*نصر عبدالرحمن
هو واحد من آباء الدراما الحديثة، وإن لم ينل نفس شهرة إبسن وتشيكوف وجورج برنارد شو. قال عنه هنريك إبسن: «أتوقع أن يحصل على مكانة أرفع من مكانتي»، كما قال عنه الكاتب المسرحي الأمريكي الكبير يوجين أونيل: «إنه أكثر الحداثيين حداثة، وقدرة على رسم الصراع النفسي والروحي في الدراما». إنه الكاتب المسرحي السويدي أوجست استريندبرج الذي ولد في 22 يناير 1849، وشهد أكبر عملية تحول فكري في التاريخ، واختار أن ينحاز إلى المستقبل في تلك المعركة الشرسة، ودفع ثمن مواقفه غالياً.
ولد استريندبرج في مدينة استكهولم لأسرة فقيرة، وكانت علاقته بأمه مزيجاً من الحب والكراهية، أثرت هذه العلاقة في حياته وإبداعه على السواء، حيث أصبح الصراع بين الرجل والمرأة موضوعاً أساسياً في أعماله. وقد أطلق على أمه اسم الخادمة، في روايته «ابن الخادمة» التي يروي فيها سيرته الذاتية. كما كانت علاقته بالنساء عموماً متوترة، حيث تزوج ثلاث مرات. وهو ما جعل المرأة والعائلة والزواج والأخلاق البرجوازية محوراً لأعماله، وتناولها بالنقد اللاذع.
درس استريندبرج الكيمياء في المعهد الملكي للتكنولوجيا باستكهولم، ثم عمل مدرساً لفترة، وبعدها عمل صحفياً وكتب مقالات في النقد الأدبي. بدأ حياته الإبداعية برواية «الغرفة الحمراء» عام 1879، ثم مسرحيته «الآنسة جولي» التي جعلت النقاد يضعونه إلى جوار الكاتب النرويجي الشهير هنريك إبسن. ثم تبعها بمسرحية «رقصة الموت»، ثم مسرحية «حلم» وهي التي جعلته من رواد المسرح التعبيري في نهاية القرن التاسع عشر. لقد كتب أكثر من 60 مسرحية، بالإضافة إلى عدد من الروايات والمقالات النقدية والسير الذاتية، والمقالات السياسية. ويُعتبر استريندبرج أبا المسرح السويدي بلا مُنازع، وأحد أهم وأكبر كُتاب الدراما في العالم. لقد ترك تراثاً شديد الثراء والتنوع، حيث كتب المسرحيات القصيرة والطويلة، والمونودراما، والمسرحيات الواقعية والسريالية. وتُعد بعض أعماله بمثابة الإرهاصات الأولى لمسرح العبث.
هاجم استريندبرج في أعماله قيم المجتمع السويدي، وسخر من التاريخ القديم للأمة السويدية مما جعله غير محبوب في بلده وتعرضت مجموعته القصصية «جزاء الفضيلة» للمُصادرة، وتعرض لعدة أشكال من الاضطهاد، ثم صدر أمر بنفيه إلى خارج السويد. تدخل بعض الأصدقاء لدى السلطات حتى يتمكن من العودة إلى وطنه مرة أخرى، ولكن بشرط الاعتذار عن أفكاره، إلا أنه رفض ذلك. ولقد اتسمت تلك الفترة بالثراء على المستويين الإبداعي والمعرفي، إذ استغل تلك الفرصة في التجول عبر أوربا وإلقاء نظرة عن كثب على ما أنتجه مبدعو القارة في نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين.
وتُعد مسرحية «الأب» أهم أعماله، وأكثرها شهرة وانتشاراً، وتُرجمت إلى كافة لغات الأرض تقريباً. وتتجلى فيها فلسفته عن الصراع الاجتماعي والبيولوجي بين الرجل والمرأة، والعلاقة المرتبكة التي يمتزج فيها الحب بالكراهية بين الرجل والمرأة. كما تظهر المسرحية جانباً من حياته الشخصية، حيث كان يرتاب في زوجته ويظن أن لديها رغبة في إثبات أنه مُختل عقلياً حتى تحجر عليه.
ومن أهم سمات مسرحيات استريندبرج أنها تناقش أكثر الأسئلة إلحاحاً على العقل البشري، مثل العلاقة بين العلم والدين، والصراع بين الرجل والمرأة، ومفهوم الخلود. تمتاز مسرحياته بحبكة شديدة الإحكام، وتتطور المواقف فيها حتى تصل إلى ذروة شديدة التعقيد والتوتر والإثارة. ويتطور الصراع في مسرحياته على نحو منطقي على المستويين البدني والنفسي بالتوازي. ويمكن استثناء مسرحية «حلم»؛ التي كانت بنيتها تحاكي الأحلام في تفككها وانسيابيتها. وتتجلى أبرز سماته في الحوار الذي يتميز بالحدة والسرعة كأنه مبارزة بالسيوف، ويعتمد فيه على سرعة البديهة والتلاعب بالألفاظ، وبالمنطق. لكن هذا المنطق يختل في لحظات الانفعال العنيف التي يصاحبها تدفق تلقائي، وتتحول الحوارات؛ أو بالأحرى المونولوجات، إلى مقطوعات شعرية صافية. كما كان يُكثر الاقتباس من الكتاب المُقدس والأساطير اليونانية، والأعمال الفكرية، ويقوم بمعارضتها بأسلوب ساخر أحياناً، أو يستفيد من سطوتها المعرفية على المُتلقي أحياناً أخرى.
ويُمكن اعتبار شخصيات مسرحياته نماذج مُصغرة للمجتمع الذي كان يعيش فيه، ونجح في توظيفها لرصد لحظات التحول الفكري الكبرى في أوروبا. وكان يحرص على تنوع الشخصيات لكي تعكس طبيعة الشرائح الاجتماعية المُتباينة ورؤاها الفكرية المُختلفة. بالطبع كان استريندبرج مُنحازاً فكرياً، إلا أنه اتسم بالحياد إزاء صراع شخصياته، ومنح كل شخصية فرصتها في التعبير، وربما كان هذا هو السبب وراء قوة الحوار واحتدام الصراع. في مسرحية «الأب» مثلاً، يمثل القس يقين الرؤية الدينية، بينما يمثل الطبيب تجريبية الرؤية العلمية، ويُجسد الكابتن (بطل المسرحية) الروح الفردية التي تسعى إلى المجد والخلود، في حين تجسد «لوروا» (زوجته) السلطة التي تحاول قمع هذه الروح الفردية وكبح انطلاقها. وتلعب الطفلة «بيرثا» (ابنتهما) دوراً مزدوجاً؛ فهي الأمل في المستقبل بالنسبة للأب، وهي أداة الجريمة التي تستخدمها الزوجة ضد زوجها. ومن المواقف الطريفة التي تُظهر مدى واقعية المسرحية وصلابة منطقها، أن زوجة مخرج المسرحية الانجليزي «روبرت لورين» أقسمت له أنها لم تخنه، وأن أولاده من صلبه، خوفاً من تأثير المسرحية فيه.
ومن المعروف أن جورج برنارد شو رفض جائزة نوبل في البداية اعتراضاً على عدم منحها إلى استريندبرج، وأعلن أنه الأحق بتلك الجائزة. وبعد أن قبل برنارد شو الجائزة، خصص بعض قيمتها المالية من أجل ترجمة كافة أعمال استريندبرج إلى الانجليزية، وإعادة طباعتها. أثار هذا الموقف ردود فعل غاضبة تجاه لجنة الجائزة السويدية التي تجاهلت رمزاً أدبياً كبيراً، وعاقبته بسبب مواقفه السياسية والفكرية، وانتقاده اللاذع للبلاط الملكي السويدي وتمرده على القيم المُجتمعية البالية في وطنه. ويرى كثيرون أن هذا الموقف هو أوضح مثال على التدخلات السياسية في اختيار الفائزين بالجائزة العالمية.
مات أوجست استريندبرج في 14 مايو/أيار 1912، دون أن يلقى أي تكريم من وطنه، بل إنه تعرض للاضطهاد والنفي، لكنه تحول إلى بطل قومي في عيون الأجيال التالية، التي أدركت أنه كان ينتصر للمُستقبل بإعلانه الحرب على الماضي، في عدد من المسرحيات التي أصبحت من كلاسيكيات المسرح العالمي.
________
*الخليج الثقافي