من سيرة الأيام / أنا والآخر


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
بدأ ” الآخر ” محرضاً، وانتهى مستفزاً وجالبا للسخط دون سبب، رغم براعته اللامتناهية في الابتكار، وإنكاره لذاته، إلا أنه كذلك. 
ففي القصص المنشورة، المنتهية، بعض الشخوص التي تمرّدت ولم تذعن للخاتمة، كان هو من يثني أعناقها لتخرج ثائرة، متنمّرة، وهي تطالب بملحق صغير يكون بمثابة تعديل منصف، على حد تعبيرها الشبحي.
شبحية تلك الشخوص مؤرقة، حد التردد البغيض، فالنهايات غير عبثية، ولا يحق لأحد أيا يكن، أن يعبث بها، حتى كتّابها …
بالنسبة لي، كانت ” ميرا “، تلك الحورية الجميلة، العالقة بين زمنين، وسلالتين، متأرجح بين الجن والإنس، المظلومة، أول من طاردني، ربضت لي بين منعطفات كثيرة، لتفتك بي ثأراً لسمعتها. ثم “غيداء” وهي تفرّ من بيت الأقنان في غيظ، تترصدني بين زوايا نومي حانقة، تصرّ على إنكارها لمطاردة السّياب، وحين تظفر بي تصبّ رصاصها الساخن في وجهي، وهي تقول: أنا والسّياب، لم نلتق أبداً، نحن من زمنين مختلفين، حسبي الله … عليك ؟! 
ولم أخرج من تلك المعضلة إلا بهدنة، تشاركنا بعدها وضع النهايات والوقائع مناصفة… أنا والآخر، في كل القصص، حيث كان الاعتراف به، فصاما أوليا، مستترا. ثم افترقنا حين لم تعد لتلك النهايات أحاكمها القطعية، بصراحة اكثر، حين غدت مراوغة.
في صيف عام 2015، عاد من جديد.
كنت في مقهى “جفرا ” وكنّا نطل من فوق شرفته على قاع المدينة، صديقي وأنا، حين لمحتُ “الآخر” على الطرف المقابل، ضجرا، كان بانتظاري وكان لديه ما يحكيه.
بين “مطعم هاشم” و ” كشك مكتبة الجاحظ” تلقفني ” الآخر” بعد وداعي لصديقي، قال على الفور: أتدري أين كنت؟ 
– نعم في مقهى جفرا…
أعلم، ما هذا الغباء يا ربي؟! أقصد ما هيته، جذوره، أصله …
هكذا أسهب في القول وكأنه يسايرني: المقهى إنما هو صندوق رسائل، كان مركونا على طرف البيت، عند باب الشّقة الصغيرة لتلك المرأة الغامضة.
أية إمرأة؟ سألته.
تلك التي رحلت دون أن تترك أثرا يدل عليها، المرأة التي كانت تحرص على كنس ثرثراتها في المساء، كل يوم قبل أن تترك العمل، حتى أنها تلقي تحية الصباح ثم تنتزعها من أمام عيوننا، فلا يبقى منها شيء يدل عليها بعد أن تغادر.
لخمتني. قلتها وأنا أنفض رأسي محتاراً.
لا يهم، فأنت “ملخوم” دائما، حتى من دون هذا، فأنت كذلك. المهم … حين اختفت تلك المرأة، لم يعثروا لها على أثر يدل عليها، لكنهم وجدوا نصف عمّان في شقّتها الصغيرة، من مقاهي ومكتبات، ومسابح، وغير ذلك، الا يعني هذا لك شيئا؟؟
لا…
لا؟! بالطبع، لا … كيف لك أن تفهم؟ فأنت قاص من قلّة القصاصين والله. على أيّ حال، عثروا على هذا المقهى تحديدا في صندوق بريدها، ربما كان هناك من أرسله لها، ثم اختفى البيت وظل الصندوق، أقصد المقهى، مع الأيام لم يلتفت أحد لما جرى، لكن ما يحيرني، كيف نسيت أنت؟! 
اقنعني يومها بأن جفرا، هو مقهى الصدف الشحيحة، وأنا صدّقته، لأدفع ما تبقى من إجازتي الصيفية ثمنا غاليا، في البحث عن سيدة لم تكن يوما… إلا في خياله.
******
في الزرقاء، خلف حاكورة البيت من ذلك الصيف، وتحت التكعيبة المداريةالطائشة لعرائش الظّل، والتي خلا سقفها إلا من بعض العروق الضامرة، كان “الآخر” تواقا لفكرة راح يقلبها بيني وبينه وهو يشاركني النظر إلى جذع الدالية المنخور، الناحل، قال لي: ألا يشبه كهلا واهنا، عقيماً؟ ثم تخطاني قبل ان اجيب إلى شتلة الياسمين،المورفة بدهاء فوق جدار الجارة المجاور، قال في مكر: منذ متى وهذه الشتلة تضن علينا بعبق الرائحة؟
وحين أدرك أنني لم افهم ما يعنيه، مال نحوي هامساً في ضيق وصبر: جذع الدالية كهل عقيم وتلك الشتلة مخادعة…!
هزّ رأسه مستنكرا هذا الوجوم: هل تخشى أنسنة الأشياء؟
لم يخطر ببالي. رددت عليه، وانا أنزع ما تبقى من عقلي من بين يديه الماكرتين، وألوذ بدفقة الهواء الرطبة، المنعشة، بعد نهار خماسيني جاف.
بعد ساعات قليلة على غياب “الآخر”، كنتُ أستنطق الحيّ بأكمله، من حدائق وأرصفة، وحتى برندات مخاتلة ذهبت بعيداً بأنوارها نحو أطراف الشوارع الخلفية، ليغرق نا حولها في عتمة الليل.
كنتُ أوبخها على تلك الخيانة وأستنجد بالصباح، ذلك الصباح الذي تعثر في الظهور لخمس مرّات متتالية…
كان ” الآخر” يصفّق منتشيا ويلمع في ذهني كفكرة خبيثة، ويضحك من بعيد.
******
في اليوم التالي نهارا، كان الطقس حاراً ومغبراً على غير العادة… 
كتبتُ: ” الشوارع شبه خالية، والمدينة بلونها الترابي، الخانع، ساكنة و كأنها تنتظر شيئا ما ببلادة…”
انبثق “الآخر” بنظرات ساخرة سبقته نحوي، حتى قبل أن يرى ما أدوّن، مسح الورقة بنظره خاطفة ومعتمة، كظم غيظه وهو يجذبني من يدي في نزق، نحو عنق النافذة وقال: أنظر، هذا ليس غباراً، حتى وإن كان كذلك فمن سيأبه لقصّة كهذه؟
تسمّرتُ ولم أجب، فواصل: لنقل، هذا غبار كوني ثقيل يجوس الشوارع الآن، 
وبأنه فتات نيزك سقط منذ يومين وشجّ رأس المدينة، ثم تناثر وعلق في الأجواء.
حرارة المدينة، المرتفعة، كانت على إثر ذلك السقوط المفاجيء، 
وأما المناخ فلا شأن له، فما رأيك؟
هذا ” الآخر” لا انكر عليه ملكاته ولا براعته، أو عمق بصيرته، ولكنني أكره فيه تفوقه الكبير أمامي، لما لا أكون أكثر وضوحا وأعترف، بأنني أكره عجزي وسطحيتي في حضوره.
في تلك الليلة، وبينما كانت نشرات الأخبار المتلفزة تأخذ على عاتقها ذمّ الطقس باعتباره حدثا كونيا سينحدر بالناس إلى منزلة العقوبة، كنتُ اتصفح ” ألبوم” الصور القديمة، وأُطيل النظر إلى صورة ” فوتوغرافية ” ذابلة باللونين، الأبيض والأسود، أحاول استعادة شيء ما فيها، صورة جمعتني بصديقين في مقهى، وكنت أنا عند طرف الكادر.
تدخّل ” الآخر ” بلا مناسبة حقيقية هذه المرّة. 
وقال: هناك أنين واضح تترجمه الصورة، ينبعث من نافذة ما خارج الكادر، على الأغلب، وتنهيدة مرتجعة، سقطت بين الكراسي ولم يلتفت إليها أحد…!
ثم حدّق في وجهي كعرّاف وقال: الا تدرك هذا؟
أجبت في برود: لا يهمني، فقط أنا أبحث عمّا تقوله الصورة علنا.
انفجر صائحا: إيّاك، فليس كل ما تقوله الصورة صحيح، هناك غياب محتمل للون ثالث، ربما ابتلعته النافذة في الركن البعيد من الساحة…!
أجبته بلا مبالاة: على أيّ حال هي مجرّد صورة “فوتوغرافية” وليست قصّة أكتبها.
أشاح عنّي وفي نظراته شيء من العتب: حتى وإن كانت قصة، فلن تفلح في اصطيادها مثلما يجب، شأنك شأن الآخرين…!
ثم رحل. وكان على حق … فأصوات حجارة النرد في الصورة لم تنقطع، رغم أننا تفرقنا ذلك النهار، ثلاثتنا لم نعد، وظلّت الصورة. يومها سدّ أكبرنا أذن الرصيف بثوب الليل لتومض المصابيح، بينما دسّ أوسطنا ساحة المقهى في جيبه فعاد الصمت إلى الزقاق، أصغرنا عبر، حتى وقع، صار مرئيا لنا، تنهد مرتين على وقع الأنين المنبعث من سكون الليل ثم تصلّب كشريان عند طرف الكادر.
ثم كانت الصورة.
******
اليوم وبعد صيف ونيّف، أفتقد لذلك “الآخر” كثيراً، رغم أني لا أحبه. 
أواخر ذلك الصيف، أكّد لي عند رحيلي: بأن “عمّان” لا تدعم خاصية البحث عن أحد، فهي تحتضن الكثير، ولهذا فبحثي عن سيدة الصُدَف الشحيحة لم يكن مجديا يومها، وبأن الحَرّ الذي أفزع الخلق، كان رُبع موجة ذلك النهار المغبر، ليس أكثر. أما الصورة “الفوتوغرافية” وبعد تصلّب الأخير وانسحابه ليقف عند حافة الكادر، إنما دلالة أكيدة على أن ثالثهم… كان لونهم. 
ثم افترقنا على الفور، أنا والآخر.
_____________________
*قاص أردني 

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *