‘مهرّجان من أجل كارثة’ فيلم عن كاتب فرنسي ملعون


*رشيد اركيلة


دوني لافان ممثلا وإيمانويال بورديو مخرجا سينمائيا، يجرؤان ويُهديان لجمهور الشاشة الكبيرة شريطا بعنوان “مُهرِّجان من أجل كارثة”، فلماذا هذا العنوان؟ عن هذا السؤال صرح المخرج بورديو أنه عنوان مستوحى من كتابات لويس فيرديناند سلين نفسه لشريط بنبرة سخرية سلين الذاتية، ولكن أيضا بمعالم كارثة ليست أبدا هينة أو تافهة.
فوراء شخصية هذا الكاتب العظيم سلين صاحب “رحلة في آخر الليل”، وجه لرجل آخر.. معاد للسامية، كاتب ملعون، مفعم بالمفارقات، لكنه إنساني إلى أبعد الحدود بالنهاية، إنه يمثل فردا من عهد كان فيه المجتمع الفرنسي يعيش معاداة للسامية بشكل عادي تصل إلى العنصرية، بل وحتى كراهية للبشر.
لعبة أضداد
سلين يتحدث ويعبر عن كل هذا، عبر نفحات ونوبات ينمي من خلالها شكلا من أشكال السعار، من البغض الحاد للبشر، أفكار قد لا تكون مقبولة على الإطلاق في يومنا هذا.
يفصح عن كل ذلك أمام آندوس وهو كاتب أميركي شاب يدرس بجامعة شيكاغو، وقد زار سلين سنة 1948، ومكث في ضيافته أربعة أسابيع بنية تأليف كتاب كبير. وهو يتحدث لزوجته أو ضيفه، سلين صادم، مشاكس ساخر يتجشأ على كل شيء أو تقريبا.
إنه يعيش مع زوجته لوسيت وقد غادر المعتقل لتوه بتهمة معاداة السامية، وربما يعود إلى السجن إذا استمر في تصريحاته، وهو يأمل أن ذلك الكاتب اليهودي الشاب سوف يساعده.
إنها لعبة الأضداد بين الشخصيات، الكاتب الشاب آندوس يريد مساعدة سلين ويفعل ما بوسعه لتمرير أفكاره عبر مؤلفه، لقد جاء لينقذه، وهي فرصة ذهبية لم تكن بحسبان سلين، لكن هذا الأخير، عوض ترويض طباعه، سيوالي فلتات اللسان وعدم التحكم في النفس إلى أن يتأجج الأمر ويأخذ شكل عنصرية ومعاداة جد عنيفة للسامية، فيسلك بذلك اتجاها معاكسا ضد نفسه وضد مصلحته.
تؤثر انفلاتاته على الضيف المسكين الذي يحبه ويحترمه، فتقلب موازينه، تُضعف كيانه وتؤول به إلى حالة ملتبسة من الشرود والزوغان، وهو الذي لم يكن يريد له إلاّ الخير، كل الخير.
مع كل ذلك، ومن المفارقة أن لسلين شخصية جذابة جديرة بالإعجاب، عطوفة أحيانا، مشاكسة وهستيرية أحيانا أخرى، تماما كشخصية مسرحية.
من جهة أخرى، فعلاقة سلين بضيفه ليست مقصودة أو مدبرة بنية أو غرض في نفسه، إنه شخص يتصرف بالفطرة، و الطموح والحماس اللذان يميزان الطالب الجامعي الشاب جعلاه يفيض حماسة هو أيضا، إلى درجة يفقد معها صوابه أحيانا لتتملكه شبه بارانويا، خاصة أنه عند خروجه من السجن سوف يجد الشيوعيين بكل مكان وتصير أفكاره مخالفة لمحيطه، بل ويخالف نفسه أيضا باندفاع كله تناقضات. إنه باختصار، لا يسلك إلاّ الاختيارات غير الجيدة، وهذا بالضبط ما يشكل جاذبية شخصيته.
دور شفهي
عن جوانب الشخصية التي أراد أن يسلط المخرج عليها الضوء، صرح إيمانويال بورديو حين استضافه باتريك سيمونان منشط برنامج “لانفيتي” بقناة “تي في 5” الفرنسية بمعية بطل الفيلم دوني لافان، أنه أراده معقدا، مشاكسا حماسيا وفظا ببعض اللحظات، ومرحا ساخرا رقيق المشاعر لحظات أخرى، تماما كما كان بالفعل، شخصية تجمع بين الوحش والمهرج، حيث يُرهِب ضيفه آندوس ويبهره ويفتنه في نفس الوقت.
وهما جالسان بالمكتب بمنزل سلين، أمام لوسيت التي تحمل نظراتها عبارات الذهول والتوجس، يحاور الكاتب ضيفه بنبرة كلها سخرية واستعلاء قائلا “ظننتك كنت تريد التحدث فقط عن أسلوبي”، فيرد الشاب آندوس بحزم، لكن عيناه توشك تفشي خوفه “إني أريدك أن تفسر لي..”، تليها لقطة يتحدث فيها آندوس لزوجة سلين متذمرا من تصرفاته “لقد دافعت عنه أمام الأرض كلها، لقد راهنت بشرفي من أجله..”.
تليها لقطة أخرى تجمع الثلاثة، يمسك فيها سلين مسدسا يصوب فوهته نحو عنقه كأنه يريد أن ينتحر، لكنه يتراجع قائلا “سيكون هذا سهلا جدا”، فيصوب المسدس نحو آندوس بغضب ويقول له “سأجعلك تصطحبني إلى جهنم”.
تظهر أسماء الشخصيات بالجينيريك يصاحبها صوت عجوز مرهق كأنه يهذي “سلين وآندوس.. مهرجان من أجل كارثة.. ولكن ما هو الأدب بالتحديد، هو نقيض الحقيقة”.
عن تجربة تقمص دور سلين ذكر دوني لافان أنه دور شفهي بامتياز، للكلمات فيه ثقلها الخاص، لذلك فإنه أثار أن ينطلق بدءا من التمرين على خشبة المسرح، وقد فكر في ذلك ليجرب إن كان بمقدوره أن ينسجم وشخصية الوحش، وأنه تمرن لمدة جد طويلة إلى أن تمكن من الحوار والتعابير الجسدية، لأنه رأى أنه من المهم جدا إظهار ذلك الرجل في كل تناقضاته، خاصة كونه شاهد على حقبة تسودها الفوضى والالتباس.
سلين وجه يعبر بامتياز عن حالة النفاق التي كان يعيشها المجتمع الفرنسي والتي يمكن القول إنها تستمر حتى الآن، فمثلا سنة 2011 تم منع الاحتفال بالذكرى 59 لاختفاء سلين الذي لا يمكن حتى الآن ذكر اسمه، إلاّ وفاحت رائحة الكبريت. لقد جعل سلين نفسه في وضعية غير محتملة مع كونه كاتبا عبقريا له مكانته الخاصة في الأدب ويعتبر رائدا في جنس الرواية الجديدة، إلاّ أنه اختار لنفسه ذلك الوضع الممقوت غير المقبول، وهذا ما يبهر في شخصيته التي يمكن مقاربتها بشخصية مسرحية أو خيالية.
براعته في صناعة الحوار الناري تحيل على أدوار الكوميديا السوداء، حيث قوة التعبير الشفهي والصراحة حتى الوقاحة. ما كان لأي كان أن يسحب منه تلك الجرأة التي جعلته يبدو مخيفا مثلا، حين قال إن اليهود يتحملون نفس المسؤولية كهتلر في الحرب و الدمار.
إنه مخيف أيضا، لكونه انعزاليا فضل العيش على حافة المجتمع بعيدا عن كل الناس على شاكلة رامبو، سالينجر، أو عدد من الأدباء والشعراء الذين عاشوا عزلة جد موحشة.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *