*محمد العريشية
لم أتمكن اليوم من تقليم أظافري، يدي فاشلة لا تقوى على الحركة، والسجائر نفدت أيضاً. ليس في مستطاعي الوقوف للصلاة أو الخروج من البيت فقد أصبحت لا أقوى حتى على التفكير، أصبحت سهل الانقياد لذكريات الحرب، يأخذني هدير الطائرات وأزيز الرصاص أنّى يشاء. تلهث ذاكرتي خلف أنين الجرحى، وأستحضر أمام عيني وجوه موتى، ثمة جثث مقطعة يتزاحم حولها الذباب.
لا أستطيع النوم، أتخيل أشياء كثيرة، وكأن الموت يرتدي قناعاً ويركض خلفي من غرفة إلى أخرى. لقد حزمت حقيبتي كي أهرب إلى البعيد، إلى جهة توشك أن تتلاشى في عالم النسيان…
بدا العجوز كمن سيضيف شيئاً آخر، إلا أنه سكت فجأة، ظل ينظر إلى قط يمشي في حذر فوق سور البيت، مشدداً النظر إليه إلى أن قفز في الجهة الأخرى وطار سرباً من الحمام.
قال:
– ما زلت أتذكر ذلك اليوم الذي رافقت فيه أبي إلى «سرت» لمساعدته في علاج الجرحى واكتشفت للمرة الأولى أن الأدوية التي كان يستخدمها لم تكن سوى كلمات مواساة، ونظرات حزينة يسكبها على الجراح مباشرة، نظرة خلف نظرة، حتى ينفد مخزونه من الصبر وعندئذ يرخي العنان لدموع تظل تتسرب ببطء من تحت ابهامه وسبابته. تحمست كثيراً لمساعدته، وتخيلت نفسي ممرضاً مثله لا يملك صرة مملوءة بالأدوية بقدر ما يملك كلمات مؤثرة.
كانت أصوات أطفال تتعالى، وفيها بكاء، وتختلط مع نباح كلاب، اتكأ على مرفقه وهو يرنو إلى الأرض، وقد بدا عليه الضيق:
– كانت قد انصرمت ساعات النهار، ومضينا عبر شارع ترابي يخلو من المارة، تحت سماء مكتظة بالنجوم دخلنا فناء مدرسة مدمرة، وقف أبي عند الباب وقال:
– ما تراه اليوم يجب أن تنساه غداً.
سألته:
– هل حقاً أن أدوية الطبيب الايطالي ممزوجة بالسم؟
حدجني بنظرة صارمة ولم ينبس بكلمة، دفع الباب بيده ودخل، بقيت حائراً، وبدا عليّ شيء من التردد قبل أن أتجه خلفه. منذ ذلك اليوم أصبح الموت محفوراً في ذاكرتي وكأن أجساد الموتى الذين رأيتهم متناثرين في فناء المدرسة قد دفنوا بين أجفاني وأهيل فوقهم بصري. لم يبق في مخيلتي شيء سوى تلك القدم التي حملها أبي للمقبرة ودفنها. لم أقوَ على النوم، ورزحت تلك الليلة تحت وطأة القدم بشقوقها وأظافر أصابعها الطويلة المتسخة، قدم تكسوها الخدوش وخثارات دم جاف وتنبعث منها رائحة كريهة. لقد تشكلت في ذهني صورة بشعة لصاحب القدم على هيئة شبح مخيف وأخذ يقفز في أحلامي بقدم واحدة ويصيح، ورأيته مرة أخرى وهو يقوم بنبش القبور باحثاً عن قدمه.
دخل عدد من الأطفال وأخذوا يركضون خلف بعضهم البعض محدثين جلبة، رفع العجوز اصبعه مشيراً إليهم أن يخرجوا وصاح في صوت مدو:
– ابتعدوا، يمكنكم أن تلعبوا في الخارج.
صمت لحظة، وأضاف:
– تمسك أبي بتلك النظرة الحزينة التي لازمته طوال حياته.
نهض من مكانه بصعوبة، ومشى ببطء نحو حقيبته وشرع في تفقد محتوياتها، كانت يده تتحرك في اضطراب وعاد – وقد وقف طويلاً بعد كل خطوة – إلى حيث يتكئ ابنه على مرفقه في ظل شجرة سرو ويرسم بيده دوائر على الأرض:
– ما أتذكره الآن أن السماء كانت قطعة من خوف، رمادية، شاحبة، لا تختلف كثيراً عن نهارات «سرت» الرثة. أمطرت وابلاً من الطائرات، وما أن ركضنا خلف الطبيب الايطالي حتى سقطت قنبلة من ورائنا، واصلنا الركض حتى السوق القديم، اندلعت النيران في عدد من الأبنية وتلفعت السماء بالأدخنة. مرت من فوقنا طائرة فارتمينا على الأرض خلف الصخرة الحمراء وهنا لاحظت ندبة تنزل من تحت عينه اليسرى حتى أسفل ذقنه، تطلع إليّ بوجه شاحب واهن، مسح العرق بذراعه وهو ينصت إلى لعلعة الرصاص وهدير الطائرات ثم نهض وعبر الطريق، وضع أبي صرته بين يديه وقال:
– لا تذهب إلى أي مكان، ابقَ هنا.
قرفص أمامي برهة ثم وضع يده على رأسي وقال:
– عندما يحل الظلام اذهب إلى الاسطبل.
وضمني بين ذراعيه ومضى. بقيت وجهاً لوجه أمام الرعب والخوف، وظل مشهد الدبابة التي أطلت برأسها وصبت نيرانها في مكان ما يتراقص أمام عيني، بكيت، لكن البكاء لم يجلب الظلام، عدت إلى اختلاس النظر في ما حولي ورأيتهما يحملان بينهما جندياً جريحاً، كانا يجدان صعوبة في التقدم وسط القذائف والجندي الجريح يصيح ويتلوى منهما. انطلق دوي المدافع باتجاه مبهم، ارتفع إلى السماء، صمت، ثم أبنية تتداعى. ركض الطبيب وخلفه أبي، تصدعت نظراتي تحت دمدمة الدبابات وتفتتت أنفاسي عندما وقف جنديٌ على مسافة مني يحمل بندقية بين ذراعيه مشى بخطوات متوترة لكنه توقف فجأة ولبث هناك بعض الوقت، ظهر بضعة جنود ايطاليين قرب شجرة فصوب إليهم بندقيته، سقط واحدٌ واختفى الآخرون، تقدم نحوي ومر مسرعاً من دون أن يلقي نظرة عليّ، كانت الدبابات تزفر زفرات قاتلة، طوحت بذراعي على الصخرة وتشبثت بها عندما صفرت طلقات قريبة مني وفي تلك اللحظة عبرت السماء طائرة وأخذت تحلق على ارتفاع منخفض، لم يكن في مستطاعي أن أدير وجهي وخيُّل إليّ وكأني أغذ السير في فوهة مظلمة، هممت بالهرب إلا أن دوي طلقات مدفعية أخذت تلاحق بعضها البعض فاضطررت إلى التشبث بالصخرة، ومن مكان ما ظهر جندي ايطالي لوح بيديه إلى مستوى كتفيه إلا أنه خر ساقطاً على وجهه. توقفت الطائرات عن التحليق بينما المدافع لم تكف عن الدوي…
سكت ثم بسط يده أمامه وراح يتأملها بتمعن وقال:
– كنت قد ركضت عبر أمكنة لا حياة فيها إلا للصمت المطبق، حينما بلغت الاسطبل كان القمر ساطعاً، وجدت أبي ممدداً على الأرض والطبيب صامتاً، ثمة جثث ممددة على الأرض عليها بدلات غامقة ملطخة بالدماء، ومر الليل بطيئاً مصحوباً بدوي المدافع. نهض الطبيب وأخذ يراقب القمر من ركن مهدم من الاسطبل بانتباه شديد رغم ما يجري في الخارج. نظرت إليه وجلاً من فوق كتف أبي، التفت أبي إليّ وقال مخاطباً الطبيب الايطالي:
– يعتقد أن كل الايطاليين قتلة…
لم يبد أية ردة فعل وبقي لبعض الوقت رافعاً بصره نحو القمر وقال:
– mi non piace mosolini
نظرت إليه ابتسم أبي وقال:
– إنه لا يحب موسيليني.
نهض العجوز بصعوبة ودار حول حقيبته، وحدق بنظرات متعبة في السماء الجرداء ثم عاد أدراجه نحو ابنه وقال:
– عدنا إلى البيت وكانت الشائعات تهب من كل انحاء القرية والنميمة تثور خلف الأبواب، تولول وتلطم أذني. كنت أرهف السمع إلى الأكاذيب التي تنتشر مع ساعات الصباح «إنه قاتل». آنذاك كان من المؤكد بالنسبة لي، أن استفسر عن حقيقة الطبيب الايطالي من خلال بحثي بين أغراضه وحقيبته الجلدية، ولكن بالمناسبة لم أجد سوى بعض الأدوية وصورة شاحبة للقمر. وفي ليلة من الليالي كان أبي يجلس أمام النار، ويقوم بتغذيتها بالحطب وقد تدثر بعباءته، جاء عدد من رجال القرية يتقدمهم رجل ضخم له ناب بارز من بين شفتيه المضمومتين، ناب طويل لا يملكه أشرس كلب في القرية جلس وقال:
– جئنا من أجل الايطالي.
نظر إليه أبي وراح يتفحص وجه الرجل قبل أن يقول:
– لم يكن جندياً أو يحمل سلاحاً إنه طبيب مسالم، إنكم تبحثون عن شخص آخر
هب الرجل واقفاً وقال:
– بل هو بشحمه ولحمه ونحن أحق بقتله من الانكليز.
ثم جلس القرفصاء وأضاف:
– دعنا نذبحه وسنعطيك صبراً أكثر مما لديك.
تناول العجوز عقب سيجار «ربان» أشعله وسحب نفساً أو نفسين ثم دفنه في التراب وتابع قائلاً:
– بصق أبي ودفن بصاقه في التراب ونهض. في الصباح وجدنا الطبيب مذبوحاً، من الأذن إلى الأذن. ممدداً على الأرض، ركبتاه مثنيتان، وحقيبته الجلدية بين يديه، الدماء تسيل من رقبته التي مزقهتا السكين إلى الأرض. بقي أبي صامتاً محطماً مغمضاً عينيه، زحف على ركبتيه نحو جثة الطبيب ثم عاد إلى حيث كان يجلس ودفن وجهه بين ركبتيه وأخذ يبكي. وصل عدد كبير من الناس وتحلقوا حول الجثة، ثمة بكاء يسمع من داخل البيت، وفجأة وقف أبي وبعد ذلك استدار إلى الوراء، وأخذ يركض حتى غاب عن الأنظار. غُطيَ جثمان الطبيب بجرد قديم وحُمل إلى المقبرة على ظهر حمار، وثارت زوبعة من الجدل والخلافات حول مراسم الدفن وكاد عراك بالأيدي أن يندلع إلا أن صيحة مدوية أبعدتهم عن بعضهم البعض وحين استداروا رأوا أبي واقفا في مدخل المقبرة، كان ممسكاً بندقية في يده، وكان يصوبها تجاههم، ثم صاح:
– اتركوا الطبيب وابتعدوا…
وأخذ يطلق النار في الهواء وصاح ثانية:
– اذهبوا من هنا إنه الإنذار الأخير
كان دويّ الطلقات يمزق الصمت. مكث الرجال حول جثة الطبيب بلا حركة، ينظر كل منهم إلى وجه الآخر، وبدأت طلقات أخرى تحوم فوق رؤوسهم، وكان أبي يصوب نحوهم بعصبية، ثم تفرقوا بعد أن ركل أحدهم جثة الطبيب فسقط جزءٌ من الغطاء وظهر وجهه ممتقعاً، ولم يتوقف عن التحديق في السماء، ركضت وحاولت الاقتراب من أبي إلا أنه نهرني قائلاً:
– يجب أن تعود إلى البيت فوراً.
عندئذ لمحت – خلال تلك اللحظات – بريقاً في عينيه، وكان بريقاً قلقاً شبيهاً بما نراه في عيون الحيوانات الجريحة، نظر إلى الجثة بشكل موارب. كان الظلام قد حل والقمر كان مستتراً خلف طبقة من الغيوم التي لا تمطر، وضع البندقية بهدوء على الأرض ولف جسد الطبيب، وضعه على كتفه وتوارى وسط القبور. قضيت الليل كله بانتظاره لكنه لم يعد وأخيراً أدركت أن أبي وجثة الطبيب الايطالي صارا ينتميان إلى مصير واحد، صارا ينتميان إلى حياة غامضة مجهولة، حياة نائية لم يتمكن حدسي أو تفكيري من بلوغها.
_________
* كاتب ليبي
المصدر: كلمات
العدد ٢٦٧٨