافية للشاب العربي الواقع تحت الاحتلال، ‮ ‬بغض النظر عن اتجاه رد فعله عليه، ‮ ‬فهو قد يؤثر في شده إلى مقدمات التعايش على نمط الحياة الاسرائيلية ومن ثم إلى التخاذل أو التساهل تجاه ادعاء الحق الصهيوني على أرض فلسطين، ‮ ‬ومن ناحية ثانية يؤثر في شده إلى موقع الرفض لكل جوانب الحياة والفكر الصهيونيين‮.‬

‮> > >‬
ويا صديقي‮ ‬غسان‮!‬
إن البياض أمامي كثير‮. ‬ودمك الذي لا يجف ما زال يلون‮. ‬لقد ودعت مرحلة من حياتي حين كنت أودعك‮. ‬جئت ورأيت‮. ‬ورأيتك كيف تذهب‮. ‬لقد اتسعت مساحة الأرض المحتلة ولم يعد ذلك ميزة‮. ‬ودورة السجون تدور‮.. ‬تودع وتستقبل‮. ‬وكل أرض تري استشهاد ابناء شعبي‮. ‬ونحن مطاردون في كل مكان‮. ‬والكاتب ملعون ومتهم بالحياة والكتابة‮. ‬والوطن هو الوطن ولم تكتب فيه حرفا واحدا‮. ‬وأين هي الأرض‮ ‬غير المحتلة في الكون وأين هي الأرض المحتلة في الثورة؟

ويا صديقي‮ ‬غسان‮!‬
لم تتناول طعام الغداء الأخير‮. ‬ولم تعتذر عن تأخرك‮.‬
تناولت سماعة التليفون لألعنك كالمعتاد‮: “‬الساعة الثانية ولم تصل‮! ‬كف عن هذه العادة السيئة‮”.‬
ولكنهم قالوا لي‮: ‬قد انفجر‮!‬
والآن، ‮ ‬أكتب إليك دون أن أخشى يد كمال ناصر التي خطفت رثائي لك‮. ‬وقال مازحا‮: ‬لا تنشر هذا الكلام عن‮ ‬غسان كنفاني‮. ‬هذا الكلام يليق بي‮.. ‬وسأقتل قريبا‮.‬
كان يمزح؟ نعم‮. ‬ولكنه انفجر أيضا‮.‬
لا أحد يحيا لنفسه كما يشاء‮.‬
ولكننا نراك في كل مكان‮.. ‬تحيا فينا ولنا‮.. ‬وأنت لا تدري، ‮ ‬ولا تعلم‮.‬

* أخبار الأدب.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *