محمود درويش*
من الطبيعي أن يكون دمه قد جف. ومن الطبيعي أن يكون أصدقاؤه قد عادوا إلى لغتهم. ومن الطبيعي أن نستعيد قدرة الكلام عنه كما نتحدث عن الانهار التي اخترقتنا وذهبت.
وهذا ما يحدث لي: أيام وأيام أحاول فيها ان أعتاد هذا (الطبيعي) لأكتب عنه في هدوء. ولكنه يطردني عن الورق، فإن حبره لم يجف. هو الذي يمنعني من أن أفي بوعدي، هو الذي يمنعني عن الكتابة.
الكتابة! كم نتساءل: ما هي؟ ونتعثر. ذباب كثير يحط فوق الكلام الجميل. وكأنه الفلسطيني الوحيد الذي أعطي الجواب القاطع الساطع، وكانت الشهادة شهادة، وكأنه أحد النادرين الذين اعطوا الخبر زخم الدم. وفي وسعنا ان نقول: ان غسان كنفاني قد نقل الخبر إلى مرتبة الشرف، وأعطاه قيمة الدم.
فيه حسم لتعدد اشكال سوء الفهم والتفاهم. وفي كتابته سطوة اليقين. من يتقن قراءته يطرح الاسئلة على مستويات مختلفة.
هنالك من يعتبر الحياة اتهاما وخيانة، فيثني الكتابة عن فعاليتها لان الحرية لا تأتي بغير الموت!.. ومن هنا، يتحول الموت لدي هؤلاء إلى هدف في حد ذاته. (أنت متهم إلى أن تثبت موتك). داء شاع في حياتنا الفلسطينية. فاتخذ الفاشلون فينا جثث الشهداء متاريس وخنادق وقاعات محاكم. أطلقوا النار على الذات مرة، وانتظروا رصاص الاعداء، مرة أخري، ليكون معيار الجدارة. هذا الطراز ذاته من النظر إلى الحركة وإلى الأشياء يحول جثة غسان كنفاني إلى قاعدة لاغتيال الكتابة. وهي، بذلك تجرد كاتبنا الكبير من أية قيمة خلاقة عدا الموت.
وهنالك، هنالك من يعطي الكتابة قدسية الانفصال، وشرعية الطلاق عن المغامرة، والاحتيال على الحياة والخطر. هنالك من يعتبر الكتابة غاية في حد ذاتها.
ولكن غسان كنفاني هو كاتب الحياة. كان يكتب لأنه يحيا. وكان يحيا لأنه يكتب ويحيي ذاكرة الماضي الفلسطيني لتكون مكان المستقبل. لم يكن الموت هدفه لأنه لم يكن عاجزا عن الحياة في الكتابة، ولأنه لم يكن بعيدا عن حركة الفعل الفلسطيني الثوري التي تبلور حياتها في الصراع، وكان توحده في الفعل الكتابي، والذي يبلغ حد التصوف، نوعا من استرداد حياته في حياة شعبه وصياغتها في مسري الحلم العظيم.
لقد سقط غسان كنفاني في ميدان الصراع. سقط وهو يسيطر على موقعه الكتابي.. وقد اغتاله الأعداء لأنه حل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلا سيعثر على اداة التعبير عن فاعليته في السلاح. ولذلك، فإن الدفاع عن غسان كنفاني، امام اخطاء من لا يري فيه غير موته، هو دفاع عن الكتابة وعن الحياة.
ويعرف الكاتب الثوري ان اداة التعبير عن فاعليته الاجتماعية تأخذ شكل الكتابة لأنها تميزه وسلاحه. وليس بوسع الكتابة أن تحقق أثرها النضالي الا اذا كانت كتابة ناجحة، فالفن الرديء الذي يروج له الصغار في حياتنا الآن، تحت أي شعار كان، لا يقل ضررا عن السلاح الرديء. وقد كان غسان كنفاني فعالا ومؤثرا بإتقانه مهنة الكتابة، بخصوصيته الفنية الجميلة، وبطريقة توظيفه هذا الجمال. وليس بانقلاب المعادلة.
لن نلتقي به بعد.. لن نسمع مزيدا من تعليقاته الساخرة على الذين يأتون إلى الكتابة بفضيلة القضية. ولكنه يقتحمنا دائما بقوة كلماته التي لا تموت. كم كتب الفلسطينيون وماتوا. ولكن حبرهم كان يجف مع دمهم. كتابته هو قد تكون هي النادرة النادرة التي تصلح للقراءة بعد العودة من جنازة كاتبها. وتاريخ تبلور النثر الفلسطيني الجديد يبدأ من غسان كنفاني.
لماذا هو.. لا سواه؟ تلك هي الهدية. ذلك هو النجم. هو الموهوب الذي عرف كيف يربي موهبته وفي أي نهر يضعها.
لقد تمكن غسان كنفاني من أداء دوره، لان له دورا، ولأنه مؤهل، فنيا، للقيام بهذا الدور. كان نتاج رحلة العذاب الفلسطيني من السقوط المتمثل في وعاء المخيم حتى الصعود المتمثل في واقعية البندقية. وفي عمله الكتابي الذي مارس من خلاله دوره الاجتماعي والوطني تاريخ الحركة الفلسطينية في قلب فنان. لقد كان ثوريا من حيث هو كاتب ثوري. لم تنتزع هذه الصفة من لحظة الاستشهاد.
كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب. ولكنه كان يعرف أيضا ان قيمة هاتين المسألتين مشروطة، لإنتاج الفن، بإتقان تطبيق المسألة الأخري: كيف يكتب؟
لم تسلم كتابة غسان من الاتهام حين ارتقي بشكله الكتابي من حالة السكون الوصفي إلى حالة ارقي وأصعب بتأثير تعقد القضية التي تحتويه. ولم تسلم من مواجهة هذا السؤال الابدي: من يفهم هذا الاسلوب؟ لم يكن غسان كنفاني سهلا كما يبدو لقرائه السطحيين. صحيح انه كرس كل طاقته الخلاقة ونشاطه الاجتماعي في خدمة قضيته الكبري. وصحيح ان هذه القضية، بجماهيرها واشكال صراعها، كانت هدفه العظيم. ولكن الكتابة، كقضية، كانت أيضا هاجسه. وان التعامل مع سؤال مثل (قضية الكتابة) جعله قادرا على التطور الدائم وحيا إلى هذا الحد.
لم يستطع غسان كنفاني أن يكون مؤثرا وفعالا إلا لأنه كان كاتبا محترفا… حتي في كتابته الصحفية أو اليومية كان شديد الخصوصية والتميز والاتقان. رشيقا ومتوترا كغزال يبشر بزلزال.
كان ممتلئا بحيوية نادرة في هذا الجيل. كان مسكونا بكهرباء لا تنضب. ولم يترك لنشاطه الواعي مجالا واحدا للراحة. لم يقض اجازة لاستعادة قواه بين رواية وأخري، أو عمل وآخر. لم يذهب للامتلاء بالتأمل من أجل تنفيذ عمل كتابي جديد. كان يجدد وقوده الابداعي بتبذير قواه. كان يتزود بالطاقة تلقائيا، فالذاكرة الجماعية لا تستنزف. وكان يستعيد ملء طاقاته بعمليات تفريغها الدائم.
هل كان حقا يشعر بموته المبكر. فأطلق ينابيعه إلى هذه الدرجة من الاسراف؟ هل كان هاجس الموت يستدرجه لصب طاقاته في وقت قصير؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية – البداية دافعا لتناول كل اشكال التعبير من قصة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث، ليسجل دمه على أصابعنا وذاكرتنا؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة؟
ربما. وربما كان هذا السباق أحد أجمل تجليات (الانانية) الخلاقة والتفاني في آن واحد. انها شكل نادر من اشكال تحقيق حياته في سياق تبذيرها في حياة الآخرين. وهكذا تتحول أنانية الفنان إلى نهر كريم.
إن الذين عرفوه، عن كثب، كانوا يعرفون مدي حيويته وقدرته الثمينة على العمل. وكانوا يعرفون ايضا حرصه المرهف على تحقيق ذاته الفنية. كان يقوم بكل الاعمال العامة طيلة النهار. وفي آخر الليل… في أول الفجر كان يذهب إلى كتابته “الخاصة”، إلي كتابته الفنية، فلم يكن متاحا له ان يتخصص بشكل علني، كان يحترف الكتابة سرا، لماذا؟ لأنه فلسطيني.. ببساطة لأنه فلسطيني.
لم يقل أحد ان الفلسطينيين لا يرحمون أدباءهم. سأقول: ان الفلسطينيين لا يرحمون ادباءهم. ذلك من فرط ايمانهم بفاعلية الادب الذي قدم لهم، ومنهم، تعويضا عن مهانات، عندما فقدوا كل شيء ولم يملكوا الا كلمات. وذلك لأنه استمد منهم القوة ليؤسس لهم العلاقة. نادرا ما يسطو الوطن، كما يسطو على أدب الفلسطينيين. ولذلك، يدرك الفلسطينيون، وبحق، أنهم هم الذين خلقوا ادباءهم.. ولذلك ايضا يطالبونهم دائما بالمواطنية المثالية وبالطاعة الفولاذية، ولا يسمحون لهم ان يكونوا أقل من جنود أو قديسين. ومن هذه العلاقة الصارمة، من هذه المطالبة التي تشل كل شيء يجد الاديب الفلسطيني نفسه “يسرق” حرفة الادب سرا.
وفي النهار عليه أن يمارس اشكالا أخري للتعبير عن التزامه بسلطة الوطن!
هكذا كان غسان كنفاني يغتصب كتابته الفنية من الساعات المخصصة لنومه. ولم تكن الكتابة الا نتاج علاقته بفلسطين – الوطن والحلم والصراع والجماهير والمنفي. كان اكثر من كاتب.. لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف (للتمييز) بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا: كان كاتبا ومناضلا. ليس الامر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتبا مناضلا.
كثيرا ما يجابه الكاتب الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام: هل أنت كاتب أم مناضل؟. في مرحلة تاريخية معينة يحدد الكاتب المناضل بأنه الكاتب الذي يعبر عن حركة القوي الثورية.. عن حركة الجديد. وغالبا ما تكون أداة تعبير الكاتب عن اندماجه بقوي الثورة وهي الكتابة. وقد بقي غسان كنفاني مطاردا بهذا السؤال إلى ان بلغ الشهادة، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان.
كان نشاطه الكتابي متعددا. والطريق التي سفك فيها دمه محرومة من الوصف. لقد رسم جسده الممزق حالات القضية الفلسطينية.. لقد حقق الأسطورة.
كم من صديق رثيت. ولكن لم أحس بأنني أرثي نفسي، فأعيد صياغة حياتي، الا عندما حاولت الامساك بطرف هذا البركان، غسان كنفاني، ماذا بوسعك أن تفعل؟ حقا، ماذا يوسعك ان تفعل؟ هكذا ينقض الكاتب على نفسه في حضرة الكارثة التي لايردها قلم. ولعل مثل هذه الحالات التي تنتقص من جدوي الكلمة وقوتها في سياق المقارنة مع عناصر الطبيعة أو الفعل الهائل هو الذي خلق، منذ القدم، تقليد عقد المقارنة الظالمة بين الكلمة والفعل. ليس الخطأ، دائما، ان تقدم اجابة مخطئة. أحيانا وفي مثل هذه الحالة بالذات يأتي الخطأ من مجرد طرح هذا السؤال.
وان الموت حادث. ولكن هنالك نوعا من الموت يأخذ شكل الاجابة على معضلة أو مقارنة. وهكذا يتحول مصرع الكتاب المناضلين إلى دلالات ورموز. وهكذا كان مصرع غسان كنفاني شهادة على فاعلية الكتابة لا نفيا لها كما يتصور الميكانيكيون والعاجزون امام حركة العلاقات، كهؤلاء الصبية القادمين إلى اسم الثورة من اقاليم العجز والاحباط والقبح، ليصموا عاهاتهم على الورق وعلي نفسية البشر، فيتهمون الفن بالردة، ويتهمون الحياة بالخيانة.
صديقي غسان! كم من صديق ودعت، ولكن لم أودع مرحلة من حياتي إلا في وداعك الاخير. كان آخر ما أنتظر من كوابيس هو ان أقدم لإعلانك السابق عن وجودي منذ عشر سنين. لقد ولدت قبل ذلك، ولكنك أنت الذي أعلن ميلادي. لم أقل لك: شكرا، فقد كنت أحسب العمر أطول.
الآن نقول: أدب الأرض المحتلة ونسكت!! ولكن الحالة كانت تختلف عامئذ، فقد كنا مجموعة من شباب دون الثلاثين تفتقر إلى أدني مقدمات الرد العملي على الهزائم التي يعاصرها وعينا وعارنا. كنا نحاول كتابة الشعر دون ان نعي انه شعر، كنا نصرخ، نتوجع، نحتج، فلم نملك اداة تعبير أخري. كانت أغلبية مواطنينا تسخر منا، لأنها تعرف طفولتنا ومراهقتنا وصبانا معرفة لايليق بها الاعجاب، صبيان يكتبون شعرا. وكان لقب “شاعر” طموحا قاسيا يعذب. وفي أحسن الاحوال كان بعض المعلمين يقول: مبتدؤون لهم مستقبل. حتي العدو نفسه لم يكن يكترث بنا بشكل جاد. وفي الامسيات الشعرية التي كنا نقيمها في القري كان الفضول والاعتبار السياسي وبنات المدرسة هي التي تشجعنا. فقد كان الشعر “المعتبر”.. الشعر المقبول، آنئذ لدى الناس والصحف هو الشعر القادم من الخارج.. هو الشعر المصنوع خارج الأرض المحتلة. وكانت النجوم الشعرية الرائجة في العالم العربي هي ذاتها الرائجة لدي صحف العدو باستثناءات قليلة. ولم نسأل يومها: كيف يسلك الشعر كل هذه القدرة على الاحتيال فيكون مطرب الأضداد؟
وبقينا مجهولين..
إلى أن قام غسان كنفاني بعمليته الفدائية الشهيرة: الإعلان عن وجود شعر في الأرض المحتلة، فانقلبت العلاقة داخل الأرض المحتلة وخارجها، ومشي التطرف إلى نقيضه المتطرف: لا شعر الا في الأرض المحتلة!!.
الفضيحة معروفة. ولا أضيف هنا جديدا. وسأعترف بأن شهادتي لا تتمتع بأية قيمة عدا قيمة الاعتراف: نحن الذين كنا نكتب ما سماه غسان “شعر المقاومة” لم نكن نعرف اننا نكتب “شعر مقاومة” وقد دهشت، قبل سواي، بهذا الشغف السياسي بما نكتبه. كل شيء قابل للتفسير كأن نقول: مرحلة تاريخية معينة انفتحت فيها النفسية العربية الجريح على تقديس كل ما يرد من أرض فلسطين. ولكن.. ولكن بعضنا داخ من اللذة، وبعضنا صار يصمم القصائد لحناجر المذيعين، وبعضنا خاف المسؤولية وقلق وبعضنا أدرك انها موجة وتنكسر ولا يبقى من هذا الزبد غير الشعر الحقيقي. ويومها.. يومها كتبت: “انقذونا من هذا الحب”..
ولكننا نعرف جيدا ان محاولات الغاء الشعر العربي الثوري كله بواسطة خطب حماسية أو بكائيات يكتبها شباب في الأرض المحتلة، قيمتهم الفنية الاساسية هي انهم يعيشون في الأرض المحتلة، قيمتهم الفنية الأساسية هي أنهم يعيشون في الأرض المحتلة، ليست من صنع غسان كنفاني.
إن ما فعله غسان هو كسر الحصار المضروب حول أوضاع العرب في الأرض المحتلة، واضاءة كل موضوع صمود يمارسه ابناء الشعب الفلسطيني هناك. وكان الشعر، ولايزال، أحد وسائل التعبير عن هذه المواقع وعن هذا الصمود.
كان اكتشاف العرب بأن العرب في فلسطين المحتلة يتكلمون اللغة العربية ويحبون بلادهم ويكرهون الظلم اكتشافا مذهلا.. مذهلا حتى الخزي. ومع ذلك اتاح هذا الاكتشاف للصوت العربي القادم من هناك سعادة الاحساس بالانتشار والتغلب على الاسوار، وكان وعي أصحاب هذا الصوت بوجود من يستمع إليهم حافزا لنموه وتطويره لدي البعض، وعقبة امام تطويره لدي البعض الاخر الذي اكتفي بالجغرافيا موهبة غير قابلة للمناقشة.
لقد دل غسان كنفاني الرأي العام العربي على ادب الأرض المحتلة. واما المبالغات واختلال الموازين فتلك مسألة تخص الذين درسوا ما قدمه غسان، لم تكن لفظة “مقاومة” رائجة في الشعر هناك قبل ان يطلقها غسان عليه. وهكذا أيضا دل المسمى على اسمه…
واذا كان غسان كنفاني قد شمل، بهذه الصفة، كل من كتب باللغة العربية في الأرض المحتلة، فلأن افراحه بما يجد كانت تشمل الكتاب واشباه الكتاب، والمقاومين واللامقاومين، لأن أفراحه كانت تشمل اللغة العربية في فلسطين المحتلة. ولذلك، يمكن لفت الانظار الان إلى ان بعض الاسماء الواردة في مقالات غسان كنفاني عن الادب في الأرض المحتلة لا تحتل اكثر من فاصل هامشي في حياة العرب هناك، وبعضها يحتل هامشا سلبيا يتناقض مع تقدير الوهلة الأولى.
وفي الوقت الذي كان يكشف فيه غسان كنفاني غطاء السر عما يكتبه كتاب الأرض المحتلة العرب، كان يدرس نقيض هذه الكتابة واحدي مواد محاوراتها: الكتابة الصهيونية ودورها في تشكيل الوعي والكيان الصهيونيين. وبكلمات أخري: كان يدرس فاعلية الكتابة لدي العدو. فقدم بذلك أول دراسة عربية عن واحد من أخطر الموضوعات الصهيونية. وكان بذلك جديدا وكاشفا ورائدا كعادته.
واذا كانت الصورة التي قدمها غسان عن الادب الصهيوني تفتقر إلى تصوير بعض الجوانب المهمة، فذلك يعود إلى اعتماد غسان على النصوص الانجليزية المختارة من الادب العبري. واذا كانت هذه النصوص المنتقاة وحدها كفيلة بالتدليل على الدور التدميري للثقافة الصهيونية، فكم ستكون الصورة حالكة حين نطلع على الاصل العبري الصريح الذي لا يراعي متطلبات الحرص على الرأي العام خارج الوطن المحتل!..
ان دراسة غسان تتمتع بقدرة كبيرة على التقاط الجوهري وادراك الخصائص الاساسية للأدب الصهيوني، وتشكل حافزا لدي دارسي اللغة العبرية لمواصلة خط الكشف الذي اسسه غسان كنفاني.
وقد يكون من المفيد ان نعرف ان الادب الصهيوني هو إحدى وسائل غسل الدماغ الذي يتعرض له طلبتنا العرب في الأرض المحتلة. ولذلك فإنه يحمل امكانية تشكيل المكونات الثقافية للشاب العربي الواقع تحت الاحتلال، بغض النظر عن اتجاه رد فعله عليه، فهو قد يؤثر في شده إلى مقدمات التعايش على نمط الحياة الاسرائيلية ومن ثم إلى التخاذل أو التساهل تجاه ادعاء الحق الصهيوني على أرض فلسطين، ومن ناحية ثانية يؤثر في شده إلى موقع الرفض لكل جوانب الحياة والفكر الصهيونيين.
> > >
ويا صديقي غسان!
إن البياض أمامي كثير. ودمك الذي لا يجف ما زال يلون. لقد ودعت مرحلة من حياتي حين كنت أودعك. جئت ورأيت. ورأيتك كيف تذهب. لقد اتسعت مساحة الأرض المحتلة ولم يعد ذلك ميزة. ودورة السجون تدور.. تودع وتستقبل. وكل أرض تري استشهاد ابناء شعبي. ونحن مطاردون في كل مكان. والكاتب ملعون ومتهم بالحياة والكتابة. والوطن هو الوطن ولم تكتب فيه حرفا واحدا. وأين هي الأرض غير المحتلة في الكون وأين هي الأرض المحتلة في الثورة؟
ويا صديقي غسان!
لم تتناول طعام الغداء الأخير. ولم تعتذر عن تأخرك.
تناولت سماعة التليفون لألعنك كالمعتاد: “الساعة الثانية ولم تصل! كف عن هذه العادة السيئة”.
ولكنهم قالوا لي: قد انفجر!
والآن، أكتب إليك دون أن أخشى يد كمال ناصر التي خطفت رثائي لك. وقال مازحا: لا تنشر هذا الكلام عن غسان كنفاني. هذا الكلام يليق بي.. وسأقتل قريبا.
كان يمزح؟ نعم. ولكنه انفجر أيضا.
لا أحد يحيا لنفسه كما يشاء.
ولكننا نراك في كل مكان.. تحيا فينا ولنا.. وأنت لا تدري، ولا تعلم.
* أخبار الأدب.