*لانا المجالي
(1)
الكِتَابة جريمة اغتيال كاملة للفراغ.
الفَراغُ صَمْتٌ مُكتَنِز بالكلام. الامتلاء فائِض ثَرثَرة.
(2)
ما معنى الفراغ؟ الوجود أم العدم؟ الشيء أم اللاشيء؟
أستعين برؤية تيري إيغلتون، الذي وجد أن السؤال الأكثر جوهريّة من سؤال “ما معنى الحياة/ الشيء”- على سبيل الحصر- ، هو “لِمَ يوجد أي شيء على الإطلاق، بدلاً من لا شيء؟”.
وعليه، فسؤالنا الأكثر جدوى من سؤال “ما معنى الفراغ/ اللاشيء”، هو “لِمَ يوجد لا شيء، بدلاً من شيء؟”.
(3)
نغطي جدران بيوتنا باللوحات والصور،نكايةً بالفراغ؛لأننا كائنات مُجَوَّفة.
أنا مُجَوَّفة وفارغة أيضاً، لكنني أستخدم جدران بيتي كمرايا.
(4)
الفَراغ “كارثة” الفيزيائيين؛ الخُلُوّ من المادة، والامتلاء بالطّاقة الكامِنة اللانهائيّة.
الامتلاء وجود.
الفراغُ – لا تفتحوا القواميس- وجودٌ أيضا.
الموت؛ جَسَدٌ مُفرَغ من الحياة. الجسَد امتلاءٌ فانٍ. الرّوح فراغٌ باقٍ.
(5)
أخْلَعُ جَسَدي
قِطْعَةً
قِطْعَةً،
ولا أنْحَني لالتقاطِه؛
فالفراغُ لا يَنْحَني
… الفراغُ ثقيل.
(6)
دواوين الشّعراء تستضيف الفَرَاغ وتفردُ له بيتًا بثلاث غرف ومطبخ وحمّامين وشرفة تطلّ على حديقة فوق صفحاتها.
الفراغ؛ وَحْدة الشّعراء وبؤسهم.
(7)
الفَراغ؛ عَرَاءٌ.
البدر يتعرّى قطعةً قطعةً، فيصير هلالاً، حتّى يذوي فارغًا.
وفي الأسطورة السومريّة تتعرّى ملكة السماء “إنانا” من ثيابها وزينتها عند كل باب من أبواب العالم السفلي وهي تهبط صوب الظلمة؛ تخلع عن رأسها أولاً تاج السهول، ثم تتنازل عن الصولجان اللازوردي، وهكذا حتى تمثل عارية أمام ملكة الموت؛ أختها “أريشكيجال” التي تأمر بتحويلها جثّة، وشدّها إلى وتدٍ مغروس، لكن تابعها “ننشوبار” يطلب المساعدة من الآلهة بعد مرور ثلاث ليالٍ على غيابها، فيهبّ إلى نجدتها إله المياه العذبة “إنكي” الذي يصنع مخلوقين يفلحان في اقتحام العالم السفلي لإنقاذ الآلهة الميتة ونثر ماء الحياة ستّين مرة، وطعام الحياة ستّين مرة عليها، هنا يعود القمر إلى الظهور في السماء من جديد كفراغٍ يمتلئُ يوماً بعد يوم؛ لأنّ “إنانا” تضع عليها ما خلعته عند كل باب أثناء صعودها.
العُري من أطوار القَمَر.
الفراغ علّة الضوء.
(8)
الفراغ خالق الموسيقا، وسيّدها.
الموسيقا كأيقونة صوتيّة في حيّز معيّن يلزمها فراغ كافٍ ومحسوب بدقّة قادر على بلورة ترددات معزوفة سماوية مثل “الحبّ السرّي” لليوناني نيكوس.
بالمناسبة: الحبّ عدو الفراغ.
(9)
الرسم جريمة اغتيال كاملة للفراغ.
الفنانون قَتَلة، أو قَتَلة إلى حدٍّ ما.
الرسّام والنّحات السويسري ألبرتو جياكوميتي لم يقتل الفراغ كله. صوّبَ نحو قلبه فقط، تاركاً ضحيته (المنحوتة/ اللوحة) النحيلة تحتضر على فراش الفراغ الذي يحيط بها من كل جانب، إذ يعتبر الفراغ أشد حضوراً من الكتلة. والعَدَم أكثر حضورًا من الوجود؛ وفقًا لسارتر الذي وصف تجربته عام 1964 في مقالٍ نقدي حمَلَ عنوان: “الوجود أو بالأحرى العدم”.
أمّا الفنّان الإسباني خوان ميرو؛ فقد استحق لقبه كشاعرٍ للون والفراغ، بعد أن قرر العمل ضمن “احتقارٍ مطلق لفن الرسم”؛ كما يقول، متخليًا عن البعد الثالث وخط الأفق الذي يقسم اللوحة إلى مستويين بصريين، مفسحًا حيّزا للفراغ. هكذا ترك أشكاله وخطوطه حيّة وطفوليّة ومتحرّرة في فضاء اللوحة الشاسع.
(10)
الفراغ؛ نِسيان.
نسيت أم موسى الوعد الحقّ؛ فرَغَ قلبها من اليقين، وامتلأ بالشكّ ( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)/قرآن.
الشكّ طاقة كامِنة من الحُزن، والقَلَق، والهَمّ، والحَنين.
الفراغ؛ نِسيان.
النسيان –في حالات أخرى- ذاكرة خالية من القهر والألم . فارغة من الحقد. ممتلئة بالتسامح. التسامح طاقة كامنة من الأمل، والفرح، والطمأنينة، والمحبّة.
(11)
الفراغ؛ سُكُون، لو أغفلنا الزمن.
وكل غياب للوجود بمثابة وعي لانطلاقه؛ حسب الأطروحة البرغسونية، وعليه ففكرة الفراغ- وظيفياً- أغنى من فكرة الامتلاء، بوجود عامل الزمن.
فها هو (بري) يأمر حسين البرغوثي بالتأمّل في (الضوء الأزرق)، إذ يطلب منه أن يدخل الحمّام، ويفتح (الدوش) حتى آخره، ويراقب الماء حتى الصباح:
“راقب الماء كي تَفهَم شيئًا لم يفهمه أحد حتى الآن، يدعى التغيير. راقب الماء لتفهم الجنون”.
(12)
الفراغ؛ غياب المادة وغيابهم ؛ هؤلاء الذين وصفهم (سان جون بيرس) بأنهم :” إذ يذهبون يتركون على الرمال أخفافهم”، و” يفتحون دروب الحلم التي لا عودة منها”.
(13)
الفَراغ، فَضاءٌ يتَّسع للتأويل والطيران.
“إنَّ بين الأرض والسماء، يا هوراشيو، أمورًا أكثر بكثير ممّا تحلم به فلسفتك”؛ كما قال شكسبير في (هاملت).
أو- كما أقول- اطلقوا للفراغ فيكم العَنان.
___
*العدد 46 من مجلة الإمارات الثقافيّة