جوبلز الذي لا يموت


د. عمرو حمزاوي*



جوبلز كان المسؤول عن البروباجاندا ــ الدعاية وتزييف الوعي ــ للحكم النازي في ألمانيا بين ١٩٣٣ و١٩٤٥. واستخدم جميع الأدوات المتاحة آنذاك، من صحف وإذاعة ونشرات سينمائية وأفلام روائية والمناهج الدراسية والجامعية وغيرها، للترويج لعبادة الفرد (القائد) ولسمو الجنس الآري وللعداء للسامية ولحتمية إبادة اليهود. وبالقطع، لم يسمح النازيون بتعدد الأفكار أو الآراء أو التفضيلات. بل قمعوا التنوع، وجرموا التداول الحر للمعلومات، وتعاطوا مع الألمان كقطيع يساق إلى حيث يراد له.
وكانت النهاية ملايين القتلى والجرحى في أوروبا والعالم، ودمار شامل لألمانيا التي احتلت وقسمت.
تخلصت البشرية من إجرام النازيين في ١٩٤٥، وآل الحكم في الجزء الشرقي من ألمانيا إلى الحزب الشيوعي الذي سانده الاتحاد السوفييتي السابق. زال النازي، غير أن أدوات جوبلز (انتحر هو وزوجته مع هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وقتلت زوجته أطفالهما قبل الانتحار) تواصل استخدامها. روج حكام ألمانيا الشرقية لعبادة الحزب الشيوعي ولسمو الإيديولوجية الماركسيةــاللينينية التي قاد تطبيقاتها الاتحاد السوفييتي وللعداء للإمبريالية الأمريكية ولحتمية النصر النهائي على المعسكر الغربي. وبالقطع، قمع الشيوعيون التنوع في الفكر والرأي والفن باسم التقدمية، وفرضوا قناعات الحكام كحقائق مطلقة لا تقبل لا الاختلاف ولا مجرد الجدل. تعامل الشيوعيون مع الناس كقطيع عرف كطبقات عاملة ومنتجة، وحددت سلفا مطالب الشعب وأهدافه وأحلامه، وشرعن لاضطهاد المختلفين الذين صنفوا كخونة أو متآمرين أو عملاء أو مارقين.
وكانت النهاية الهروب الجماعي «للقطيع» وانهيار ألمانيا الشرقية وزوال الاتحاد السوفييتي واستمرار المعسكر الغربي إلى اليوم.
انهارت ألمانيا الشرقية، وانتهي حكم الحزب الشيوعي الألماني الذي فرض الماركسية ــ اللينينية كإيديولوجية والتقدمية كبرنامج بين ١٩٨٩ و١٩٩٠. إلا أن محاولات فرض الرأي الواحد وسوق الناس كقطيع انتقلت من الشيوعيين إلى الحركات العنصرية والمتطرفة التي استبدلت العداء للإمبريالية بالعداء للأجانب، وكراهية الولايات المتحدة الأمريكية بكراهية غير الأوروبيين، وحتمية النصر النهائي للشيوعية بحتمية «تطهير» أوروبا من المهاجرين واللاجئين وغير الأوروبيين ــ كل ذلك، على الرغم من حقائق التنوع العرقي والتعايش بين الثقافات في أوروبا. خلال السنوات الماضية، وجدت الحركات العنصرية والمتطرفة ضالتها في الكثير من مواطني ألمانيا الشرقية السابقة. اعتيادهم على استمرارية الرأي الواحد وسيكولوجية القطيع من النازيين إلى الشيوعيين، مكنت لنشر العداء للأجانب والدعاية لمقولات الكراهية. ولم يغير من هذه الحقيقة المريرة اختلاف محتوى البروباجاندا من سمو الآريين وإبادة اليهود مرورا بالأوهام الشيوعية وصولا إلى المطالبة بطرد الأجانب. وتورط بعض مواطني ألمانيا الشرقية السابقة في تأييد النازي ثم في الإيمان بقدسية الحزب الشيوعي أو في مناصرة الأفكار التقدمية للشيوعيين ومن بينها رفض العنصرية والعداء للسامية ثم في التورط في الموبقتين وصنع بيئة مجتمعية معادية للأجانب.
والنتيجة اليوم هي ولايات ألمانية شرقية يجتاحها العنصريون والمتطرفون، ويرسخون لوجودهم المشين في برلماناتها المنتخبة ديمقراطيا، ويشجعون على العنف والاعتداءات على الأجانب وأماكن إيواء اللاجئين، وينتجون خطابا للكراهية يشرعن لاستخدام السلاح لمنع اللاجئين من دخول الأراضي الألمانية.
مكارثية الرأي الواحد هذه تمثل كارثة أخلاقية وإنسانية ومجتمعية، لا فارق في ذلك بين ألمانيا المتقدمة ومصر محدودة التقدم. شيء من الافتتان بالرأي الواحد ومن الاستسلام لسيكولوجية القطيع يجتاح مصر، لا فارق في ذلك بين الأذرع الإعلامية للسلطوية الحاكمة ومن مكارثيي ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة ونزع المصداقية عن المختلفين معهم باسم الوطنية أو الثورة أو الديمقراطية.
* الشروق.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *