*محمد مظلوم
يمكن وصف الشاعر الإيطالي دينو كامبانا، 1885 – 1932، بالهامشي الخطير، هامشيّته في سيرته المضطربة، وحياة الجنون والتشرد والنبذ والاقتلاع وفقدان الحنان التي عاشها. أما خطورته فمستمدَّة من طبيعة شعره، فهو مزيج معقَّد من الهذيانات والإشراقات والاعترافات متّسقة في كيمياء غريبة جعلته صعب التصنيف في المتون النقدية للشعر الإيطالي، لكنه حظي باهتمام كبار شعراء إيطاليا وعنايتهم بشعره كأونغاريتي ومونتالي وكوازيمودو، مستلهمين منه هذا «الغموض البناء» والمعنى المحتجب والموارب، بما يجعله المؤسس الخفي للمدرسة الهرمسية في الشعر الإيطالي.
أصدر كامبانا في حياته ديواناً وحيداً، ثم عُثِرَ على قصائد أخرى بعد موته، وصدرت حديثاً ترجمة عربية لأعماله «أناشيد أورفية وقصائد أخرى» (دار التكوين – دمشق)، وترجمها عن الإيطالية أمارجي – الاسم المستعار لشاعر ومترجم سوري مقيم في إيطاليا – في أول ترجمة عربية لهذا الشاعر الملعون.
والواقع، أن اللعنة، إضافة إلى الجنون، كانت الحليف الآخر لهذا الشاعر، فديوانه الوحيد صدر عام 1914، عام بداية الحرب العالمية الأولى، بعد أن ضاعت مخطوطته الأولى، وبإهداء إلى: إمبراطور ألمانيا، الذي سرعان ما هزم في الحرب وسقط معه الرايخ الألماني الثاني!
يكنِّيه النقاد الأوروبيون برامبو الإيطالي، ليس لأجل مقارنة فنية بين التجربتين فحسب، وإن بدا ذلك ممكناً، لكن بفعل الولع المشترك بالمشي والارتحال حتى التيه، وإذا كان رامبو قد بلغ عدن وهرر في رحلة غامضة أو لعلّها غارة غريبة المغزى، فإن رحلات كامبانا لا تكاد تقف عند حدود، وهي بلا هدف واضح لها سوى الهروب المستمر تحت وطأة انفصام الشخصية قبل أن يتحول إلى جنون مطبق، فهو هارب من العائلة ومطرود من الكنيسة ومطارد من المصح ومتخلِّف عن تأدية الخدمة العسكرية التي لم يكن يصلح لها لاضطرابه العقلي، وهكذا كان المشي عالمه ومنجاه، وتعبيراً عن عدم قدرته على المكوث في مكان واحد بل في أي مكان، حتى وصل إلى أميركا اللاتينية برحلة لا يعرف لها سبب، وكان رجلاً يثير الريبة والمعارك أينما حلَّ وارتحل، حتى أنه أصيب أثناء عبور الأسلاك الشائكة في إحدى محاولاته للهروب من مستشفى المجانين، وهي الإصابة التي كانت لها تفاعلات أدت إلى وفاته في المصح وهو في السابعة والأربعين.
اضطراب في الجغرافيا
هذا الاضطراب في الجغرافيا والذهن لدى هذا المشَّاء الكبير سنجده منعكساً في قصائده، إذ تمثل نصوصه متاهة أخرى، ورحلة مغلقة على رغم انفتاحها الظاهر، تتعدَّد الأمكنةُ في نصوصه لكنها في النهاية مكان واحد للمتاهة، ربما لهذا شكّك أونغاريتي في أن تكون رحلاته تلك واقعية، وعندما يعمد إلى تقنية التكرار في قصائده، فهي أقرب إلى العود الأبدي وتعبير عن تلك المتاهة وعدم وجود منفذ أمامه.
نصوص الأناشيد منفصلة ومتّصلة في آنٍ، هي في مثابة السيرة الذاتية للجنون في سعيه لأن يبقى طليقاً حتى وإن كان طريداً، في محاولة يائسة للالتحاق بعالم جديد يكون بديلاً عن الخراب الروحي الذي يتجوَّل في أعماقه: «عُبوري الُمنفرد/ يضربُ الظلَّ على الأرصفة/ في الضوءِ الموحَّدِ للمراكبِ على طرفِ الْمدينةِ/ لا شيءَ غير العبورِ الليليِّ الْمُنفرد/ الذي يضربُ في الليلِ مع المراكبِ/ ويضربُ الظلالَ مُنفرداً».
وبتدفّق غير منضبط في كثافة الصور والاستعارات واستطرادها وتواتر التوصيفات في غنائية عالية الضجيج، يستعير البناء العام لـ «أناشيد أورفية» الرحلة الأسطورية لأورفيوس في عالم الأموات «هاديس»، للبحث عن زوجته الميتة لاستعادتها من ذلك العالم المعتم، لكن كامبانا ليست له زوجة وما من مفقود يسعى إلى استعادته أو البحث عنه بأنين قيثارته، فـ «هاديس» في داخله، وليس في مكان آخر، وهكذا جاءت رحلته بحثاً عن هويته المنفصمة، رحلة مزدوجة مركبة من الخيالي والواقعي، فهي واقعية داخل الحياة التي تضجُّ بالآخرين، وخيالية داخل الخواء الروحي والجنون، لكنه بحثٌ لا يصل إلى شيء عادة، وينتهي بعودة خائبة مثلما انتهى مسعى أورفيوس إلى الخيبة في اللحظة الأخيرة التي أوشك فيها أن يستعيد زوجته.
وعلى رغم أن العنوان الأولي للمخطوطة بصيغتها التي سلَّمها للناشر كان «النهار الأطول»، إلا أن مواقيت ذلك النهار تكاد تنحسر أمام العتمة، فقصائده ليلية بمناخها العام، وإن ازدحمت بها شتى الألوان، بدءاً من قصيدة «الليل» ثم «مسائيات» ومراقبة الغروب ثم الغسق في «أغنية لأجل الظلمة» «رؤيا المغلق». وحتى الفجر ليس أكثر من قطرة ضوء مدمى، وغبش «أتمشَّى تحتَ جاثومِ الأقْواسِ العقديَّة الْمُقنطَرة، قَطْرةُ ضوءِ مُدمَّى، فَغَبَشٌ/ فَقطرةُ ضوءٍ مُدمَّى، إنها عُذوبةُ الْمَنسيَّاتِ، أغيبُ في زقاقٍ، غيرَ أنَّ ظلاً في غَبَشِ الفِردوسِ يتكشَّفُ، عَنْ شفاهٍ مصبوغةٍ، أوه إبليس، أنتَ يا مَنْ تُطلِعُ من الظلالِ جثمانَ أوفيليا الشائنَ إرأفْ ببؤسي الطويل».
كما يوحي عنوان «النهار الأطول» بأنه أراد أن يكثِّفَ الزمن والتاريخ في رحلاته الشاسعة بحدود يوم واحد، وهو ما فعله جيمس جويس لاحقاً في «عوليس»، فكامبانا يتحدث في رحلته عن الإغريق، وأوفيليا وأهرامات مصر، وأبراج بابل، وحشود الأعراب. رحلة هي من تلك الرحلات الماورائية الكبرى، بل إنه لا يخفي إعجابه برحلة مواطنه دانتي: «قصيدتُكَ عن الترحُّلِ تضربُ ذاكرتي بقوة يا دانتي…»، على أن ملامح لتجارب شعرية أوروبية أخرى تلوح في شعره، فثمة نوفاليس في «أناشيد إلى الليل» بخاصة في مزامنة الموت بالظلام، وشعور الوحشة والفراغ، عبر غنائية ورمزية مشحونتين بالأسى، وكذلك لوتريامون بأناشيده الوحيدة أيضاً وبصور القسوة والنبرة العنيفة والحضور الفاوستي المتكرر، ولعل تأثير لوتريامون في الشعر السوريالي الفرنسي يوازيه تأثير كامبانا في شعراء المدرسة الهرمسية وإنْ من بعد.
قصائد هذا الشاعر الهامشي حائرة بين الكلاسيكيات والحداثة، يجمع فيها بين السرد والتقطيع، ذات صخب لغوي وصوري، حيث يخضع كل ملموس ومرئي من حوله لشراسة البصيرة الداخلية والحدس، في مشهد يتداخل فيه الوهم بالحلم بما يجعل الغموض الشعري يقترب من الإبهام. لذا يبدو شعره صعباً على الترجمة في أية لغة، ولم تفعل ترجمة أمارجي سوى عكس تلك الأجواء العسيرة. فمن الواضح أنها، كتبت، على الأقل، تحت تأثير اختلال نفسي.
وعلى رغم الجو الاحتفالي والبلاغي الفائض من رموز مشتبكة بين الطبيعة والبشر والأمكنة، التي تحتشد في تصويره للعالم من حوله، واستغراقه في تصوير يوميات المدن بلغة تقترب كثيراً من الفنون البصرية ولغة السينما تحديداً، بما يوحي أن ثمة احتفالاً بالحياة، إلا أنه يبدو مثل حفلة في الجحيم، فهو يرسم مشاهد كبرى من ألوانٍ شتى وأصوات مختلفة، سرعان ما تتداعى وتنهار لتبقى العتمة والصمت، بينما نزعة مازوشية تقهقه في أعماقه: «في داخلي أستشعرُ عُذوبةَ زوالِ كلِّ ما جَعَلنا نُكابد»، «أتناولُ القلمُ أكتبُ… ماذا؟ لا أعرفُ.. دمائي على أصابعي…».
يبدو كامبانا في حياته كما شعره كمن يسير في العالم وحيداً، ومع هذا يشعر بأن كتفه تصطدم بظله في الزحام! إنه من الشعراء الذين تغتالهم عصورهم، لكنهم يضيئون في أزمنة أخرى، أولئك الذين واجهوا مصيرهم بين الجنون والانتحار كنيتشه وهولدرين وتسيلان، بل إنه جمع بين هذين الخيارين فكان موته في المصح أشبه بالانتحار.
_________
*الحياة