الشاعر اللاأخلاقي


*يوسف أبولوز

هل كان آرثر رامبو شاعراً لا أخلاقياً لمجرد أن انقلاباته النفسية وتوتراته الحادة نقلته إلى المتاجرة بالعبيد، وقد ترك الشعر خلف ظهره؟ . . لكن قبل ذلك، هل هناك شاعر أخلاقي، وآخر، غير أخلاقي؟

في ضوء السلوك السياسي للشاعر بوجه خاص، يتحدد الأخلاقي واللاأخلاقي في الشاعر، أما إذا كان رامبو تاجر عبيد أم تاجر أزهار فهذا لا يهم . إن كتب شارل بودلير أزهار الشر ونثرها على قبر أمه أو لم يكتب، فهذا أيضاً لا يهم أمام شعراء كانوا ظلالاً للطغاة والقياصرة والأباطرة والمستبدين عبر التاريخ .
قبل أيام قرأت ترجمة لحوار أجراه أحمد عبداللطيف مع الشاعر الأرجنتيني “خوان خيلمان” الذي رحل قبل نحو الشهر، يقول خيلمان أنه كان يدافع عن “بورخيس” الأرجنتيني هو الآخر الذي اعتبره الشيوعيون صديقاً للاقطاعيين، وفي كل الأحوال، لم يكن بورخيس صاحب متاهات “الرمل ومتاهات العماء المبصر صديقاً لديكتاتور، وحتى ظلال الشك الشفيفة حول علاقة الشاعر الأمريكي عزرا باوند بإرث “موسوليني” لا تجعل منه صيداً للثقافة الفاشية، بل، اللاأخلاقي في العمق هو مرآة الطاغية . يبرر له استبداده، ويصطف مع جنوده وبيادقه على رقعة شطرنج حمراء .
في تاريخ الشعر الأوروبي والغربي، من النادر جداً أن يصطف شاعر إلى جانب ديكتاتور ويمشط له شعره بأسنان مشط من أصابع الأطفال . كان نيرون مكتفياً بقيثارته وهو يدندن عليها على إيقاع النار التي تلتهم روما . ولم يكن ستالين في حاجة إلى شعراء لأنه ذاته كتب الشعر . وهتلر يحب الحرب أكثر مما يحب الشعر، ولكن هل هؤلاء هم بالفعل طغاة بمعنى الاستبداد وهل رموا شعوبهم بالنار والحديد؟ . . وإذا كان لابد من شعراء إلى جانبهم وفي بلاطاتهم فأي نوع من الشعراء يترك دفء الغابة، ويقبل التجمد على بلاط؟
أكتب هذا ولم تغب عني صورة الشاعر العربي اللاأخلاقي بوجه خاص، وهؤلاء قلة على أية حال، ولكن، وكما هو معروف، فإن حبة تفاح واحدة فاسدة بإمكانها تعفين صندوق التفاح كله، وكما أن آلاف الشعراء عبر التاريخ وقفوا على مشارف قصائدهم فقط، ولم يغرقوا في ثقافة الطغيان وبعضهم صُلب وسُجن وجلس على صفيح ساخن وبأكثر وسائل التعذيب غرابة وطرافة ماتوا وتشوهوا . . رغم كل ذلك، يخرج شاعر، ويضع كل ذاكرة زملائه خلف ظهره ويركب خلف ظهر الديكتاتور على حصان جامح يركض فوق عظام الأطفال .
كل شاعر حر بسلوكه الشخصي . حر في مأكله ومشربه ومعتقده الفكري والأيديولوجي، ولكنه ليس حراً في تصويب حدقة الشعر نحو مسدس طاغية وتقبيل يد الطاغية ومسدسه أيضاً . الشعر مع العدل والجمال والحرية على طول الخط . باختصار شديد هذا هو المقصود بالأخلاقي واللاأخلاقي .
هناك شاعر هو أكبر من الطبيعة النرجسية البشرية، وهناك شاعر تبريري وانتهازي . هناك شاعر يأكل حتى التخمة على مائدة ليست مائدته، وهناك شاعر يفضل الجوع والموت على الرصيف . هذا يكتبه الشعر، وذاك يكتب الشعر .
لكن من منهما الأخلاقي واللاأخلاقي؟
هذا ليس متروكاً للتاريخ أو لحكم التاريخ . . بل، إذا نظرنا حولنا اليوم جيداً فإننا نجيب عن السؤال بكل بساطة . – 
_______
* الخليج

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *