أحلامنا الوردية الخادعة


*بسمة النسور


غالباً ما يجنح الوهم بنا، فنتمادى في تضليل أنفسنا، قبل أن نمعن عن سابق إصرار وتصميم في خداع الآخرين، ممن قادهم حظهم السيئ للتعاطي معنا غير متمتعين بأي من الفضائل التي نعظمها في أدبياتنا، مثل النزاهة والصدق والصراحة والموضوعية، وبالتالي عاجزين، بصورةٍ مؤسفةٍ، عن الاعتراف بالخطأ، مهما بلغ من فداحةٍ، متهرّبين بشكلٍ مؤسفٍ عن تحمل المسؤولية التقصيرية، حتى عند ثبوتها بالوجه الشرعي، ونصر على تمويه الحقائق والتلاعب بالصورة، مدجّجين بمهاراتٍ غير مسبوقة في تقنيات (الفوتو شوب)، محاولين إخفاء عيوبها، عاملين على تجميلها، مهما بلغت درجة قبحها.
يزدحم خطابنا الدفاعي الراهن بعبارات الإدانة والاستنكار والشجب والتنديد والتنصل. وذلك كله في معرض ردود أفعالنا على كل ما هو سيئ من ظواهر سلبية مؤسفة، باتت لصيقةً بمجتمعاتنا غير الناهضة، من تطرّف وعنف وطائفية وإقليمية ضيقة وفساد وظيفي وفقر وبطالة وجريمة واعتداء سافر على الطفولة.
نحب أن نصدّق بأننا الأفضل والأنقى والأكثر براءةً والأنصع بياضاً بين شعوب الدنيا في تكرارٍ لا واعٍ، لا يخلو من خطورة للفكرة التوراتية التقليدية حول شعب الله المختار، المنزّه المتفوق، المغفورة خطاياه. ولا نتردّد في طرح أنفسنا في المنابر، كأبناء بيئةٍ فاضلةٍ مفلترة من الشوائب، وكأفرادٍ ينتمون إلى مجتمعاتٍ تتميز بثقافةٍ بالغة الطهرانية والعفاف والمثالية، خاليةٍ من كل آفات العصر وشروره، فليس بيننا من هو منحرف أو قاتل أو لص أو خائن أو مغتصب أو متكسب أو مخادع. كلنا “ما شالله” كائناتٌ مثالية، تعيش في وئام وتصالح، بالغة الطيبة، أقرب إلى الملائكة لشدة كمالها، ولا ينقصنا سوى أجنحةٍ، كي نرفرف بها، هائمين بين الرضا والنور.
ثمّة تمترسٌ عجيبٌ وراء مبدأ أن كل ما يخصنا، كثقافة وسلوك، هو فوق النقد. وبالتالي، فإن أية ظاهرة سلبية نصطدم بوجودها مستوردةٌ بالضرورة، ودخيلة علينا، وعلى منظومة قيمنا وأعرافنا؛ فنحن الأفضل والأصلح حالاً في كل الظروف. والغريب أننا كأمم احترفت الخيبة، وراكمت الهزائم المتلاحقة عبر التاريخ، ما تزال تملك الجرأة لكي تشعر بالتفوق والتميز عن الآخرين. في حين أن نظرة تتضمن قدراً من الموضوعية، تقودنا إلى الاعتراف بأن كثيراً من تلك الظواهر المؤسفة التي أصبحت واقعاً حياتياً مرعباً، هي ليست غزواً ثقافياً دخيلاً، اقتحم حصوننا المنيعة، وعاث في عقول الناس وضمائرهم فساداً وتخريباً، بل هي، في أحيان كثيرة، نتاج محلي بحت، ببراءة اختراع وملكية فكرية.
من هنا، لابد أن نوسع دائرة التأمل، ليس من باب جلد الذات، بل تركيز زاوية الرؤية، لكي نخرج عن المنظور المسبق الضيق التي نرى العالم من خلاله، ونكف عن طرح أنفسنا بهذا الشكل الساذج غير الواقعي. ولا بأس من إحداث صدمة أحياناً، وإعادة النظر في طريقة تفكيرنا، كي نتنبه لما يدور حولنا، لعلنا نستفيق من خدرنا وأحلامنا الوردية الخادعة. 
ولعلنا، في نهاية المطاف، نبلغ درجةً من الوعي والنضج الإنساني، تؤهلنا مواجهة عيوبنا ونقاط ضعفنا وهشاشة تركيبتنا، من خلال الاعتراف بها، لكي نشفى من تبعاتها. وبالتالي، نسمي الأشياء بأسمائها، متخلين، على سبيل التغيير، عن هذه الازدواجية وهذه الباطنية التي تتحكّم في سلوكياتنا. عندها فقط، قد نستطيع التصدّي لأمراضنا المستعصية من تراجع أخلاقي وإنساني وثقافي وحضاري خطير، وطغيان قيم الاستهلاك، وانعدام مظاهر التكافل والتضامن الاجتماعي، وتلاشي مبدأ المحبة من القلوب الآيلة للجفاف والإمعان في الفردية، وتجاهل عذابات الآخرين ومعاناتهم.
أمراض اجتماعية خطيرة تفتك بالأجيال تدريجياً، فتشوه تركيبتهم النفسية لتنتج نماذج إنسانية شوهاء مفصومة ممزقة بين خطاب تراثي إنشائي مثالي كاذب وواقع غير واعد، إلا بوجع القلب، تستشري أمراضنا الاجتماعية، وتتفشى وتنتشر سرطانياً، بمكر وخفة، فيما نحن مكتفون بأمان نعامةٍ غاص رأسها عميقاً في التراب، متوهمةً تحقّق الأمان، فيما جسدها الضخم الأحمق مشرعٌ لكل أشكال العدوان. 
________
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *