*أ.د. ضياء نافع
يقف الروائي الروسي ليف نيقولايفتش تولستوي(1828-1910) في طليعة روائيي العالم بلا شك, فهو مؤلف الرواية العظمى (الحرب والسلم) ورواية ( آنا كارينينا) ورواية ( البعث), أما في مجال الأدب المسرحي, فقد حاول تولستوي ان يسهم ايضا , وكتب عشر مسرحيات في حياته, الا انه لم يستطع ان يحقق نفس تلك النتائج التي حققها في مجال الرواية, ومع ذلك فان مسرحيات كتبها هذا الأديب الروسي الشهير والكبير مازالت تستحق التوقف عندها ودراستها. لقد بقيت في الوقت الحاضر بعض تلك المسرحيات العشر ليس الا, والتي ما زال المسرح الروسي (والعالمي الى حد ما) يتناولها ويعرضها على خشبته ويناقشها, أما بقية المسرحيات فقد أصبحت جزءا من التاريخ المسرحي الروسي فقط. القارئ العربي لا يعرف عموما الكثير عن مساهمة تولستوي في مجال الفن المسرحي رغم ان كل مسرحياته مترجمة الى اللغة العربية, ولم يتم عرضها على خشبة مسارحنا العراقية يوما حسب علمنا , ولا نعرف ان تناولها المسرحيون العرب في بقية البلدان العربية , ونكرس هذه المقالة لعرض الأعمال المسرحية لتولستوي التي قدمها خلال حياته وما بقي منها لحد الآن .
ابتدأ تولستوي طريقه في المسرح عندما كان معروفا في الأدب الروسي بما فيه الكفاية في مجال القصة وذلك في أواسط ستينات القرن التاسع عشر, وقد سافر من ضيعته المعروفة ( ياسنايا بوليانا) الى موسكو خصيصا ليقرأ مسرحيته الكوميدية الموسومة ( أسرة موبوءة) للكاتب المسرحي الروسي الشهير أستروفسكي, ولم يرغب أستروفسكي ان يحبط همة تولستوي ولم يشأ ان يقول له ان ما كتبه لا يحتوي على العناصر الحقيقية اللازمة للفن المسرحي, وانه يجب ان ينقحها بشكل جذري, وقد كتب استروفسكي الى الشاعر نكراسوف لاحقا رسالة بتاريخ 7 / آذار عام 1864 يصف فيها كيف ان تولستوي ( جره الى مسكنه) كي يقرأ له ( كوميديته الهابطة جدا). لقد أراد تولستوي ان يعرض المسرح الدرامي بمسرحيته تلك ولكنهم رفضوها بدبلوماسية, رغم توسط البعض ممن يعرفون تولستوي وقيمته الأدبية , وقد فهم تولستوي ذلك فتركها وعاد الى ضيعته وأهمل المسرح لفترة طويلة. لقد حاول تولستوي الكتابة للمسرح , بل ان إحدى محاولاته قد عرضت في بيته وقامت بتمثيلها زوجته وأختها وأخت تولستوي نفسه , وكانت تتناول موضوع العدمي , والذي تناوله تورغينيف في روايته المعروفة ( الآباء والبنون) أواسط الستينات ,الا ان تولستوي كان مباشرا بتناوله للموضوع وتحدث عن عدم تعاطفه الكلي مع أفكار العدميين ولم يعكس الا الجوانب السلبية لهم,وقد تم العرض بشكل هزلي بحت ليس الا وفي وسط عائلي فقط, لدرجة ان تولستوي أهمل النص ولم ينشره أثناء حياته , وتم نشره بعد موته عندما وجدوه في أوراقه.
المسرحية التي نشرها تولستوي وخصصها للمسرح الشعبي جاءت في أواسط الثمانينات فقط (اي بعد حوالي عشرين سنة تقريبا من محاولاته المسرحية الأولى), وهي مسرحية هادفة تسعى الى تربية الشعب وتثقيفه , وهو ما كان يهدف إليه تولستوي في مسرحه عموما ويرى ان هدف المسرح يكمن في ذلك قبل كل شيء, وهذا هو السبب الرئيسي في الخلافات اللاحقة مع تشيخوف وستنسلافسكي التي حدثت فيما بعد , اذ ان تولستوي كان يعتقد جازما ان المسرح يجب ان يتناول أحداثا تربوية وتوجيهية محددة , وأصبحت مشهورة كلماته الغاضبة التي قالها عندما ترك المسرح أثناء عرض مسرحية تشيخوف بإخراج ستنسلافسكي , والتي اشار فيها الى ان المسرح لا يمكن ان يقوم لمجرد ان شخصا يرقد على الأريكة وينظر الى الحديقة ليس الا.
كانت تلك المسرحية بعنوان (المقطٌر الأول) (ترجمها زميلي المصري المرحوم الدكتور فوزي عطية ونشرها ضمن سلسلة المسرح العالمي الكويتية بعنوان –أول من صنع الخمر) وقد نشرها عام 1886 وتتناول موضوعة الخمور والشر الذي تحمله في حياة البشر, وقد اقتبسها تولستوي من قصة كتبها هو نفسه في تلك الفترة, عندما كان يمر بأزمته الدينية – الأخلاقية المعروفة في مسيرة حياته , والتي قرر فيها بضرورة التوجه الى الشعب وتنويره وتهذيبه وتثقيفه .كانت القصة , وبالتالي المسرحية تدور حول إغراءات الشيطان لمختلف فئات الشعب من إقطاعيين وتجار وموظفين ونساء وفلاحين, وكيف يتعامل الشيطان مع الفلاحين ويغريهم بصنع الخمر , الذي يثير المشاجرات والخصام عندما يفرطون بشربه. لقد اراد تولستوي ان يقول ان الكحول من اختراع الشيطان نفسه,وان من يتناولها يقع في قبضة الشيطان,ومن المعروف ان تولستوي قد اقلع عن شرب الخمر وعن التدخين ايضا, وكان في تلك الفترة نباتيا.
تم عرض المسرحية في موسكو وبطرسبورغ , لكن الرقابة منعتها عام 1888 بسبب التهجم على الموظفين والإقطاعيين فيها.
بعد تلك المسرحية كتب تولستوي سبع مسرحيات أخرى ,ومن أهمها واشهرها ثلاث مسرحيات هي – سلطة الظلام وثمار التربية والجثة الحية, وهي المسرحيات التي ما زالت باقية لحد الان من بين كل مسرحياته العشر.
سلطة الظلام او سلطة العتمة او قوة الظلام او قوة الظلمات او سطوة الظلام او سلطان الظلمات كما جاءت في مختلف الترجمات العربية ( وكلها تمثٌل اجتهادات ترجمية صحيحة) – هي مسرحية كتبها تولستوي عام 1886 اعتمد فيها على حدث حقيقي في مدينته تولا , حيث قتل احد الفلاحين وليده من ابنة زوجته ( التي كان عمرها 16 سنة) ودفنه في فناء البيت, وفي يوم زواجها اعترف بجريمته أمام الجميع. لقد اثارت القضية في حينها ضجة هائلة في المجتمع الروسي آنذاك, وقد زار تولستوي نفسه هذا الفلاح في السجن مرتين وتحدث معه, وادخل الكاتب المسرحي بالطبع بعض التعديلات على الحدث, ولكنه اشار في إحدى رسائله الى انه استخدم في مسرحيته تلك الحادثة. ان الفكرة الرئيسية عند تولستوي كانت تكمن بالذات في الاعتراف بالجريمة , او بكلمات أخرى الاعتراف بالخطيئة بشكل عام, او الاعتراف بالذنب علنا وأمام الجميع – هو العقاب الحقيقي للمجرم بغض النظر عن العقوبات الاجتماعية والقانونية الأخرى في هذا المجال, اي ان فكرة تولستوي تبين ان الاعتراف بالخطأ او بالذنب هو الوسيلة الكبرى والاهم للتكفير عن تلك الخطيئة, وان الندم هو العقاب الأساسي والحقيقي .
تم فيما بعد عرض المسرحية– وبنجاح كبير- في روسيا, اما المسرحية الأخرى الباقية لحد الآن فهي – ( ثمار التربية)والتي ترجمها المترجمون العرب ب ثمار المعرفة او ثمار الحضارة, وقد أنجزها تولستوي عام 1889 ومثلوها على خشبات المسارح الروسية بنجاح وتم ترجمتها الى عدة لغات أجنبية, وتناولت حياة الإقطاعيين التافهة المترفة ومعاناة الفلاحين الرهيبة .اما المسرحية الأكثر شهرة عند تولستوي فهي مسرحية ( الجثة الحية) والتي اعتمد فيها على واقعة حقيقية جرت في المجتمع الروسي آنذاك حول زوجين اختلفا فيما بينهما وطلبت منه زوجته ان يتظاهر بالانتحار لتتزوج من شخص آخر ولكن اللعبة انكشفت وأحيلا الى القضاء.لقد انجز تولستوي مسرحيته تلك عام 1904 بعد ان اضاف إليها لمسات اخرى بالطبع ,الا ان ابن تلك العائلة زار تولستوي وتقدم إليه بطلب عدم نشرها, وهذا ما تم فعلا , وقد جرى نشرها بعد موت تولستوي عام 1911 وحازت على نجاح باهر , خصوصا عندما عرضها ستانسلافسكي في مسرح موسكو الفني, وما زالت هذه المسرحية تعرض في مسارح روسيا المختلفة , وقد شاهدتها أنا شخصيا ورأيت استقبال الجمهور الروسي المتحمس لها والتصفيق الحاد للممثلين الذين أدوا أدوارها, وخصوصا تلك المشاهد الرائعة الجمال للاغاني الغجرية التي كانت تؤديها فرق باكملها وهي ترتدي الملابس الفلكلورية المزركشة مع العزف الحي لمختلف الآلات الموسيقية المصاحبة لها, هذا وقد حازت هذه المسرحية ايضا على نجاحات كبيرة عند عرضها على عدة مسارح أوربية.
لقد كتب تولستوي عدة مسرحيات أخرى منها– ( النور يسطع في الظلام) و( كل الفضائل تأتي منها) إلا ان مسرحياته الثلاث التي ذكرناها هي التي مازالت تعرض على المسارح لحد الآن ولكنها لم تستطع – مع ذلك – ان تشكٌل مدرسة مسرحية متبلورة وذات مفاهيم جمالية محددة مثلما كانت رواياته الملحمية العملاقة, ولكن هذا لا يمنع من دراستها وتحليلها و استنباط الدروس الفنية منها بلا شك.
_______
(المدى)