أولاد الجيتو: ملحمة اللِّد أو أن تكون ضحية الضحية!


د. سيزا قاسم




في سنة 2014 تعرضت لحادث وأجريت لي عملية في مستشفى في فرنسا وكانت معي في نفس الغرفة سيدة فرنسية في منتصف العمر. عندما عرفت أني مصرية بدأت تتحدث معي تستفسر عن بعض المعلومات عن المنطقة وذُهلتُ عندما قالت لي إن إسرائيل دولة عظيمة لأنها استوطنت صحراء جرداء خالية تماما وجعلت منها جنة الله على الأرض! يا قوة الله! هل هذا ممكن؟ وعندما أعلمتها أن إسرائيل اغتصبت أرضا كانت آهلة بالسكان من آلاف السنين أُسقط في يدها إلا أنها صدقتني. ماذا نفعل أمام هذا التزييف والكذب والتدليس؟ كيف نكشف الستار عن الحقائق، كيف نكسر حائط الصمت؟ ماذا نفعل لكي يصل صوتنا إلى الآذان الصماء؟
من الذي سيحكي حكاية الاربعمائة قرية ومدينة فلسطينية التي دمرت في سنة 1948؟ من الذي سيتكلم بصوت السبعمائة آلف فلسطيني الذين هُجِّروا من أوطانهم في سنة 1948؟ فلكل قرية حكايتها ولكل فرد منهم حكايته. 
قام إلياس خوري ببعض هذه المهمة في روايته الأخيرة “أولاد الغيتو… اسمي آدم” عندما كتب ملحمة اللِّد. 
يبدو أن مجزرة اللِّد ظلت طي النسيان إلى أن بدأت أصداؤها ترتفع أخيرا هنا وهناك في بعض النصوص الفلسطينية والعبرية. ففي سنة 1993 نشر ازبير منير حكاية مدينته وهو من سكان اللد الأصليين الذين لم يبرحوا المدينة أثناء التطهير العرقي الذي قامت به قوات الجيش الإسرائيل في تموز/يوليو من سنة 1948، كما بدأت جماعة ذوكور الإسرائيلية في تجميع شهادات الفسطينيين واليهود الذين شهدوا المجازر التي كان سكان القري والمدن الفلسطينية ضحيتها. التقط إلياس خوري هذه الخيوط ونسجها ليقدم لنا مأساة اللّد؛ هذه المأساة التي خفيت على الأسماع، وما هي إلا واحدة من المآسي التي تعتبر عارا على جبين الإنسانية. 
هذا الكتاب ليس رواية، ولكنه سفر من الأسفار العظيمة التي تجمع بين طياتها الأسئلة المصيرية الكبري التي تثار عندما نواجه أنفسنا في مرآة الحياة. هو صرخة عذاب. إنه طريق الآلام الذي أدي بالمسيح إلى الجولجوتا. شعرت وأنا أقرأ هذا الكتاب أن الكلمات جمرات تلهب اليد عندما نقلب الصفحات… 
إن النكبة مستمرة بعد أكثر من ستين عاما. لذا عاد إلياس خوري إلى المجزرة لكي يوقظ الذاكرة من سباتها. ولكن لا بد من تأكيد أن هذا الكتاب ليس مانيفستو ولا عملا تاريخيا ولكنه عمل أدبي رفيع المستوي يقتلع القلب، يخلخل القناعات، ويعيد طرح القضايا الكبري. 
لا يوجد بديل عن قراءة الكتاب حيث إن كل صفحة من صفحاته الأربعمائة جديرة بالقراءة والتأمل وإعادة القراءة ولكنني سأحاول في هذه الكلمات المقتضبة أن أضع أمام القارئ بعض مفاتيح هذا السفر العظيم. 
يقول إلياس خوري إنه لم يكتب هذه الرواية، بل حصل على النص من فتاة كورية من طلابه في جامعة نيويورك الذي يدرّس فيها. لم يكن النص مكتملا ولكنه كان عبارة عن صفحات مكتوبة على دفاتر جامعية عادية من نوع fivestar. احتار إلياس خوري أمام هذه الدفاتر ماذا يفعل بها؟ 
هل ينسبها إلى نفسه ويصوغها في شكل رواية؟ إلا أنه في النهاية قرر أن ينشرها كما هي. 
من هو صاحب هذه الدفاتر؟ إنه رجل ملتبس الهوية. يظنه البعض إسرائيليا لأنه يتحدث العبرية بطلاقة ويعمل في مطعم يملكه رجل اسرائيلي، بينما يظنه آخرون أنه فلسطيني لأنه يمتلك ناصية اللغة العربية. 
قابل إلياس خوري هذا الرجل عن طريق طالبته الكورية التي عرفته به. وحدثت مشادة بينهما لأن الرجل، واسمه آدم دنون، اعترض على أن روايته باب الشمس مليئة بالمغالطات، لأن الرجل يعرف كل الأشخاص المذكورين في الرواية وأن إلياس خوري أجحفهم حقهم. 
يخلط الكاتب الأمور منذ الصفحات الأولي، إذ يدخل الواقع في المتخيل، والخيال في الواقع. ويدخل إلياس خوري نفسه في عالم الرواية التخييلي، وبذلك يؤكد أن لا حقيقة للواقع، ولا وهم في التخييل. فهاملت أكثر حقيقة من شكسبير، وأبله دستويفسكي أكثر حقيقة من دستويفسكي نفسه. ومن هذه العتبة ندخل عالم إلياس خوري التخييلي المصنوع من كلمات وكأن الشخصيات الروائية قد أصبحت شخوصا من لحم ودم يعيشون بيننا. 
دفاتر آدم دنون 
يتكشف لنا أن صاحب الدفاتر كان يعتزم كتابة رواية موضوعها حياة الشاعر الأموي وضاح اليمن. قصة هذا الشاعر معروفة ومذكورة في جميع المصادر العربية ولكن السؤال المحير لصاحب الدفاتر هو لماذا لم يدق وضاح اليمن على الصندوق لكي ينقذ حياته عندما شرع الخليفة الأموي في دفنه حيا. إن الفارق بين الحكاية المدونة في كتب التراث والرواية التي يكتبها آدم دنون هو أن الروائي يستطيع أن يدخل في جوف الصندوق ليتعرف على مشاعر الشاعر ودوافعه لاختيار الموت صامتا. واستدعت قصة وضاح اليمن والصندوق، قصة الفلسطينيين الثلاثة الذين ماتوا مختنقين في خزان عربة خزان المياه دون أو يدقوا عليه؛ في رواية غسان كنفاني رجال في الشمس. 
ومن هاتين القصتين نستشف سؤالين هما عصب الكتاب: لماذا لم تنفعل الضحية وتحاول إنقاذ حياتها؟ لماذا تختار الصمت والانصياع؟
يترك آدم دنون وضاح اليمن وينتقل إلى محاولة كتابة رواية أخري عن حياته، ولكنه يقف حائرا أمام ما يكتب. هل هي رواية، أم مذكرات، أم سيرة ذاتية، أو هي تاريخ؟ كما أنه يقف أمام كل حدث ويعلق عليه مستدعيا ما يتلاحم مع الحدث من خيوط وحكايات. فكل حكاية تؤدي إلى حكاية أخري. في بعض الأحيان يتتبع الحكاية وفي البعض الآخر يتركها معلقة. 
الذاكرة والنسيان
كان آدم دنون طفلا رضيعا عندما بدأت حكاية اللد. فكيف له أن يروي لنا حكايته؟ وهنا يقول إلياس خوري إن الذاكرة مرآة مهشمة مبعثرة وعلينا أن نلملم الشظايا ونعيد رأبها حتى نستطيع أن نري صورة الماضي. فذاكرة كل منا ما هي في واقع الأمر إلا محصلة الحكايات التي استمعنا إليها خلال حيواتنا. كيف نستطيع أن نعرف أصلنا وتاريخنا إلا من خلال ما يرويه آخرون لنا؟ ولكن هل صدقوا؟ آليس من الممكن أنهم يغشوننا؟ وكلنا عاش بعض هذه الأحابيل؛ بل وتتغير الصورة مع مرور الأيام… كانت المفاجأة التي تكشفت لآدم دنون لم تخطر له على بال! فأمه ليست أمه وأبوه ليس أباه! فبينما كبر على أنه ابن ممرضة فلسطينية اسمها منال من قرية عيلبون في الجليل كانت انتقلت إلى اللد مع زوجها حسن دنون الذي مات شهيدا في بداية الحرب، اتضح أن صديق أمه مأمون الأعمي – الذي رباه حتى بلغ السادسة – عثر عليه ملقي على صدر أمه الميتة تحت شجرة زيتونة على قارعة طريق عندما كان سيل المهاجرين ينطلق هاربا من المدينة… فمن أمه إذن؟ هذه المرأة البائسة التي ماتت عطشا وجف ثدياها؟ ومن أبوه؟ هل ترك الرجل امرأته وطفله وهرب مع الهاربين؟ أم مات هو الآخر قتيلا برصاص الجنود الإسرائيليين؟ أليست هذه القصة هي قصة الطفل الذي نسيه أهله في رواية غسان كنفاني عائد إلى حيفا؟ أليست هذه حكاية كل أطفال نكبات الأرمن أثناء الحرب العالمية الأولي، والسوريين في أيامنا الحزينة؟ 
يترك هذا الاكتشاف الرجل الخمسيني مشدوها. إنه عاش عمرا وهو يجهل حقيقة كيانه وهويته. ولكن آدم لم يكن مستقر الهوية. إذ كان يخترع لنفسه كيانات مختلفة، فادعي يوما أنه ابن رجل يدعي يتسحاق، هرب حين كان في السابعة عشرة من عمره من جيتو وارسو، تاركا خلفه أما كهلة ومريضة، ثم وجد نفسه في اسطنبول، قبل أن يحط به الرحال في تل أبيب ويتزوج ابنة مهاجر روسي، وأنجباه. مات الرجل في حرب الاستقلال وترك الأم وحيدة في جنونها بكوابيس الخوف. وعندما هاجر آدم دنون إلى نيويورك عمل في مطعم للفلافل يمتلكه رجل إسرائيلي وكان الناس يتصورون أنه إسرائيلي لأنه يتكلم العبرية بطلاقة… ولم يحاول آدم رفع هذا الالتباس… هذه هي مأساة الفلسطيني الذي سرقت منه أرضه ولغته وذاكرته وهويته… لم يحل آدم دنون مشكلة هويته وظل تائها يسعي لاسترجاع ذاكرته من شتات ذاكرة الآخرين. 
كانت هذه الذاكرة ضبابية لأنه يحاول في كتابة هذه الرواية-السيرة الذاتية أن يستعيد ما كانت أمه تقصه عليه وهو طفل صغير. ولكن كانت هناك أشياء لم تقوَ منال على روايتها، حيث يختار الكثيرون النسيان كي يستطيعوا مواصلة الحياة. ولكن هل الصمت هو الوسيلة التي تمكننا من النسيان؟ 
حكاية الغيتو
ما هو الغيتو الذي يذكره إلياس خوري؟
إن الغيتو هو المرآة التي تعكس صورة اليهود أمام صورة الفلسطينيين. لم يعقد إلياس خوري مقارنة بين المحرقة النازية والنكبة الفلسطينية. اكتفي فقط بوصف ما فعله الجنود الأسرائيليون بسكان اللد الذين لم يبرحوا مدينتهم. جمعوهم في حي من أحياء المدينة وسيجوه بالأسلاك الشائكة ومنعوهم من مبارحة هذا المكان وأسموه “غيتو العرب”. كان عدد هؤلاء السكان خمسمائة نسمة على قدر الشهادات التي ذكرت ملحمة اللد. لم يفهم السكان هذه التسمية حتى أنهم تصوروا أن معني “غيتو” تعني “حي”. ولكن مأمون الأعمي الذي كان على دراية بمعني هذه
الكلمة أفهمهم أن هذه هي التسمية التي كانت تطلق على الأحياء الخاصة باليهود في أوروبا، وأن النازيين فعلوا هذا مع يهود وارسو أثناء الحرب العالمية الثانية. فعلقت منال على هذه المعلومة بقولها احنا صرنا يهود… الفلسطينيون هم يهود اليهود… ضحية الضحية… ولكن هذه حكاية أخري على قول إلياس خوري. 
عاش أولاد الغيتو حياتهم اليومية في الذل والهوان. في الحرمان والموت. حفر آدم دنون ذاكرته يستخرج منها الحكايات التي كانت أمه قد حكتها له ولكن الذاكرة مليئة بالثقوب وهو ترك أمه عندما تزوجت وهو في السادسة عشرة ولم يسألها عن الكثير. 
فكيف له من رأب هذه الثقوب؟ 
لم تكن مأساة اللد هي أولاد الغيتو، ولا النازحين. بل كانت في من قتلوا وظلت جثثهم ملقاة في الشوارع، ومتروكة في البيوت، حتى تعفنت. ماذا يفعل الجنود الإسرائيليون بهذه الكارثة وكيف يتخلصون من هذه الجثث. 
هذه هي الحكاية التي لم تستطع منال حكايتها لآدم، ولم يستطع مأمون الأعمي أن يطلعه عليها. في يوم من الأيام قابل ادم دنون رجلا فلسطينيا من سكان اللد في مطعم الفلافل في نيويورك اسمه مراد العلمي. وتصادق معه. وفي ليلة من الليالي دعاه الرجل إلى العشاء وفتح في هذه الليلة الفصل الأخير من مأساة اللد وهو حرق الجثث.
يضع إلياس خوري مرآة المحرقة النازية أمام المدينة الفلسطينية لنشاهد الكتيبة الخاصة sonder commando… من هم هؤلاء؟
هؤلاء كانوا يهودا من نزلاء معسكرات الموت النازية، وكانت مهمتهم التخلص من جثث الموتي الذين تم إعدامهم. وهكذا فعل الجنود الإسرائيليون في اللد! كونوا أربع مجموعات من شباب الغيتو ولم يعلموهم بالمطلوب منهم أن يفعلوه. إلى أن فوجؤوا بأن عليهم جمع الجثث الملقاة في الطرقات والمتروكة في البيوت، والتخلص منها بالدفن أو الحرق. 
هذه الصفحات تقتلع القلب اقتلاعا… عندما دخلت مجموعة من الشباب بيتا من البيوت فوجدوا جثة طفلة صغيرة فانهار شاب صارخا أختي لطيفة… فالتمت حوله المجموعة وعندما أتي الضابط الإسرائيلي على الضجيج قالوا له إنهم يرفضون إلقاء الجثة في الحفرة الجماعية وأنهم يريدون دفنها في قبر مستقل ويقيمون عليه مقاما. وأصبح قبرها مقام الملاك الصغير. ثم زاره الخضر ليصبح من وقتها مزارا عرف بمقام ملاك الخضر الذي يؤمه سكان اللد… 
لم يكن مراد حكي هذه الحكاية لأحد. حتى زوجته اعتدال سمعتها في هذه الليلة لأول مرة. اختفي مراد من حياة آدم دنون بعد أن حكي له حكاية ال sondercommando فلم يستطع التعايش مع من عرف هذا الفصل من حكايته، والذي كان احتفظ به مدفونا في أعماق غياهب الذاكرة، حتى يتمكن من مواصلة الحياة. 
الرواية والتاريخ
هل هذا السفر تاريخ؟
لا بكل تأكيد. الأدب ليس تاريخا. فلكي نكتب تاريخا فلا بد أن نوثقه… أما الرواية فتستطيع أن تتسلل داخل النفوس، أن تنقل المشاعر والأحاسيس، أن تحول الناس العاديين إلى أبطال. 
وأنهي هذه الكلمة بحكاية على طريقة إلياس خوري. 
في سنة 1930 زار الكاتب النمساوي الشهير فرانز فيكتور فيرفل (1980 ــ 1954) – Franz Viktor Werfel -دمشق وأثناء زيارته مصنعا للسجاد رأي أطفالا يعملون فيه من اللاجئين الأرمن، الهاربين من الإبادة الجماعية التي اقترفها الأتراك. وكانت حالتهم يرثي لها، فتمزق قلبه. وعندما عاد إلى فيينا كتب رائعته أربعون يوما على جبل موسي عن مقاومة الأرمن للتنكيل التركي. نشرت الرواية سنة 1933 وأحدثت دويا مروعا، وكأن فيرفيل يتنبأ بما سيفعله النازيون باليهود. وليس من الغريب أن هذا الكتاب استفز النازيين فأحرقوه من بين ما أحرقوا، واضطر فيرفيل إلى الهرب وانتهى به المصير في الولايات المتحدة حيث توفي. 
ولكن الحكاية لا تنتهي هنا. إذ اخترقت هذه الرواية سياج غيتو وارسو، حيث كان اليهود المحتجزون وراء الأسلاك الشائكة ينظمون مدارس ومكتبات، يهربون إليه الكتب والمنتجات الثقافية الأخري في محاولة خلق مناخ من المقاومة الروحية. وكانت رواية فيرفيل أربعون يوما على جبل موسي من أكثر الأعمال رواجا بين أولاد الغيتو في وارسو. 
أحرق النازيون كتاب فيرفيل لأنه الفاكهة المسمومة لكاتب يهودي نادى بالسلام والحب للإنسانية جمعاء، ومعادة القومية المتطرفة… 
* أخبار الأدب.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *