كتابة وترجمة: ميادة خليل
خاص ( ثقافات )
“أريد أن أحلم بك، لكن أحلامي لا تطيعني”
“حبيبي، أشعر أني محاطة بحبك ليل نهار، حبك يحميني من كل الغضب، عندما يصبح الطقس حاراً يبردني، وعندما تهب ريح باردة، يدفئني، طالما أنت تحبني لن أكبر أبداً، لن أموت أبداً. عندما أطلب منك أن تضمني ذراعاك، أشعر بانقباض في معدتي مهما كان ما تتحدث عنه، وأشعر أن جسمي كله يؤلمني”.
كان حباً من أول نظرة، وسيمون دو بوفوار في هذه الرسائل امرأة عاشقة تماماً. وجه آخر لسيمون دو بوفوار تكشفه لنا رسائلها عبر الأطلسي إلى الكاتب الأمريكي نيلسون آلغرن بين 1947 و1964 والتي جمعتها وحررتها وترجمتها إلى الفرنسية في كتاب حمل اسم “Lettres à Nelson Algren” أستاذة الفلسفة سيلفي لي بون دو بوفوار (ابنة دو بوفوار بالتبني والتي نشرت وحررت رسائلها إلى سارتر أيضاً) وصدر عن دار نشر غاليمارد 1997. شاركت دو بوفوار بتحرير بعض الرسائل. فك شفرة خط سيمون ونيلسون كان من التحديات التي واجهتها سيلڨي، بالإضافة إلى رفض مدير أعمال نيلسون نشر رسائله في نفس الكتاب. لكن كان على سيلڨي قراءة وتحرير وترجمة رسائله على أي حال لفهم رسائل سيمون. ذكرت سيلڨي أيضاً أنها قد تخلت عن بعض الأشياء في الرسائل لأنها قد تعيق فهم القارئ لها.
تعرفت سيمون دو بوفوار الولايات المتحدة الأمريكية عن طريق عدة دعوات وُجهت لها من عدد كبير من الجامعات الأمريكية. عندما كانت في زيارة إلى نيويورك اقترحت عليها صديقة نيلسون آلغرن أن تزور الكاتب أثناء إقامتها في شيكاغو. قضيا ليلة وما بعد ظهر اليوم التالي معاً قبل أن تستقل قطارها إلى لوس أنجلس. كتبت رسالتها الاولى إليه في القطار المتوجه إلى كاليفورنيا مساء الاحد 23 فبراير 1947 وذكرت فيها: “لن أشكرك مرة أخرى، لا ضرورة لذلك، لكني شعرت بأني سعيدة معك […] سوف لن أنسى هذين اليومين في شيكاغو، أقصد أني سوف لن أنساك أنت”. طوال هذه السنوات التقيا لخمس مرات فقط، كان منها سفرة قاما بها معاً إلى إسبانيا، إسطنبول، اليونان، وكريتا في عام 1960. وبعد ذلك لم يلتقيا أبداً.
سيمون العاشقة في هذه الرسائل كانت حالمة، عفوية، رومانسية، ولكن صريحة جداً كعادتها، وتختلف عن سيمون دو بوفوار في رسائلها ــ العاطفية الجادة والعقلانية ــ إلى سارتر. كتبت سيمون عن كل تفاصيل حياتها أثناء غيابها عن نيلسون في رحلاتها الكثيرة أو في باريس. كتبت عن كل أصدقائها، آرائها في الكتب والكتّاب، حفلاتها الصاخبة في أقبية فنادق باريس مع المثقفين، الشيوعيين، الفاشيين، والوجوديين. عن الرجال الرائعين والنساء الجميلات بكل تأكيد. عن علاقتها بالمثقفين والفنانين والمشاهير وكل ماتعرفه عنهم. شغفها وحبها لنيلسون كان واضحاً جداً وعبرت عنه بكل سذاجة أحياناً “أريد أن ارسل لك شيئاً، لكن ماهو؟ الورود تذبل والقُبل والدموع لا تستطيع إرسالها. وحدها الكلمات، وكتابتي الإنكليزية سيئة جداً”. حتى أنها كانت تطلب منه في رسائلها أن لا يضحك على ما تكتبه لأن حبها له لا يمكنها أن تصفه، وأن كتابتها لكل تفصيل في مشاعرها يساعدها على تحمل غيابه عنها “أشتاق لك، لكني أجد أن من الرائع أن اشتاق لك بهذا العنف لأن هذا يعطيني شعور قوي جداً بأنك لست حلم، أنت موجود بالفعل، على قيد الحياة وسوف أراك مرة أخرى”. وطلبت من نيسلون أن يكتب لها عن كل تفاصيل حياته أيضاً، الأمر الذي كان يزعج نيلسون في البداية، كما لمحت لذلك في إحدى رسائلها. كررت في رسائلها الأولى أن لغتها الإنكليزية تخونها في التعبير عن ما تشعر به حقاً، وطلبت من نيلسون تعلم الفرنسية، وهو ما فعله نيلسون وحاول الكتابة لها أحياناً عبارات حب بالفرنسية، بدورها سيمون “العملية” كانت ترسل له كتبها بالفرنسية. كانا يتبادلان الكتب، وآراءهما عن الكتب، والشعر. سيمون بدورها كانت تنصحه بقراءة كافكا الذي تعشقه، وتحدثت عن قراءتها لموبي دايك الكتاب الذي تعده سيمون أفضل عمل في الادب الأمريكي والذي أعادت قراءته لعدة مرات. كان لسيمون دور في ترجمة كتب نيلسون إلى الفرنسية، سعت بنفسها إلى ذلك وكانت تشرف على ترجمت كتبه بنفسها. وبالتالي سيمون عرفت القارئ الفرنسي على أعمال آلغرن.
رسائل نيلسون الاولى لها كانت “صفراء” ــ على ورق أصفر ــ ومختصرة جداً، وليست بانتظام، أو كل أسبوع كما كانت سيمون تفعل، أزعج هذا سيمون ولكنها كانت ترسل له برقية إذا تأخرت رسائله عن أسبوعين. عندما تقرأ رسائل سيمون تظن أن لا يمكن لهذا الحب أن ينتهي، كل ما كانت تريده سيمون منه هو حبه ورسائله فقط، كانت تنتظر زيارتها بفارغ الصبر لأمريكا، ونيلسون كان يخطط لذلك أيضاً. يبدو أن نيلسون كان حنوناً ولطيفاً جداً معها كما وضحت ذلك سيمون في الكثير من رسائلها، كان يعتني بها أثناء زيارتها لأمريكا بإرسال الزهور لها، مفاجئتها، أو حتى بأن يقدم لها كعكة الرم والويسكي الذي تحبه.
كتبت عن كل شيء، كل شيء، عن حالات السكر والكآبة التي تمر بها دون مبرر، عن أدق مشاعرها (وهذا يلخص ذكاءها ووعيها لما يحيط حولها من أشياء حتى لو كانت تبدو تافهة). كانت تعزو كآبتها إلى ضغط العمل والشراب الذي كانت تتخلى عنه بين فترة وأخرى.
بعد لقاءها الأول بنيلسون وعودتها إلى باريس، كانت تشعر سيمون كما لو أنها مريضة ولا تريد العمل، وشعرت كثيراً بالكآبة، ولا تريد حتى لقاء أصدقاءها “في الأيام الماضية التقيت ببعض الاصدقاء، لكني وجدتهم فاترين وباردين جداً. أخشى أنك قد دللتني بدفء وكرم حبك” الأمر الذي جعلها تظن أن هذا الحب قد تمكن منها تماماً، ولكنها سعيدة بذلك. ما الذي جذب سيمون إلى نيلسون؟ تقول سيمون: “كل شيء فيك حقيقي، كلماتك وأفعالك، حبك وكرهك، حزنك وفرحك، حياتك كلها حقيقية. وعندما أكون إلى جانبك أشعر بأني حقيقية أيضاً، كل شيء صحيح لأن كل شيء كان حقيقي”. وأيضاً “أشعر بأني امرأة فعلياً وتماماً وأنا بين ذراعي رجل، وهذا يعني الكثير الكثير بالنسبة لي”. تحدثت عن ما يحدث معها دون خوف وطلبت من نيلسون أن لا يكذب عليها خوفاً من أن يجرح مشاعرها: “لا أعرف ماذا أريد ــ في الحقيقة أعرف تماماً ماذا أريد لأني لست ملاكاً لكن مجرد امرأة. على أي حال، ليس لدي خيار وسوف أتقبل كل شيء طالما لا يضر بحبنا، حتى لو عانيت من ذلك. حبيبي، لا أقول هذا من الخوف، لكن لأني أجد متعة في مشاركتك أفكاري بثقة كاملة”. تحدثت سيمون عن آرثر كوستلر وأنها قد ذهبت معه إلى الفراش لمرة واحدة فقط (كان كوستلر وقتها متزوجاً) وأخبرته بأنها لن تكرر ذلك مرة أخرى، لأن الأمر كان غريباً بالنسبة لها، وكوستلر كان غضوباً فيما يخص السياسة وكان يجد أن سيمون ليست “ضد الشيوعية” بشكل كافٍ، ولأن “الجنس والخلافات السياسية لا يجتمعان” كما كتبت سيمون. أما نيلسون من جانبه فكان يحدثها عن علاقته بـ”الشقراء المزيفة” واليهودية وابنتها بصراحة، الأمر الذي كانت سيمون تتقبله بل وتشكره على صراحته معها. لكني كامرأة قرأت لمحات الغيرة والحزن والخوف في رسائل تالية لرسالته تلك. “أرجوك. أرجوك لا تأخذ الشقراء المزيفة إلى عشنا. عندها ستشرب من الويسكي خاصتي، ستأكل من كعكة الرم خاصتي، ستنام في فراشي، وربما مع زوجي. ووبانسيا أفضل مكان في العالم ولن ترغب في مغادرته. وعندها يتوجب عليّ البقاء بعيداً وربما تناول المورفين، سوف يكون هذا محزناً، أليس كذلك؟ قاتل واحرص على أن يبقى منزلي أنا. ولهذا أنا أنانية وغبية بشكل رهيب. أنا أمزح بالطبع، عزيزي أفعل ما لا يمكن لك أن تتخلى عنه، لن أُقيّد حريتك”.
كان نيلسون يستعد لطلب يد سيمون للزواج وأن تقيم معه في وابنسيا عند زيارتها الثانية لشيكاغو، لكنه تردد بعد رسالتها بتاريخ 23 يوليو (المترجمة أدناه)، لأنه رأى أن الزواج هو انفصال مستحيل عن البيئة الأساسية، لشخصين مثلهما متجذران في بيئتهما، هي في باريس وهو في شيكاغو، لا يمكن اقتلاعهما إلا بنوع من الانتحار الروحي (كما ذكرت سيلڨي في حاشية تلك الرسالة) وعلى أي حال كان يشعر أنه متزوج من سيمون أكثر من زوجته القانونية. وكان لديه خوف من المستقبل، من أن سيمون ربما تكرهه في يوما ما، وهذا شيء لا يمكن له أن يتحمله. وعلى أي حال سيمون ترى أن الزواج “مؤسسة فاسدة وعندما تحب المرأة رجلاً يجب أن لا تفسد هذا الحب بالزواج منه”.
كشفت نفسها تماماً لنيلسون وبالتالي لنا في رسائلها، لأنها سيمون دو بوفوار التي لا تخاف من أي شيء. كانت تعبر عن مشاعرها بصدق، بطريقة قد لا تقرأها إلا من سيمون دو بوفوار، وخاصة في هذه الرسائل: “هل تعرف، لم أجد الحياة سهلة أبداً، رغم أني سعيدة دائماً، ربما لأني أريد أن أكون سعيدة جداً. أحب الحياة وأبغض فكرة أني يجب أن أموت في يومٍ ما. أنا لست صبورة أيضاً، أريد كل شيء من الحياة، أريد أن أكون امرأة ورجل، أن يكون لدي الكثير من الأصدقاء ووحيدة، أن أعمل بجد وأكتب كتباً جيدة وأسافر، أن أسلي نفسي، الأنانية كرم أيضاً… أنت تفهم أن ليس من السهل الحصول على كل شيء تريده. وعندما أفشل في ذلك، أصبح مجنونة من الغضب”.
في 1964 صدرت الترجمة الإنكليزية لكتاب دو بوفوار ” La Force des choses”، تحدثت في عدد من الصفحات عن علاقتها بآلغرن: ” أتمنى أن الأجزاء التي تتحدث عنك في الكتاب لا تثير استياءك لأني وضعت فيها كل قلبي”. تصرف آلغرن كما لو أنه قد طعن في كرامته وأعلن عن ذلك في عدة حوارات بكراهية وحِدة، ثم صمت حتى موته في 1981، مات وحيداً، ولم يتحمل أي أحد مشقة دفنه. وكتبت الصحف في عنواينها الرئيسية: “جثمان ألغرن لم يطالب به أحد”. بالرغم من رفضه الغاضب تفاجئت دو بوفوار من أنه لم يتخلص من رسائلها. الرسائل طالبت بها سيمون دو بوفوار بنفسها بعد موته. (الرسائل تم شراؤها من قبل جامعة كولومبوس، أوهايو، ورسائل آلغرن احتفظت بها سيمون دو بوفوار).
رسائلها الأولى كانت تؤكد أن لا نهاية لهذا الحب أبداً. كنت أبحث طوال قراءتي للرسائل عن الاسباب التي جعلت مثل هذه العلاقة لا تستمر، أو تتعرض لكل هذه التعقيدات التي تعرضت لها. شغف وحب سيمون لم يفتر، ربما قل عدد رسائلها له في السنوات الأخيرة، لكنها ظلت تراسله وتكتب له عن كل شيء، وعن اشتياقها له وعن ذكرياتهما معاً، كانت تتابع أخباره ومقالاته وتتحدث له عن رأيها بما تسمع وتقرأ، عن كتابتها لكتاب رحلتها إلى أمريكا والصين، الكتب ورواياته التي كان يرسل مسوداتها لها لتقرأها وتعطيه رأيها ــ وكانت صادقة معه حول كتاباته ولا تجامله ــ عن أصدقاءها وصديقاتها (وخاصة صديقتها الروسية)، المقاهي التي تزورها، بيتها في الريف الذي تذهب إليه للكتابة، أسفارها إلى بلاد كثيرة وثقافات مختلفة، وبالطبع عن سارتر الذي قالت بأنها لن تتخلى عنه أبداً “حتى لو كان من أجل حبهما”. كانت تخاطبه بحبيبي، عزيزي، تمساحي، القروي وزوجي، وتوقع الرسائل بـسيمونتك (التسمية نفسها في ختام رسائلها لسارتر) أو ضفدعتك. من باريس إلى شيكاغو رحلة حب كانت تتحمل مشاقها ومخاطرها سيمون دو بوفوار بشجاعتها المعهودة من أجل رؤية حبيبها نيلسون، وكانت تتقبل كل شيء منه بحب “عندما قرأت رسالتك ظننت فوراً أنك ستخبرني بأنك أمضيت الليلة مع هذه السيدة، ردة فعلي الاولى شعور من السعادة لأنك صريح وعادل معي جداً، والثانية كانت انتظار طعنة في قلبي، لكن مع إيمان بأني سوف أخرج من هذه الحالة من جديد”. الاسباب لنهاية علاقتهما عديدة، بدأت تتضح منذ 1950. في عام 1957 كتب لها رسالة واحدة فقط، ووضع النهاية الحتمية لطريق طويل أمضياه معاً نيلسون بنفسه في عام 1964 (وتحديداً بعد صدور كتابها La Force des choses). بالإضافة إلى اختلاف ثقافتهما، صراع نيلسون مع زواجه، طلاقه، تنقله، عمله وصراعه مع نفسه، كما وضحت سيلڨي دو بوفوار في مقدمتها للكتاب.
سلطت هذه الرسائل الضوء بشكل كبير على البيئة الثقافية والفنية والسياسية في أوروبا وأمريكا ودول كثيرة أخرى زارتها سيمون في تلك الفترة وصراعاتها، الاختلاف الثقافي بين أمريكا وأوروبا وخاصة فرنسا، ودور المثقف الفرنسي في التغيير الاجتماعي، الثقافي والسياسي بعد الحرب العالمية الثانية. وأهم من ذلك أن هذه الرسائل سلطت الضوء على جانب آخر من شخصية سيمون دو بوفوار، جانب بريء وأنثوي وإنساني جداً في شخصيتها، إلى جانب موهبتها، خفة ظلها، ذكاءها وسعة إطلاعها. وأيضاً كانت تبدو أحياناً كما لو أنها تثرثر مع نفسها، حالمة، وأحياناً كثيرة ساذجة. نيلسون من جانبه كان يحبها مع تحفظ أزعج سيمون في البداية، لكنه تحرر من قلقه وخوفه فيما بعد. لطفه، حنانه وكرمه معها أشياء قدرتها سيمون له كثيراً، كان يحاول أن يجعلها سعيدة جداً وهي معه، كما ذكرت ذلك في معظم رسائلها.
“أنا لا أمزح، أفكر طويلاً وبجدية في حبنا، بما قدمته لي وبما لم أمنحه لك. لكن حسناً، عزيزي، في حال تمسكت بفكرة أني امرأتين، اقتنع تماماً أن كلاهما يحبانك والألطف من بينهما ربما تكون هي الأغبى”.
سيمون الفيلسوفة، الوجودية، واسعة المعرفة، المدافعة عن حقوق المرأة “الموهوبة، الذكية، الجميلة، العابسة” كما صرحت بذلك إحدى الصحف الفرنسية المناهضة للشيوعية. تبدو في رسائلها لآلغرن امرأة محبة ولطيفة ومتفهمة إلى حد كبير. رسائل حب حقيقية وكنز معرفي، أدبي وثقافي يؤرخ لفترة مهمة من تاريخ أوروبا وأمريكا، بحس أنثوي جميل. هي سيمون دو بوفوار المرأة المفاجئة، المختلفة دون إدعاء، الشجاعة التي تظن أنها يمكن لها أن تواجه أي شيء دون خوف. حتى نهاية حبها الكبير لنيلسون آلغرن.
الاربعاء 23 يوليو 1947
حبيبي، لم تصلني رسالة منك عدا رسالتين من الاسبوع الماضي، لهذا أعدت قراءتهما. لا أمانع في أن تقامر. إذا أنجزت عملك في النهار، فلِمَ لا؟ المهم أن تعمل بشكل جيد، لكن عندما تنتهي من عملك وتريد الاسترخاء، عليك أن تفعل ما يحلو لك.
بالنسبة لي أحب الشراب، لكن الشراب ليس أفضل من القمار، وليس أسوأ. حالياً أميل أكثر إلى الشراب لأني أفتقدك أكثر مما كنت أتصور. نيلسون، حبيبي، أنت ألطف رجل في كل العالم، من اللطيف أن ترغب في تنظيم كل شيء عندما أزورك مرة أخرى، لكن يبقى هذا مجرد رغبة. إذا كنت على قيد الحياة وتحبني فلا أحتاج إلى أي شيء آخر. لا يجب عليك أن تفعل شيئاً مميزاً. إذا استطعت أن تشتري سيارة بعشرة دولارات، سيكون هذا رائعاً، لكن مع الباص والطيارة، فقط مع الباص وبلا طيارة. مع شريحة لحم وقطعة خبز في المطبخ، وحتى مع قطعة خبز فقط وبلا شريحة لحم سوف نكون سعداء جداً؟ أنت تعرفني، أنا لست متطلبة، يمكنني أن أعيش على خبز وبطاطا وحب وماء، لا تهتم.
من المؤكد أني خائفة بعض الشيء، هذا صحيح. بعد ظهر اليوم رأيت فيلم سارتر(1) الذي انتهى الآن، لا بأس به لكن كان من الممكن أن يكون أفضل. لكن ليست هذه هي المشكلة. المشكلة أني تأثرت بقصة الفيلم. القصة عن رجل وامرأة يلتقيان بعد موتهما ويعشقان بعضهما. لأنهما يحبان بعضهما، يمكنهما العودة إلى الأرض: إذا نجحا في خلق شعور إنساني حقيقي من هذا الحب، يمكنهما عيش حياة بشرية كاملة، وإذا لم ينجحا، يظلان ميتان. لم ينجحا. قصة مؤثرة وكان عليّ أن أفكر بك وبي. نحن نحب بعضنا من خلال الذكريات والأمل، المسافات والرسائل. هل سوف ننجح في أن نجعل من هذا الحب حباً سعيداً وحياً؟ يجب أن ننجح. أنا مقتنعة بأننا سوف ننجح، لكن لن يكون هذا سهلاً. نيلسون، أنا أحبك، لكن هل أستحق حبك إذا لم أمنحك كل حياتي؟ حاولت أن أوضح لك لماذا لا أستطيع أن أفعل ذلك. هل فهمت؟ هل أنت غاضب؟ سوف لن تغضب أبداً؟ هل ستظل متأكداً من أني أحبك جداً؟ ربما عليّ أن لا أطرح هذه الأسئلة، تؤلمني وأنا أسألها بهذه الصراحة. لكن حتى لا أتمكن من الهروب منها، اسأل نفسي هذه الاسئلة. لا أريد أن أكذب عليك أو أخفي عنك شيء مهما حدث. أظن أني قلقة منذ شهرين لأن واحداً من هذه الاسئلة قد عذّب قلبي: هل من الأفضل أن تقدم جزاً من نفسك دون أن تكون مستعداً لتقديم نفسك كلها؟ هل ممكن أن أحبه وأقول له أني أحبك بينما لا أنوي منحه كل حياتي كما طلب مني؟ هل سيكرهني في يوماً ما؟ نيلسون، حبيبي، سيكون من الأفضل عدم إثارة هذه المشكلة، يمكن أن يكون هذا سهلاً لأنك لم تفعل هذا أبداً، لكنك قلت إننا لن نستطيع أن نكذب على بعضنا أو أن نخفي أشياء عن بعضنا. سوف لن أحتمل لو حدثت بيننا حالة من المرارة، خيبة الامل، والاستياء. لقد فعلت هذا، لقد كتبت هذا. لا يتوجب عليك الإجابة إذا لم ترغب في ذلك، لنتحدث عن الموعد الذي نرى فيه بعضنا من جديد. هل لا زلت تتذكر تلك المرة التي قلت لك فيها أني أحترمك جداً؟ لهذا كتبت هذه الصفحة الأخيرة. لا أعني أنك تطالب بحياتي، أعني هذا فقط: كلانا لا يعرف ماذا سيحدث عندما نلتقي من جديد، الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أني مهما حدث لن أمنحك حياتي كلها، ولهذا أشعر بعدم الارتياح. أوه حبيبي، إنه الجحيم أن نكون بعيدين جداً عن بعضنا ولا نستطيع أن نرى بعضنا عندما نتحدث عن مثل هذه الأشياء المهمة. هل تشعر أني أحاول قول الحقيقة بدافع الحب، أن هناك الكثير من الأمور التي تدل على الحب أكثر من العبارة البسيطة “أنا أحبك”؟ هل تشعر أني أريد كسب حبك بقدر ما أرغب به؟ اقرأ هذا من فضلك مع حبٍّ في قلبك ورأسي على كتفك. علاوة على ذلك، ربما تجد رسالتي سخيفة جداً، لأن ما قلته أنت تعرفه كله من قبل. كان يجب أن أكتب هذا المساء، يجب أن يكون حبنا حقيقة، يجب أن ننجح في لقائنا الجديد. علقت آمالي عليك بقدر ما علقتها أنا على نفسي. بغض النظر عن ما تفكر به، قبّلني بكل قوتك.
* سيمونتك
ــــــــ
(1) فيلم Les Jeux sont faits