أحمد فضل شبلول*
تعد هذه الرواية التسجيلية جزءاً من السيرة الذاتية للكاتب الكبير محمد جبريل، فهو يؤرخ في كتابه الجديد “مقصدي البوح لا الشكوى” لهذا الوجع وذلك الألم الذي ألمَّ به عبر محنة صحية هائلة، وانتكاسة وآلام باح لنا بها بعد إجراء عملية في أسفل الظهر أو في أسفل العمود الفقري، لم تكلل بالنجاح لأنها كانت تريد إجراءً ومتابعة معينة وتثبيت العظام بعدها.
ربما يقترب هذا النوع من الأدب والوجع والألم الشخصي من رواية أخرى هي “حدوتة مصرية” (التي يقال إنها مأخوذة عن عمل ليوسف إدريس) والتي أخرجها للسينما المصرية يوسف شاهين وقام ببطولتها نور الشريف حيث يتناول شاهين أزمته الصحية التي تعرض لها وسافر لإنجلترا للعلاج.
ولكن في “مقصدي البوح لا الشكوى” لم يسافر جبريل للعلاج إلى الخارج حتى لحظة كتابة هذه السطور، رغم صدور الموافقات العديدة من جهات الاختصاص على السفر للعلاج بالخارج على نفقة الدولة. ولكن الموضوع يتجمد عند نقطة معينة لا يتحرك بعدها.
أهدى محمد جبريل روايته إلى “زينب”، ويقصد زوجته د. زينب العسال التي تحملت معه مشاق الرحلة العلاجية بكل تفاصيلها، فكان يتوكأ عليها مثلما يتوكأ على عصاه، ويأخذان بعض القرارات الصعبة معا مثل ضرورة إجراء العملية، ومدى نجاحها، والتردد على الكثير من العيادات والمستشفيات ومعامل التحليل ومواعيد تناول الأدوية، واستبدال أدوية بأخرى، وهكذا. إنه في لحظة إنسانية رائعة يتساءل في ص 112: “ماذا لو أن زينب العسال لم تظهر في حياتي؟”.
ويذكرها أيضا في لحظات العودة إلى الوراء (فلاش باك) وخاصة أثناء عملهما في سلطنة عمان، هي مدرسة تهوى الصحافة والأدب، وهو كاتب وصحفي يخرج جريدة “الوطن” العمانية.
وعلى هذا تأتي رواية “مقصدي البوح لا الشكوى” لتكمل الجزء الأول من تلك السيرة الذاتية العامرة بالبوح والكشف والأدب الرفيع “حكايات عن جزيرة فاروس”.
يذكر محمد جبريل الأسماء والأماكن والتواريخ صراحة في هذا العمل، إمعانا في التسجيلية وفي السيرية، فنرى أنها أبطالاً داخل العمل، أو أنها من شخصيات العمل الروائي، وننسى أنها شخصيات واقعية حقيقية نعرف معظمها معرفة شخصية، بل التقينا بعضها من قبل مثل نجيب محفوظ وفؤاد قنديل وصابر عرب (وزير الثقافة الأسبق) ود. محمد زكريا عناني، ومنير عتيبة ود. عبدالمحسن صالح ويوسف الشاروني وغيرهم.
هل يتغنى محمد جبريل بألمه ووجعه ومرضه على نحو ما فعل أمل دنقل في “أوراق الغرفة 8” وخاصة في قصيدته الرائعة “ضد من؟” على سبيل المثال؟
على الرغم من اختلاف الحالة المرضية بين جبريل وأمل إلا إن المنبع واحد، ولا يملك الكاتب أو الشاعر سوى التغني بهذا الألم وذلك الوجع ليهدينا روائع أدبية إنسانية خالدة، وتظل هذه الحالة قائمة لنقارن ونوازن بينها وبين حالات أخرى مثلما نفعل وننفعل بقصيدة “الحمى” للمتنبي على سبيل المثال.
يقول المتنبي الذي سبق لجبريل الكتابة عنه في روايته التي تحمل عنوان “من أوراق أبي الطيب المتنبي”:
وزائرتي كأن بها حياءً ** فليس تزور إلا في الظلام
و..
أبنتَ الدهر عندي كل بنتٍ ** فكيف وصلتِ أنتِ في الزحام
جرحتِ مجرحاً لم يبق فيه ** مكان للسيوف ولا السهامِ
يضيقُ الجلد عن نفسي وعنها ** فتوسعه بأنواع السقام
إذا ما فارقتني غسلتني ** كأنا عاكفانِ على حرام
إن الروائع الأدبية التي كتبت عن المرض وفي المرض كثيرة، نضيف إليها اليوم “مقصدي البوح لا الشكوى” لمحمد جبريل الذي يطلعنا من خلالها على مصر المعاصرة، ويكشف لنا أساليب التعامل مع البشر والمرض خلال السنوات الحالية.
إنه وهو على فراش المرض والوجع يشخص أمراض مجتمعنا المصري المعاصر من خلال التردد على العيادات والمستشفيات والصيدليات والتعامل مع الأطباء وبقية المرضى، خاصة أنه عاصر إضراباً للأطباء للمطالبة بحقوقهم بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو.
يقول جبريل في ص 33 على سبيل المثال: “إضراب الأطباء يعني التقاعس عن أداء واجب يتصل – مباشرة بحياة المواطنين”، ويضيف في ص 34: “لم أتصور أن الأطباء يعاقبون المرضى، حتى يحصلوا على حقوقهم من إدارة المستشفى”.
ويضيف في موضع آخر ص 43: “أما الفقراء فليس من حقهم أن يمرضوا، من العيب أن يمرضوا”.
إنه أحيانا ينسى ألمه الشخصي ووجعه البدني، ليعرض لنا مشهداً من وجع مصر وآلامها المعاصرة، كيف لا، وهو الذي قدم لنا من قبل “مصر في قصص كتابها المعاصرين”، و”مصر المكان”.
الغريب في آلام محمد جبريل ووجعه أنه كما قال أحد الأطباء “يحدث مرة كل مليون”. يقول له الطبيب: أنا من مدرسة تصارح المريض بحالته، ثم أردف بابتسامة طفل: موضع الإصابة تحدث مرة كل مليون.
إنها إصابة في العمود الفقري. يقول الطبيب عن احتمالات العملية الجراحية في هذا الموضع – بعد رؤيته لصورة الأشعة – إنها احتمالات أربعة: تلوث أو التهاب، فقد السيطرة على البول والبراز، شلل رباعي، موت. ثم يضيف: قد أجري عملية وإن كنت لا أعد بنتائجها. وعلى ذلك يدخل المريض محمد جبريل الحجرة المستقلة رقم 412 بالطابق الرابع بمستشفى عين شمس التخصصي.
لا يكتفي محمد جبريل بالعودة إلى الوراء خلال حياته الشخصية، ولكنه يعود إلى الوراء خلال حياة مصر أيضاً حيث يشير إلى الأطباء المصريين في مصر الفرعونية أو مصر القديمة، ويدوّن قَسَم المصري أبقراط الذي صار التزاما لكل أطباء العالم، بل أنه يعود إلى الأدب العالمي القديم والحديث ليستخرج لنا كنوزاً أدبية تلائم حالته المرضية أو تتوافق وتنسجم معها، فنسمع الشاعر الفرنسي رامبو يقول لشقيقته: “سأوارى تحت التراب، أما أنت فتسيرين في ضياء الشمس”.
بعد العملية التي أجراها الدكتور علاء عبدالحي أصبح الكاتب محمد جبريل مريضاً لم يكتمل علاجه، فالطبيب نسي تثبيت العظام، وصار عموده الفقري – كما أثبتت الأشعة – معلقاً في الهواء!
وهنا تعلو الدهشة وتؤخذنا الحيرة، وفي التحليل الروائي – بما أننا أمام عمل روائي – نصل إلى نقطة عالية من التشويق والفجيعة التي تجعلنا نواصل القراءة لكي نعرف تبعات هذه العملية وما أدت إليه من أحوال مرضية وحياتية لبطل الرواية.
إن البطل في أشد الأحوال سواداً وحلكة يتشبث بالأمل والحياة والجمال، فيحدثنا على سبيل المثال عن صوت فايزة أحمد (أحب الأصوات إلى نفس السارد أو الكاتب أو جبريل)، كما أنه يستحضر عذابات وآلام الآخرين سواء من أصدقائه أو من الأدباء الآخرين، ربما ليخفف وطأة المرض عن نفسه وعن قارئه عملاً بالمثل الدارج “اللي يشوف بلاوي الآخرين تهون عليه بلوته”.
إنه لا يملك سوى إرادة المقاومة والتشبث بالحياة. وفي هذا يقول قرب نهاية الرواية:
“تاريخي المرضي حافل بالكثير من الأعراض والآلام والمسكنات والعمليات الجراحية والتوقعات. قيمة الحياة دفعتني – ولا تزال – إلى مقاومة ما أواجهه من تطورات سلبية”.
إننا نرى محمد جبريل يسير الآن على الكورنيش من رأس التين حتى المنتزه يستعيد رؤاه وذكرياته، يذكرنا بأعماله الروائية وكتاباته المتعددة، لا يدركه الملل، ويستعير قول محمود درويش: إني هنا، ومازلت حيا.
* الأهرام.