من يوميات كاتب متفرِّغ


*بنسالم حـمِّيش

في أحلك أوقات الضائقة، ضائقتي، تفرغت لصنع الخلاص، فتجمهرتُ حول طاقاتي وما تبقّى لي من حِلم وقوة. وما إن انتفضتُ وتوثّبتُ وتوغّلت حتى فاجأني عالم المجاهدات واليقظة وقال: أنتَ في هدمِ عمركَ مذْ خرجتَ من بطنِ أمك، وأنتَ في الرغبة وعند الثراء عرضةٌ للتلاشي، وأنتَ تذهب باللّذات والمسرّات، وتذهب بك الجائحات والتبعات…

وقال كلاماً آخر لم أقوَ على ردّه. ولمّا توقَّف دُخت، وبفطنته احترقت.عوضاً عن رصاصات حقيقية، هأنذا -إذاً- أطلق رصاصات وهمية على محدوديَّتي ماثلةً في هشاشتي المتأصِّلة، والأخرى المكتسبة، كما في مكامن ضعفي ونقائصي. والمحصِّلة -لا شك- تحدسونها: صفرية تقريباً هي ومحزنة. وفي الختم، أضحيت كمن يريد طرد الضباب بمروحة (حسب مثل ياباني)، وبالطبع، لا أحد يستطيع فعل ذلك وإنْ تعَبّأ، وناضل.

إنما حذارِ من أن يَظنَّ ظانّ أني أستسلم وأترك الحبل على الجرّار، أو أتقلّى وحيداً في زيوت يأسي الفائرة، بل إنه يحدث لي أن أُقْدم أحياناً على تمكين نفسي من لحظات هُدنة أبحث فيها عن ممكنات مفرجةٍ مفرحة، أترقَّبُ منها تفتُّقات ونهضات محتملة. وعليه، كملفٍّ مطويّ، لن أكون إلا مع إعلان الحدث الوحيدِ القمين، ولوقتٍ وجيز، بإثارة التفات بعض الغير: إنه موتي.

وهكذا، نكتي وطرائفي ومستملحاتي وقصصي، التي غالباً ما أحكيها لنفسي، هي بمثابة ترياقي ضد السقم والاكتئاب. إنها سماد ريحي الطيبة وتزجيتي للوقت بالتي هي أخفُّ وأيسر. وإنها، كرفيقتي، شهادةُ تأمين على ما تبقّى من عمري.

ولي في ذلك هوايات وواقعات، منها للتمثيل ما يلي:

لكلٍّ هوايته!

كما أن بعضهم يهوون رؤية تحليقِ الطيور أو مرورِ القطارات وحتى قطعان الحيوانات، يحلو لي أنا من شرفتي الظليلة أن أرى -من دون أن أُرى- الناس بين غادين ورائحين أو ثابتين، وأتخيَّل منهم -حول هذا وهذا وذاك- قصة، الغالب على تقديري أنها لم تكن أبداً قصتهم. وإنه عمل أجترحه وأمارسه من زاوية هوايتي الكتابة روايةً، وقصّاً، وأيضاً شعراً بقدر أقلّ، ألجأُ إليها كملاذ أخير، أؤوِّل فيه نتاج غطساتي التفقُّدية بين زحمة الوجوه ودحاسِ الأبدان ومصطدم الذاتيّات والأهواء.
كذلك تفرَّغت لتصويب النظر إلى ما يحفل به الشارع والميدان أمامي من حياة آدمية، مسخراً عند الضرورة مكبّري البصري، ساهراً على أن يجري مخيالي كطاقةِ حدسٍ وتحسُّس، لا كآلة بصٍّ وتجسُّس. فماذا أرى؟ ماذا أرى؟

ذاك رجل له رأس مجرم في حالة تخفٍّ وفرار، يبدو هذا من قبعته ونظّارته السوداوين، ومن مشيته المخاتلة، وميله إلى محاذاة الحيطان، والذوبان في الجمهور العرمرم.

الراجح عندي أن جناية الرجل بالغةُ الظلمِ والخطورة، وليست أقلَّ من إزهاق روحٍ ذبحاً أو تغريقاً، إن لم يكن شنقاً، حتى يطيل البحث فيها، بل يعطِّله بخلط الأوراق، وتلبيس السبل، وتعريض ملفّه إلى التقادم والطّيّ. وفي ظني المرئي أنه من القتلة المأجورين، يتعيَّش من هذي المهنة المرعبةِ المقيتة، لا يعرف أدنى شيء عن مُسَخِّريه، ويتقاضى ثلث أجره مقدَّماً والبقية بُعَيْد ارتكاب الجريمة، وذلك عبر وساطات سرّيّة معتمة؛ أما إن تخاذل أو أخطأ الهدف مرتين، فليتوقَّع اغتياله برصاصات صامتة في الرأس، اللهم إلا أن يعيش كجرذ في بالوعة أو يتخندق في كهوف نائيةٍ منيعة…

وذاك رجل آخر أشبه ما يكون بهاربٍ من مستشفى أو مستودع للحمقى، يمشي مكبّاً على وجهه وقع حاله، كأن عيوناً تترصَّدُه وأقداماً تتقفّاه لتُكْمِنَ له وتُو وباء. وظل هكذا تحت تغطيتي إلى أن غاب في مسجد ولم يخرج منه.

الفرضيات والتخمينات التي يجوز سبغها عليه كثيرة متنوِّعة، لكن أقربها إلى الاحتمال أن الرجل مصاب بداء نفسيّ لعله الفصام، هذه التركيبة الكوكتيلية من علل أخرى، تلوِّثُ علاقة المصاب وتفسدها مع الواقع والمحيط والآخرين، فلا يجد لنفسه متنفَّساً إلى حين إلا في أوقات معلومة يقلّ فيها الحضور، فيتوضَّأ على عجل، ثم يصلّي وحده في ركنٍ مظلمٍ معزول، ثم يهمس بقراءة أسماء الله الحسنى وسورة «الناس» خاتمةِ القرآن عشرات المرّات. وما إن يأخذ تقاطرُ المصلّين في الارتفاع حتى يجد له مخرجاً ينفذ منه كالشعرة من العجين، متوجِّهاً إلى بيته في بادية المدينة، لا لغوَ فيه ولا ضجيج، فيثوي فيه منقطعاً إلى نفسه وقد حفت بها هواجسُها المستبدّة وأحلامها البدائيةُ الضالعة…

وذاك رجل آخر أشبه ما يكون بهاربٍ من مستشفى أو مستودع للحمقى، يمشي مكبّاً على وجهه وقع حاله، كأن عيوناً تترصَّدُه وأقداماً تتقفّاه لتُكْمِنَ له وتُو وباء. وظل هكذا تحت تغطيتي إلى أن غاب في مسجد ولم يخرج منه.

الفرضيات والتخمينات التي يجوز سبغها عليه كثيرة متنوِّعة، لكن أقربها إلى الاحتمال أن الرجل مصاب بداء نفسيّ لعله الفصام، هذه التركيبة الكوكتيلية من علل أخرى، تلوِّثُ علاقة المصاب وتفسدها مع الواقع والمحيط والآخرين، فلا يجد لنفسه متنفَّساً إلى حين إلا في أوقات معلومة يقلّ فيها الحضور، فيتوضَّأ على عجل، ثم يصلّي وحده في ركنٍ مظلمٍ معزول، ثم يهمس بقراءة أسماء الله الحسنى وسورة «الناس» خاتمةِ القرآن عشرات المرّات. وما إن يأخذ تقاطرُ المصلّين في الارتفاع حتى يجد له مخرجاً ينفذ منه كالشعرة من العجين، متوجِّهاً إلى بيته في بادية المدينة، لا لغوَ فيه ولا ضجيج، فيثوي فيه منقطعاً إلى نفسه وقد حفت بها هواجسُها المستبدّة وأحلامها البدائيةُ الضالعة…

وذاك عجوز يشبه حيّا ذا رِجْلٍ في قبر، فتارة يخلّصها بعد لأيٍ، وتارة يعجز. وكل من سعى إلى مدِّ يد المساعدة إليه يهشّ عليه بعصاه دفاعاً عن حرمة هرمه وحقّه في تمديد جهده إلى أقصاه، معوِّلاً على ما تَبَقّى من أنفاس حياته وعلى ذي القوة كلها والحول، لا منازع له ولا صنو. وظل على حاله حتى فقد توازنه وانهار، فتحلَّق حوله نفر من الإنس، وبعد وقت معدود أقبلت سيارةُ إسعاف فنقلته وهو مغمى عليه، ميتاً أو حياً وربما ما بين بين. ولمّا تلاشت صفارة السيارة قفزتْ إلى ذاكرتي صورة عجوز آخر قوّلتُه ذات مرة: أدركتُ ناموسَ الجذبِ الأرضي بفضل تداعي أعضائي فسقوطِ جسمي. أما سقوط حماسي وآمالي فلم يُرني شيئاً آخر غير قانون قهرِ الوقت والسلطان، يحفّ به فساد صدور كثيرة ورؤى شتّى..
استلقيت على أريكتي محدّقاً في زرقة السماء وغسقها الناشئ، ثم جَدَّدت رشفي شراباً منعشاً يعيد الصحو للذهن والوضوح للنظر. عندئذ لمحت عن بعد شاباً يتحرَّش بفتاة يبدو أنه شَغُف بها حبّاً، فلم يفارقها إلا وهي تصرخ وتستنجد، وهو بمعيّة شرطيين يقودانه للتحقيق معه في المخفر. فلما مروا من تحت شرفتي أدركت أن المتحرِّش هو مجنون الحيّ وشاعره المزعوم الذي صاح يوماً متعجباً -أو هكذا ربَّما تخيَّلته-: أنا شاعر مفلق حتى في ساعاتي الضائعة. سئل: كيف؟ أجاب: لأن معظم ساعاتي ضائعة، ومن ثمَّ فأنا شاعر ملء وقتي، وشاعر محترفٌ يصحُّ وضوؤه، وتُجزى صلاته في كنف الشعر المقدَّس…

وأيضاً في معرض الوجوه وسيلها لمحت رجلاً مكوَّر الخِلقة، أصلع الرأس، فائض البطن، رجلاً ذا وجه يخفي آخر تحت ألف سرٍّ وسرّ، يلزمني لحلّ شيفرته زمناً طويلاً وخيالاً أطول. وهذا ما لا طاقة لي بي حاضراً، وقد يظلّ عملاً مؤجَّلاً لا ملغىً…

الذي لا يقدر أن يفعل مثلي ويقودَ مركب المخيال على النحو الأحسن، لن يكون مؤرِّخاً محترفاً بل روائياً واعداً، حارثاً للهوامش والمغارات، متمثِّلاً قضايا الإنسان الحدّيّة وأسئلته المحرقةِ القصوى، وغير ذلك كثير.

رواية قد تجيء

«… وروايتك سمعت بها ولم أقرأها. قل لي عمَّ تحشي؟»

فهمت أن السائلة من قطر عربي ينطق أهله الكاف شيناً. عموماً، أستهجن دائماً أسئلة من ذاك الصنف، وأنفر منها كلَّ النفور. أما مع سائلتي في صالون فندق باذخ، اكتفيت من باب اللياقة بالتحديق في الفراغ، مُتَّشحاً بجدّيّة إرادية في البحث عن جواب. لكن بعد انتظار غير مثمر، ها هي تعيد الكَرّة بإلحاح شديد:

– نعم، تحشي ماذا روايتك؟
– عن أشياء وأخرى، أحبت حذِراً متهيباً.

– نعم، لكن عن أيّ شيء بالتخصيص؟ ردّت بصوت شبه استنطاقي. لا يمكنها على أيِّ حال أن تتكلّم عن كل شيء وعن لا شيء… لخّص لي في كلمات عصارة حكايتك ودرسها.

لولا جمالها المغري وأناقتها المعتبرة، لكنت بلا شك غادرتها مردِّداً -بصيغ عدة- جوابي الأوحدِ المفرد، السابقِ قوله. وعليه، أخذت أرتجل لها قصة لا علاقة لها مطلقاً بروايتي، قصة هزلية لا رأس لها ولا ذيل، لا شكل ولا متن، لا عُقدة ولا حلّ؛ زوّقتها بصور غريبة وكلماتٍ مستملحة، يشجعني اهتمام مستمعتي البالغ وضحكاتهُا الصريحة أو المكتومة ومظهرُها المتلذِّذ السعيد.

فجأة، قاطعتني وأنا في أوج هذياني، وترجَّتني ألا أسرد عليها بقية روايتي العجيبة، وذلك لأنها، كما قالت: سأذهب فوراً من هنا لأشتري الرواية في عدة نسخ لي ولأعزّ صديقاتي.

بعد أيام سبعة، تلفنت لي السيدة متهجِّمة عليّ، مُتّهمةً إياي بارتكاب خيانة في حقها، ثم أمرتني أن أعترف بنصبي عليها، وأن أكفّر عن فعلتي المشينة بكتابة القصة التي رويتها لها التي لا أثر لها في روايتي الورقية، ثمّ إرسالها في أقرب وقت إلى علبتها الإلكترونية.

لأسباب تفهمونها لم أستطع البتة تلبية أمر الخصيمة، ليس جراء سوء عناية أو إرادة، وإنما لانتفاء المحفّزات الملهمة المسعفة.

عاجزاً عن نسيان تلك الحادثة المؤسفة، شرعت أتخيَّل أحد تطوراتها الممكنة. مثلاً: المرأة نفسُها، وقد مُسخت كائناً مطلقَ الدمامة، فائقَ العدوانية، اختطفتني تحت التهديد بمسدسها، وسجنتني بقصد أن أكتب القصة التي امتنعتُ عن تحريرها… وهنا -كما أُقرّ- يقوم موضوعٌ مغرٍ لرواية أخرى قد تجيء
ختم خائب

هي: صحافية استثنائية وذاتُ حسنٍ يا ألله!

أنا حسب ما يقال: كاتب ناجح، شبكيّ، مثقل بالجوائز والميداليات.

بعد استجواب مطوَّل معي لمجلة نسائية واسعة الانتشار، ارتأت هي ختم نصها بالسؤال المعتاد دوماً: وأخيراً، ماذا سيبقى منك للخلود؟

لولا حرصي على مراعاة قواعد المعاملة الحسنة لكنت أطلقت العنان لضحكة عامرةٍ عارمة عوضَ أن أمدّ السائلة بهذا الجواب:

– ما سيبقى مني للخلود؟ دعيني أفكّر… إيه في آخر المطاف، منّي، صدقيني، لن يبقى شيء… أو ربما بضع كلمات تُروى مجرّدة عن اسمي، مبنيّة لمجهول، من صنف: وكما يقول الشاعر أو الكاتب وربما: كما جاء عند أحدهم…

وإذ رأيتها تكفهر لجوابي، حاولتُ التهوين عليها، مضيفاً بابتسامة عريضة:

– أو قولي، لربما سيبقى للخلود استجوابنا هذا، خصوصاً منه جوابي الفقير الجاف على سؤالك الختامي العُلوي.

غير راضية عن تواضعي، استأذنَتِ الصحافية بالذهاب وهي لا شك تنوي إخضاع نصّنا لتعديلات وتكييفات هي في نظرها ضرورية…

ما لم أكن أحسن قوله في ذلك الاستجواب -ولو بالايحاء- هو أني قضيتُ وقتاً، وأكثر مما يلزم، لفهم أن الخلود ليس في آخر المطاف إلا فرضيةَ عملٍ وحياة، وفكرة أصيلة مهيّجة تقدر أن تُسكت «الشهقات المديدة لكامنجات الخريف»، وأن ترجئَ ما أمكن -إلى أجل ممدّد- علامات الأفول، وكبساتِ ملكِ القبض وتجريفات النسيان والطمس. ومن ثمَّ كل نتاج يتوقُ إلى أملٍ في البقاء، أو بعضِ الدوام لا يستقيم إذا لم يغذّه وتدعمْه رغبةٌ في الخلود طليقةٌ شديدة، مع انتفاء ضمان المحصول والنتيجة.

وهذا الكلام، لو نطقتُ به هكذا للصحافية الغرّة لاستشكلته وطالبتني بتبسيطه بكلمات عادية، أي على قَدِّ فهمها الضيّق، وهذا ما ينسف متنه ومعناه، وما أمجّه وأتأبّاه.
زائرة لا تفهم!

في معرضٍ تشكيليّ-شعريّ مشترك بيني وبين فنانة موهوبةٍ خجولة، تقدمتْ نحونا زائرة عصريةُ القوام والهندام، فسلَّمت وسألت: هذي اللوحة مثلاً ماذا تعني؟

عن سؤال في منتهى الغباء والبلاهة كهذا، غالباً ما أجيب عابساً أو مبتسماً: لا شيء… التفتت إليّ شريكتي مستنجدة، فما كان منّي إلا أن تحلَّيت باللياقة والصبر مع السيدة المستنفرة، فأجبتها: اللوحة، مولاتي، تحيل على حليفتها أي القصيدة المعلَّقة بجانبها… فألقت نظرة على أبياتها الأولى، فيما الفنانة تنسحب على رؤوس قدميها لاستقبال زوّار تعرفهم. ولمّا أنبأتني المرأة متأسِّفة أنها تفهم كلمات القصيدة دون معانيها، عاملتها بالحسنى، كما مع نسوة وشخصيات فخمة، فلفَّقتُ لها جواباً حلزونـيَّ التركيب، فائق الخواء، لا يعني شيئاً، أو قل يسلّم هذا اللاشيء في تغليفٍ مزخرف وحُلّة قشيبة لا غير. ففغرت الزائرة فاها وشكرتني بحرارة -يا عجباً!- على كوني نفعتها في فهم كلِّ شيء. عندئذ نعتّ لها طاولة الكوكتيل، وهببت لإغاثة شريكتي من استفساراتِ واستيضاحاتِ زوّار على شاكلة الزائرة المنصرفة، أو لمؤانستها مع آخرين، وهم قِلّة، يمعنون النظر في القطع المعروضة، يتذوقونها، يتفاعلون معها ولا ينطقون إلا بما قلَّ ودلّ…
_________
*الدوحة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *