*تيم باركس / ترجمة: أحمد شافعي
من أشد الألغاز غموضا في حياة الكاتب، ذلك التحول الذي يطرأ عليه أو عليها إثر انتقاله أو انتقالها من مرحلة الروائي “غير المنشور له” إلى الروائي المنشور له. ولو أنكم تريدون مثالاً نموذجياً معيارياً فانظروا في مسيرة سلمان رشدي المهنية. وإليكم هذه الفقرة من حواره مع باريس ريفيو:
“شقَّ كثيرون من أبناء الجيل الموهوب الذي أنتمي إليه طرقهم ككتّاب في سن أسبق من سني بكثير. حتى بدا وكأنهم يمرقون بجواري مروقا. مارتين أميس، إيان مكيوان، جوليان بارنز، وليم بويد، كازو إيشيجيرو، تيموثي مو، أنجيلا كارتر، بروس تشاتون، على سبيل المثال لا الحصر. كانت لحظة استثنائية في الأدب الإنجليزي، وكنت الوحيد المتبقي عند خط البداية، لا أعرف طريقا لأجري فيه. ولم يكن ذلك ليزيدها سهولة عليّ”.
تناولوا نسخة من سيرة سلمان رشدي الصادرة بعنوان “جوزيف أنطون” (وهو الاسم المستعار الذي يضع رشدي في مصاف اثنين من أعظم كتاب العصر الحديث (هما “جوزيف كونراد” و”أنطون تشيخوف”) وسترون أن كل علاقة له تقريباً، سواء كانت مع أصدقاء أم منافسين في المدرسة أم مع زوجاته أو أبويه، أم مع زملائه الكتاب، أم مع العالم الإسلامي أخيراً، إنما تُرى في ضوء المكسب والخسارة. وترون في القلب من هذه النضالات الأليمة، ولو في البدايات على الأقل، ذلك “الفشل المتكرر في أن يكون أو يصبح كاتب سرد محترماً منشوراً له”. هذا هو سباق السباقات. النشر. وفي نهاية المطاف، يقرر رشدي أن هذا الفشل وثيق الصلة بمسألة الهوية، وببطء “ومن موقع مشين في قاع مدفع الأدب يبدأ في الفهم…”.
يرحل إلى الهند لترسيخ الشق الهندي من هويته؛ إذ يتصور أن ذلك سيعينه على أن يصبح كاتباً ناجحاً، وسرعان ما يراوده “مشروع عملاق، إما أن ينتهي بنجاح محقق أو فشل محقق” ولقد كانت “مخاطرة الفشل أكبر بكثير من احتمالية النجاح”. وبعد نشر “أبناء منتصف الليل” وقعتْ أمور كثير لم يكن قد تجاسر حتى على أن يحلم بها: “جوائز، ورواج، وإجمالاً، انتشار”. وعن مسرات ليلة حصوله على البوكر يكتب رشدي مصوراً اللحظة التي فتح فيها “نسخة “أبناء منتصف الليل” الأنيقة المغلفة بالجلد وفيها شعار “الفائز”.
هذه هي الغاية من الحكاية. يقرأ المرء روايات رشدي فيجد أن الشخصيات الأساسية – مثل خالقها، تميل إلى الانحصار في نضالات موضوعها الفوز والخسارة وتعظيم الذات بعامة: أورموس كاما على سبيل المثال – وهو بطل “الأرض تحت قدميها” – يتوق أشد التوق إلى أن يكون نجم روك مثلما يريد رشدي أن يكون كاتباً. وهو أيضاً عازم على الفوز بالجميلة الموهوبة “فينا” التي -وإن كانت تميل إليه- ترى قبول عرضه الغرامي من قبيل الخنوع، في حين تتوق هي الأخرى إلى أن تكون مغنية عظيمة لا تقل عنه على الأقل. في الوقت نفسه ينافس الراوي “راي ميرشانت” بطل الرواية أورموس على حب فينا- وفي “آيات شيطانية” بطلان ينشدان النجاح والشهرة، وشبيه رشدي فيهما هو الذي يفوز في النهاية.
لكن ما يفوق الحبكات أهمية، أن لغة رشدي دائمة الجلبة، حافلة بالألاعيب، وأن في كتابته سعة اطلاع رهيبة، وذلك يقيم هيراركية تكون فيها للكاتب/الراوي الهيمنة، ويُختزل فيها القارئ إما إلى موقع المستسلم المنبهر، أو الحانق. وهذان هما ردا الفعل اللذان لا ثالث لهما. في مواضع كثيرة من “جوزيف أنطون” يعبر رشدي عن حيرته في سر وجود عداءات له بين النقاد وزملائه الكتاب أكثر من العداءات التي يحظى به غيره من الفائزين، فيما يشعر. ولعل السبب أنه يوضح أكثر مما ينبغي كم هو مهم أن يرى بوصفه فائزاً.
وهو في هذا، للأسف، محق. فما من أحد يلقى معاملة فيها العطف والتنازل مثلما يلقاها الكاتب الذي لم ينشر أو الفنان الناشئ في العموم. فهو في أفضل الحالات يكون في موضع من يستحق الشفقة، من يرثى لحاله. وفي أسوئها يكون في موضع من يستحق الاستهزاء والسخرية. فهو يسعى إلى أن يعلو على الآخرين، لكنه يفشل. وما أزال إلى اليوم أتذكر حواراً دار حول سرير احتضار أبي حينما سألته طبيبة تعاوده عن مهن أبنائه. فلما وصل إلى أصغرهم قال: والصغير تيموثي يكتب رواية ويريد أن يصبح كاتباً. فإذا بالمرأة الطبيب وهي لا تعرف أني داخل إلى الغرفة تقول لأبي ألا يقلق، فأنا سوف أغير رأيي عما قريب وأجد لنفسي شيئاً منطقياً أفعله. وبعد سنين كثيرة صافحتني المرأة نفسها باحترام عميق وهنأتني على نجاحي المهني، ولم تكن قرأت لي أيًّا من كتبي.
لماذا نكنُّ هذا الإجلال غير المنطقي للكاتب المنشور له؟ ما الذي يجعل حقيقة النشر البسيطة تصنع على حين غرة شخصاً كان حتى ذلك الحين شبه مُهزَّأ، فإذا به الآن شخص جدير بإعجابنا، مستودع للمعرفة الرفيعة الاستثنائية بالوضع البشري؟ والأكثر إثارة للاهتمام هو هذا السؤال: ما الأثر الذي ينطبع على الكاتب، وعلى كتابته، وعلى القص الأدبي بوجه عام، من الانتقال من إثارة السخرية إلى إثارة الإعجاب؟
أقوم بصفة سنوية بتدريس الكتابة الإبداعية لمجرد اثنين من الطلبة. ويكون ذلك غالباً مع أشخاص في منتصف العشرينات في برنامج بريطاني للدراسات العليا يأتي في سياقه الطالبان إلى حيث أقيم في إيطاليا ضمن برنامج لتبادل الطلبة. أمل النشر، والاحتياج الملح -بحسب ما يريان- إلى النشر بأسرع ما يمكن، يصبغان كل ما يقومان به من تصرفات. فهما غالباً ما يحذفان مما يكتبانه سطراً مثيراً، يحذفانه مما يقومان بالعمل عليه؛ لأنهما يشعران أنهما مرغمان على إنتاج شيء أكثر “قابلية للنشر”، أي بعبارة أخرة، أكثر تجارية. وسوف يكون من الصعب على كل من لم يعان هذا الهاجس أن يتصور إلى أي حد يمكنه أن يكون طاغياً مستولياً على من يشعر به. هؤلاء الشباب الطامحون يحددون لأنفسهم تواريخ للانتهاء من أعمالهم. وحينما لا يتمكنون من الوفاء بهذه التواريخ تتهاوى ثقتهم في أنفسهم، وينتابهم إحساس بالمرارة من غباء الثقافة الحديثة وطبيعة الناشرين والمحررين التجارية -مثلما يرونها- فلا يكون هذا الإحساس إلا قناعاً لإحساس قاتل بالفشل الشخصي.
ولكننا جميعا نعرف مِحَن المبتدئين الطامحين. ولكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن هذه الذهنية نفسها لا تزال تغذي عالم القص في الجانب الآخر من المحيط. إذ أن اليوم يأتي، أعني اليوم الذي يتحول فيه الطامحون -أو نسبةٌ صغيرةٌ منهم على الأقل- فإذا بهم قد صاروا من المنشور لهم. ذلك اليوم الذي يصل فيه الخطاب، أو الاتصال الهاتفي، أو الرسالة الإلكترونية. وفي لحظة تتغير الحياة. وإذا بك على الفور تلقى آذانا تصغي باهتمام، وتقف على المسرح في المهرجانات الأدبية، وتنصب عليك الأضواء في أمسيات القراءة، وإذا بك تُدعى كي تكون الحكيم الجليل، لتدين هذا وتمدح ذاك، لتتكلم عن مشروع روايتك القادمة بوصفه ذا أهمية فائقة، أو لتلقي موعظتك عن مستقبل الرواية بعامة، أو ربما مستقبل الحضارة.
ونادرا ما يترفع شباب المستجدين عن هذا الدور. فكثيرا ما يدهشني الروائيون الشباب، أو الروائيون لأول مرة، وهم يسارعون بلا شفقة في فصل أنفسهم عن مجتمع الطامحين المحبَطين. بعد سنين من الخوف من النسيان، يشعر الروائي المنشور له الآن بأن النجاح كان محتوماً، وأنه في أعمق أعماق وعيه كان يعرف دائما أنه من النخبة (وذلك ما قاله لي مرة “في إس نايبول” بكثير من الإسهاب وبقناعة يحسد عليها). في غضون أسابيع قليلة سوف تظهر رسالة على الموقع الإلكتروني الخاص بالكاتب الجديد الطازج تحذر الكتاب الناشئين من إرسال مخطوطاتهم. هؤلاء يعيشون الآن في بُعد آخر. والوقت ثمين. ولا بد من كتاب آخر، إذا لا معنى لأن تؤسس لنفسك سمعة ثم لا تقوم بتغذيتها واستغلالها. والآن وقد تيقن الكاتب من حرفته، بات عليه التشبث فيها. وعما قريب سوف يكون على وجه التحديد ما يريد له الجمهور أن يكون إياه: شخصاً مفارقاً، منتجاً شيئا خاصا، أدبا، أو فنا.
وذلك يغير كل شيء. يطرأ تحول على ديناميكية زيجته. أو زيجتها. فزوجةٌ غير منشور لها تختلف أيَّما اختلاف عن زوجة منشور لها. علاقتها مع الأبناء تتحدد وفقا لذلك. مطلوب الآن دائرة جديدة من الأصدقاء. وبمرور الوقت يكتشف الكاتب موقعه ويتخذه، ذلك الموقع الذي يبدو المجتمع على أهبة الاستعداد والأريحية للاعتراف به للفنان. للكاتب الآن إما أن يتقبل أو يرفض الفرصة السانحة للعب دور الأخلاقي، أو دور الثائر بالتبادل مع دور الأخلاقي وإن يكن الدوران في أغلب الحالات يتزامنان ـ للكاتب الآن أن يكون طول الوقت تحت الأنظار، أو ينسحب إلى الخفاء المثير، ويبقى مع ذلك شيء واحد عليه ألا يقوم به مهما حدث. عليه ألا يعترف – فإن فعل فليس إلا على سبيل السخرية وكأنما الأمر ليس إلا دعابة محضة – بالطموح الضاري الذي يدفع كتابته، وبما تحت هذا الطموح من إيمان راسخ بهيراركية راسخة قائمة بين الكاتب والقارئ أو الكاتب وغير الكاتب يكون الأول بموجبها هو الأهم على وجه الإطلاق، وهو الأكثر حقيقية بطريقة أو بأخرى، من الأخير.
ولنحاول تأطير هذا بمزيد من الوضوح. كم عدد المعايير العريضة المتاحة لتقييم شخص آخر؟ ليس كثيرا. بصورة عامة يمكننا اعتبار الناس أخياراً أو أشراراً، شجعانا أو جبناء، منتمين إلى أمثالنا أم غير منتمين، موهوبين أو غير موهوبين، فائزين أو خاسرين (ناجحين أو فاشلين). ولكل من هذه المعايير، بطبيعة الحال، تفريعاته واختلافاته الداخلية، لكني أعتقد، بصفة أساسية، أن هذه هي المعايير العامة. ولو سئلت أي هذه المعايير هو المهيمن اليوم، لما وجدت مفرا من القول بأنه المعيار الأخير: فائز أم خاسر. المهم هو الفوز، المبيعات، الشهرة، السيطرة على العالم. ولكن لا يمكن الاعتراف بأن هذه تمثل القيمة الأساسية. الفوز إذن يفوق بقية الفضائل الأخرى على أن يكون الكلام دائماً عن الأمور الأخرى. وفي “جوزيف أنطون” يبدو رشدي متفهما لهذه القاعدة تمام الفهم حينما يرفع لافتة حرية التعبير فيتساءل في إحدى المراحل: كيف يكون من الإنصاف أن تستطيع مارجرت تاتشر حضور ندوة عن كتاب لها، بينما أنا بسبب التكاليف الأمنية، أعجز عن ذلك؟ وليس هذا رياء بالضرورة. فللمرء أن يولي قدراً عظيماً من العناية بهذا الموضوع أو ذاك، أو بهذا القالب الفني دون غيره، أو يركز على الجماليات، بينما الذي يسيطر في حقيقة الأمر من وراء ذلك كله هو شيء واحد: الفوز.
بوسعك أن تعثر على رؤى مثيرة إن نظرت إلى مواقع الكتّاب الإلكترونية لا سيما الكتّاب الأقل شهرة ممن يشرفون بأنفسهم على مواقعهم. سيكون تقريباً أول ما يواجهك هو جائزة، مؤشر على النجاح. “ولدت في دابلن سنة 1969، أنا كاتبة فازت بجوائز …” هذه هي الجمل الافتتاحية في موقع “إيما دونويو Emma Donoghue” صاحبة الرواية الناجحة “غرفة”. آرمون جرونبرج Arnon Grunberg، الذي يقال: إنه أنجح روائيي هولندا الأحياء، عنده خريطة للعالم لا تحمل من أسماء الدول إلا الدول التي نشرت أعماله. لكنها كثيرة. اضغط على مصر أو إستونيا، أو اليابان فترى ما نشر له فيها. ويكتب جرونبرج في مدونته بالإنجليزية اشتياقاً بالقطع إلى جمهور أكبر. وكذلك أنا على أية حال. فأي نجاح في أيامنا يكون بدون جمهور عالمي؟
ويبقى السؤال: لماذا يكن الناس كل هذا الاحترام للكتاب، حتى وهم لا يقرأون؟ ما الذي يجعلهم يتوافدون على المهرجانات الأدبية بينما مبيعات الكتب تتهاوى؟ ربما السبب ببساطة هو أن الاحترام والإعجاب من جملة المشاعر الجذابة التي نحب أن نشعر بها، لكن في عالم لا أدري قوامه فردية لا تعرف الرحمة تزداد كل يوم صعوبة العثور على من يمكن الانحناء لهم دونما شعور من المنحني بنزر من السخافة. لم يعد الساسة والعسكريون ملائمين لهذا الدور. والرياضيون بالغو الخفة، وأعمارهم في الملاعب بالغة القصر. وبهذا المعنى يكون من دواعي ارتياح القارئ، وحتى غير القارئ أن يكون ثمة بطل أدبي، موهوب نبيل، بل وربما قديم العهد بالمعاناة، شخص لا يبدو في المقام الرئيسي مهموماً بأن يكون أنجح منا. “أليس مونرو” بحكاياتها المائلة إلى الحزن، التي لا نهاية لها، عن العاجزين عن تحقيق أهدافهم، تلائم هذا الدور تماماً. واستكشافها لهذا الإحساس بالفشل الذي يشعر به الكثيرون للغاية في عالمنا التنافسي، هو الذي خول لها الفوز بأضخم الجوائز الأدبية على الإطلاق.
________
*عن مدونة نيويورك رفيو بوكس في 11 يناير 2014/ جريدة عمان