كان يمكن أن تمر



إبراهيم عبد المجيد



لم يكن هناك أحد في الحديقة ذلك اليوم‏.‏ كم مضى عليه من وقت هنا؟ حرك يديه أمامه في حيرة‏.‏ هل جاء اليوم أم الأمس أم منذ زمن بعيد؟ لابد أن ينفض الألم عن رأسه‏.‏ قام يمشي علي مهل‏.‏ هو الحقيقة لا يستطيع أن يسرع‏.‏ يقترب من الثمانين‏.‏
الأدوية تطيل العمر حقا لكن ليري ما لم يكن يحب أن يراه‏.‏ فقد الأحبة‏.‏ هل هناك شيء آخر يحدث معه‏.‏ يتلذذ بالطعام‏.‏ وهل لذلك معني‏.‏ هل سينمو فيه شيء جديد؟ إذن هي انتهت من زمان‏.‏ الحياة‏.‏ الإطالة تكرار ممل‏.‏ لكن من يستطيع أن ينهيها حقا غير الله‏.‏ لا معني للانتحار‏.‏ ولا معني لحياتنا في هذا العمر فلماذا يداهمنا المرض؟‏‏ 
وهل لو لم يداهمه المرض سيعيش أطول من عمره؟ الأعمار بيد الله‏.‏ والعلماء يقولون إن الجينات تحدد العمر سلفا‏.‏ إذن هناك نهاية تأتي في موعدها فلماذا لا تأتي وهو بكامل صحته؟‏,‏ لماذا يكون شخصا محل عطف من أبنائه وزوجته وجيرانه ومن يراه في الطريق؟‏,‏ لماذا ينام كل ليلة سعيدا أن أبناءه وزوجته كانوا ملتفين حوله يضحكون ويثيرون فيه السعادة بهم وبأحفاده؟‏..‏ هو سعيد دون أن يأتي أحد‏.‏ هو من صنع ذلك فكيف لايكون سعيدا به‏!‏ وحين ينصرفون عنه إلى هواتفهم المحمولة يدخلون علي الإنترنت‏,‏ أو إلى التابلت الخاص بكل منهم يبتسم سعيدا‏.‏ لا يقول ما يتردد عن انفراط عقد الأسر‏.‏ يعترف أن لكل منهم عالمه ويتمني أن يظل فيه‏.‏ أليسوا هكذا سعداء؟‏,‏ إذن هو لا يضايقه ذلك‏.‏ فقط يضايقه أنهم يأتون إليه لأنه كبر وترهل وأصابه المرض رغم أن العمر مقدر سلفا‏.‏ لماذا يخرج الإنسان من الدنيا حزينا وهو من عمرها وزرع ثمارها؟ يمكن جدا أن يوسع مكانا لغيره دون كل هذا الألم‏.‏ بل أراد الإنسان أم لم يرد سيوسع مكانا لغيره فلماذا يعاقب؟ الذين يموتون مبكرا أكثر سعادة‏.‏ يموتون في قوتهم‏.‏ يحزن أهلهم طبعا لكن ينتهي الحزن بالصبر‏.‏ لايعرف الموتى أن هناك من هو حزين من أجلهم‏.‏ لا أحد يقف أمام الموت‏.‏ إنه يقسم بالله لو عرف موعد موته ما فعل أي شيء لتأخيره‏.‏ طبي أو سحري أو ديني‏.‏ لن يستطيع‏.‏ وسيوسع المكان لغيره‏,‏ فالناس ستظل تنهمر من السماء إلى الأرض‏.‏ لن يتوقف الإله عن خلقهم إلا باختفاء الدنيا‏.‏ لكنه هز ذراعه أمامه قائلا لنفسه‏:‏ أنت بتقول إيه ياعم‏!‏ إرضى باللي قسمه ليك ربنا وامشي روح البيت‏!.‏ 
أشار إلى تاكسي فتوقف‏.‏ قال للسائق‏:‏ 
‏-‏ الشيخ زايد من فضلك‏.‏ 
نظر إليه السائق مندهشا جدا‏.‏ ما الذي جاء بهذا الرجل العجوز إلى هنا؟ الي حديقة في مدينة نصر‏.‏ قال السائق‏:‏ 
‏-‏ هل حضرتك متأكد إنك رايح الشيخ زايد؟ 
دخل إلى التاكسي وقال‏:‏ 
أجل‏.‏ أنت فاكرني باخرف مثلا؟‏-‏ 
‏-‏ لا يا افندم لكن لأني شايفك خارج من الحديقة لوحدك استغربت‏.‏ إزاي واحد في سن حضرتك ييجي من الشيخ زايد علشان يقعد في الحديقة في مدينة نصر‏.‏ 
‏-‏ نصيبي كده‏.‏ 
‏-‏ متأسف يا افندم 
قال السائق ذلك واندفع بالتاكسي‏.‏ أدار المسجل علي محطة الأغاني قائلا‏:‏ 
‏-‏ وحتي لا تتضايق من أسئلتي سأسمعك أحلى أغاني‏.‏ 
‏-‏ جميل‏.‏ 
قال العجوز ذلك وهو يبتسم ابتسامة عريضة‏.‏ كانت أول أغنية أنا هويت وانتهيت بصوت سعاد محمد فقال الله وتراجع بظهره إلى ظهر المقعد وأغمض عينيه‏.‏ 
كم من العمر مضي وهو مع زوجته‏.‏ حبيبته‏.‏ كم من البلاد زاراها وعملا بها معا‏.‏ صحبته في غربته الطويلة في بلاد النفط حين كانت مصر طاردة لأبنائها في السبعينات‏.‏ قبلها عاشت معه في بيت صغير في منطقة بعيدة في عين شمس لا يوجد بها غير غيطان ولا بشر غير أصحاب الغيطان‏.‏ منزل لا ماء فيه ولا كهرباء‏.‏ يمتلكون اليوم بيتا رائعا في مدينة نصر به كهرباء وكل أنواع الراحة‏.‏ هكذا انتهت الرحلة إلى ما هو أجمل مئات المرات من البداية‏.‏ صار لهما أولاد وأحفاد مثل أي زوجين سعداء‏.‏ ولاحظ السائق أنه لا يفتح عينيه‏.‏ يبتسم بين حين وآخر وصوت سعاد محمد يلعلع بين جدران التاكسي‏.‏ حين انتهت الأغنية بدأت بعدها أغنية محمد قنديل سحب رمشه ورد الباب فرآه السائق يبتسم أكثر‏.‏ قال لنفسه وهو يهز رأسه ويبتسم بدوره لابد أن كل أغنية تذكره بشيء جميل‏.‏ قال‏:‏ 
‏-‏ مشوارنا طويل يا افندم وحتسمع أغاني حلوة كتير‏.‏ 
فتح العجوز عينيه وابتعد عن ظهر المقعد إلى الأمام وقال‏:‏ 
‏-‏ آه‏.‏ جميل جدا‏.‏ أيضا بعد أن تصل إلى الشيخ زايد سأعود إلى الحديقة‏.‏ يعني أمامنا وقت طويل‏.‏ 
أسقط في يد السائق‏.‏ ماذا يقول هذا الرجل؟ هل يكون مجنونا؟ ما هذا الحظ؟ هل ينزله من التاكسي وينهي القصة مبكرا؟ لكن الرجل العجوز قال‏:‏ 
‏-‏ لا تقلق‏.‏ ستأخذ حقك مضاعفا‏.‏ ثم أني كنت سأنزل في الشيخ زايد فعلا لكن أغانيك الحلوة خلتني أفكر ارجع تاني‏.‏ أصل ماحدش بيسمع دا عندي في البيت غير أنا وهي بس‏.‏ 
‏-‏ من هي يا افندم؟ 
‏-‏ زوجتي‏.‏ 
‏-‏ الأولاد طبعا ذوقهم مختلف‏.‏ 
‏-‏ إنهم شيء آخر‏.‏ زمن تاني غير زمانا‏.‏ 
‏-‏ المهم أن فيه حد مع حضرتك بيحب ما تحبه‏.‏ 
‏-‏ إيوة‏.‏ زوجتي كما قلت لك‏.‏ 
‏-‏ ربنا يبارك لك فيها يا افندم‏.‏ 
‏-‏ نعم؟ 
تساءل العجوز مندهشا كأنه لم يسمع‏.‏ ارتبك السائق وقال‏:‏ 
‏-‏ أقول ربنا يبارك لك في زوجتك يا افندم‏.‏ 
سكت العجوز قليلا ثم تساءل‏:‏ 
‏-‏ تفتكر سيفعل هذا؟ 
ارتبك السائق ثم قال‏:‏ 
‏-‏ أكيد يافندم‏.‏ حضرتك راجل محترم وأكيد هي مثل حضرتك ولابد أن ربنا سيكافئكم‏.‏
سكت العجوز قليلا ثم عاد يقول‏:‏ 
‏-‏ معك حق‏.‏ ربنا يستر طريقك‏.‏ 
وحط الصمت عليهما من جديد بينما تنساب الأغاني‏.‏ كانت الأغنية التالية علي شط بحر الهوي لكارم محمود‏.‏ وقرر السائق أن لا يتكلم مرة أخري إلا إذا طلب منه العجوز الحديث‏.‏ عاد العجوز بظهره إلى المقعد وأغمض عينيه وظهرت الابتسامة من جديد تتسع حينا وتضيق حينا لكنها لا تنقطع‏.‏ فجأة بدا العجوز كأنه استيقظ من نوم وسأل السائق‏:‏ 
‏-‏ هل وصلت إلى الشيخ زايد؟ 
‏-‏ أجل يافندم والآن أعود إلى الحديقة مرة أخرى‏.‏ 
‏-‏ طيب الحمد لله 
‏-‏ حضرتك مستعجل؟ 
‏-‏ أجل‏.‏ لو سمحت أسرع قليلا 
‏-‏ وحشتك زوجتك يافندم؟ 
قال السائق ذلك من باب الحديث بلا هدف أو معنى‏.‏ قرر أن يتسلى معه‏.‏ يمكن جدا أن يظهر أن الرجل مجنون فعلا أو ليس معه نقود‏.‏ ليكن ما يكون‏.‏ هو أيضا بدأ ينجذب إلى الأغاني وإلي الرجل الذي فيه بالفعل وداعة وطيبة كبيرتين‏.‏ 
وسأله العجوز‏:‏ 
‏-‏ ماذا قلت لي حضرتك؟ 
‏-‏ قلت أن زوجة حضرتك وحشتك‏.‏ 
هز العجوز رأسه وقال‏:‏ 
‏-‏ آه‏.‏ طبعا‏.‏ كلما خرجت وحشتني‏.‏ لكن المشكلة أني لا أستطيع البقاء في البيت طول الوقت‏.‏ 
‏-‏ لديك أكيد عمل يا افندم‏.‏ 
‏-‏ لا‏.‏ مثلي لايعمل طبعا‏.‏ 
‏-‏ طيب لماذا حضرتك لا تبقي طويلا في البيت؟ 
‏-‏ أقول لك بصراحة‏.‏ 
‏-‏ اتفضل حضرتك‏.‏ 
‏-‏ أنا كلما رأيتها سألت نفسي لماذا يا ربي‏.‏ أنا في الثمانين وزوجتي في السبعين‏.‏ فلماذا يأتيها السرطان في السبعين؟ كان يمكن أن تتركها تمر‏.‏ هي كده كده حتموت‏.‏ 
ارتبك السائق للحظة ثم قال‏:‏ 
‏-‏ استغفر الله يا أستاذ‏.‏ لله حكمته‏.‏ 
‏-‏ أعرف والله‏.‏ انا لا أقصد شيئا‏.‏ أنا فقط أسأل‏.‏ لا شر ستفعله ولا خير في هذا العمر‏.‏ تنتظر النهاية مثل غيرها فلماذا لم تمر؟ كان ممكن تعدي والله‏.‏ 
ارتبك السائق أكثر ثم قال‏:‏ 
‏-‏ ويمكن أن لا تموت يا افندم‏.‏ لا أحد يعرف‏.‏ 
‏-‏ صحيح لكن لازمتها إيه البهدلة؟ 
قال العحوز ذلك وازداد ارتباك السائق جدا فقال العجوز‏:‏ 
‏-‏ خلينا في الأغاني‏.‏ وعلي فكرة أنا لما نوصل الحديقة ربما أعود معك إلى الشيخ زايد مرة أخرى إذا لم يكن ذلك يضايقك؟ 
* الأهرام.

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *