هشام البستاني*
تشارلز بوكاوسكي شاعر أمريكي بامتياز: جدّه ليونارد كان قد هاجر إلي الولايات المتحدة من ألمانيا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، وفيها التقي بزوجته إملي كراوس المُهاجرة من دانزج (حالياً في بولندا)؛ أما والد الشاعر (واسمه هنري هاينريك) فولد في باسادينا – كاليفورنيا، وكان جندياً في الجيش الأمريكي، وخدم في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولي حيث اتخذ لنفسه فيها خليلة من بنات البلد صارت زوجته لاحقاً هي كاتارينا، أم الشاعر. خلال تلك الإقامة العارضة في ألمانيا، ولد الشاعر باسم رسمي هو هاينريك كارل بوكوفسكي (باللفظ الألماني). أما بعد أن عادت العائلة إلي الولايات المتحدة عام 1923، وكان عمر الشاعر ثلاث سنوات، فقد حوّلت لفظ اسمها إلي الصيغة الأنجلوفونيّة (بوكاوسكي)، وحوّلت لفظ اسم ابنها إلي ذات الصيغة، فصار هنري كاسم والده؛ أما الشاعر نفسه فغيّر اسمه لاحقاً ليتبني الصيغة الأنجلوفونيّة من اسمه الأوسط (كارل) وهو تشارلز، وهو الاسم الذي يعرف به الآن: تشارلز بوكاوسكي.
ليس المهم في إثبات أمريكية الشاعر الاستناد إلي تاريخ عائلته فقط، بل هو أمريكي بالمعني الأعمق، الثقافيّ: فمرجعيّات بوكاوسكي الثقافيّة واللغويّة مستلّة من صميم وعمق أزمة المجتمع الأمريكيّ المعاصر وظواهرها المختلفة، وهو الذي قضي عمره بوهيميّاً متنقّلاً بين الخمروحلبة الرهان علي سباق الخيل، يقضي وقته في تأمل طويل للفقر والمجتمعات الهامشية والأحياء المتعبة في لوس آنجيليس حيث أقام لخمسين عاماً من عمره الذي بلغ 73 عاماً. بوكاوسكي هو ابن الحقبة الأمريكية المعاصرة، حالة غوص معمّقة فيها، استطاع الولوج إلي عوالمها الخاصة بعاميّتها وكلماتها البذيئة وصورها الصادمة ليفجّر تأملات خارقة الحساسيّة.
ورغم هذا (وهنا تتجلّي عبقريّته) لم يكن بوكاوسكي شاعراً “محلياً” بالمعني الذي تنغلق قصائده علي غير الذين يعرفون مدينته/ثقافته حق المعرفة،فهو خبير في تصعيد القضايا الصغيرة والهامشية (مثل قط مدهوس علي باب بيته استمر في الحياة، أو متشرد تعوّد رؤيته يومياً علي المنعطف ثم اختفي) إلي كشوفات عميقة تتجاوز الانساني إلي ما بعده (الإنسان، الطبيعة، الكون).
وثمة ميزة عند بوكاوسكي هي وجود “خط سردي” شبه دائم في قصائده، مما يجعلني أقول بأن قصائده هي قصص قصيرة جداً بالغة الروعة. وإن كان بوكاوسكي بذيئاً، إلا أن اللغة البذيئة الموظفة في كتابته تحمل أرفع صيغ “الأدب”، بمعني تعدد الدلالات وتفجير المعني، وهو ما ينطبق تماماً علي مكانه المفضل: حلبة سباق الخيل ومكتب المراهنات المُلحق به، وعلي نسائه المفضلات غريبات الأطوار.
لا يشفع لبوكاوسكي كل ما ذكر أعلاه، بل ولا يشفع له الأسلوب الذي ينطق هو نفسه بها اسمه في تسجيلات مختلفة متاحة علي الانترنت، فيتحفنا مترجموه العرب (كلّهم تقريباً، باستثناء تحسين الخطيب، وأشرف الزغل، وهرمس) بترجمة اسمه مُعدّلاً بحسب مزاجهم: تشارلز بوكوفسكي، مستندين (علي الأغلب) علي أصله الألماني البعيد الذي لا أهمية تذكر له في سيرة الشاعر.
ثمة من جادل بأن المترجمين هؤلاء إنما قاموا بتعريب لفظ “بوكاوسكي” فجعلوه “بوكوفسكي”. لا يوجد مصدر لمثل هذه المقولة علي لسان أي مترجم، والواضح أن المترجمين فعلوا ذلك عودة بالاسم إلي لفظه الألماني ((boo-kof- kee
لا الأنجلوفوني boo-kow-ski) ) المُتعارف عليه. كما أن لفظة “بوكوفسكي” ليست تعريباً لـ”بوكاوسكي” بأي حال من الأحوال، فالتّعريب يتضمّن إعادة صياغة للاسم في سياق اللغة الجديدة وقواعدها وألفاظها، علي شاكلة تعريب “هيركوليز” إلي هرقل، أو “فرانكس/ فرانكيا” إلي فرنجة، أو “تيليفيجن” إلي تلفاز. الفرق بين الأمرين هنا بيّن وواضح، فـ”بوكوفسكي” و”بوكاوسكي” تتساويان في العُجمة مع فارق أن الأولي خطأ في اللفظ والثانية سليمة. لا يوجد في “بوكاوسكي” أي صوت غريب يحتاج إلي تهذيب، بل إن “بوكوفسكي” أصعب علي اللفظ وأثقل علي اللسان، فبأي منطق إذاً تكون “بوكوفسكي” تعريباً لـ”بوكاوسكي”؟
وقال قائل أن ثمة ثقلا في التقاء حرفي المد (الألف والواو) علي “اللسان العربي” في اسم (بوكـ) او(سكي)، وهي مقولة خاطئة لأن اللقاء هنا هو لقاء بين ألف ممدودة وواو ليّنة ساكنة، فينتفي عنها المدّ الظاهر (كما في كلمة “يعبد و(ن” مثلاً) وتُلفظ كما في (خَـ)و(ف وجَـ)وْ(ف)، وهي تشبه عدّة كلمات عاميّة تُخفّف فيها كسرة الواو إلي سكون، لنجد أن هذا اللقاء سهلٌ ودارج: (حـ) اوْ (ية/ طـ)اوْ (لة/ بوكـ)اوْ(سكي). يتحقّق الثقل فعلاً بالتقاء ساكِنَين أو ثلاثة، مثل (بوكا)وْسْ(كي) الذي (وحاله هكذا) لا يتميّز عن(قَـ)وْسْ (أو بوكو) فْسْ (كي) بأي شيء سوي أن الأخير خطأ فاضح في الترجمة واللفظ.
يقول الكاتب البريطاني هوارد ساونز في مقدّمة السيرة التي كتبها عن بوكاوسكي (وهي بعنوان: “مُكبّلٌ بذراعيّ حياةٍ مجنونة”، وتعتبر -بحسب كثيرين- السيرة الأشمل والأدقّ): “مِثل بوكاوسكي، قمتُ باستخدام جمل قصيرة بسيطة، وفصول موجزة. وكرواياته، هذه السيرة هي كتاب نحيل. وفوق هذا، فقد تبنّيتُ صوتاً أميركياً، مُستخدماً التهجئة الأمريكية والعبارات والمصطلحات التي وظفها بوكاوسكي نفسه. أنا إنجليزي، بل لندنيّ، ولا أتحدّث أو أكتب بالطريقة التي أفعل بها في هذا الكتاب، لكني لم أُرد أن تتنافر إنجليزيّتي مع أسلوب بوكاوسكي الأميركي الخاص في الحديث والكتابة.”
إن كان هذا حال كاتب السيرة، فماذا عسانا نقول عمّن يريد تحمّل أعباء الترجمة؟
يطرح هذا الخلل الفاضح في ترجمة اسم بوكاوسكي مسألتين أساسيتين: أولهما أن المترجمين عليهم أن يُجهدوا أنفسهم في البحث والدراسة فيما يتعلّق بالكتّاب الذين يُترجمون لهم، والسياقات الثقافية التي ولد فيها النص، والحمولات اللغوية والإحالات التي تشير إليها التعبيرات اللغوية المختلفة داخل بيئاتها المولِّدة؛ والثانية أن الترجمة تُعني بنقل الثقافة والسياق الثقافي، وهي ليست نقلاً ميكانيكياً للكلمات، لهذا فعلي المترجم أن يكون لا ثنائي اللغة فحسب، بل ثنائي الثقافة، ضليعٌ في الثقافتين المُترجم منها والمُترجم إليها، وإلا فكيف سيُنقل النص الأدبي المثقل عادة بالحمولات الثقافية والاستعارات والكنايات والعاميّات من سياق إلي سياق؟
جلُّ المترجمين عن العربية إلي لغات “العالم الأول” هم من المُستعربين، يدرسون اللغة والثقافة ويُمضون أشهراً وسنوات في بلادنا، وكذلك هو حال من يُترجم منهم اللغات الأخري إلي لُغاتهم، يحاولون تشرّب الثقافة المُترجم منها حتي تكتمل إمكانيات النقل المُتمكّن. أما أن يُترجِم عندنا شخص واحد لشعراء فيتناميين وأفارقة وصينيين وروس وأتراك وسويديين ولاتينيين نقلاً عن ترجماتهم الإنجليزية، فهذه لا تصنّف إلا في خانة الجرائم الأدبية الشنيعة والكسل المعرفي الفظيع؛ ويشبهه من يريد أن يُترجم لكتّاب عالميين كبار وهو لم يغادر شاشته الفيسبوكيّة أبداً.
كما يؤشر هذا الخطأ إلي هوس بعض المترجمين العرب (وهوس “الثقافة” التي يمثّلونها) بالأصل والفصل والمنبت: الشاعر مولود في ألمانيا إذاً أصله ألماني، ويصير لزاماً ترجمة اسم عائلة الشاعر باللفظ الألماني! ليس في التعريف عن الشاعر ضمن أهم أنطولوجيا تجمع مختارات أساسية من أعماله، حررها ناشره ومحرّره جون مارتن تحن عنوان “ملذّات الملعونين”Pleasures of the Damned، ما يشير إلي أهمية أصله أو تأثير هذا الأصل علي مسيرته الشعريّة، فيشار إليه بصفته “أحد أشهر الكتاب الأميركيين”، ويرد علي غلاف الأنطولوجيا الخلفي أنه “الشاعر الإيقونة لأميركا”، واقتباس عن مجلة التايم يفيد بأنه “فارس حثالة (المجتمع الأميركي”)، واقتباس آخر عن جان جينيه يقول فيه إن بوكاوسكي هو “أفضل شاعر في أميركا”. كما أعتقد أن قراءة لسيرته الذاتية (المذكورة سابقاً) ستساعد كثيراً من لا يعرف من الشاعر سوي اسمه المشوّه.
كيف إذاً نشأ هذا الخطأ واستفحل؟ أغلب الظن أن المترجم العربي الأول لبوكاوسكي هو المسؤول، ثم تبعه من تلاه في خطأه دون تدقيق، وعليه يكون خطأ التابعين مزدوجاً مضاعفاً.
تحضرني – بهذه المناسبة- ترجمات رديئة أخري صارت ثابتة ومستقرّة، مثل ترجمة عنوان رواية ميلان كونديرا الأشهر “خفة الكائن التي لا تحتمل” والصحيح: خفّة الكينونة التي لا تحتمل. وربما يكون مصدر الخطأ هو ترجمة الرواية عن الإنجليزية وليس عن لغتها التشيكية الأصلية Nesnesitelnalehkostbyti – حيث تعني byti الكينونة، بينما تحتمل الكلمة الإنجليزية Being المعنيين، لكن السياق وتركيب الجملة (حتي في الإنجليزية) يحدد أن المعني المقصود هو الكينونة وليس الكائن. كذلك ترجم عبد الرحمن بدوي عنوان كتاب جان بول سارتر الشهيرL être et le neant إلي “الوجود والعدم” والأدق هو الكينونة والعدم، والفارق بين الكينونة (بالفرنسية: neant) والوجود (بالفرنسية: existence) كبير، خصوصاً وأن الكتاب بحث فلسفي، وهو ما انتبه إليه نقولا متيني في ترجمة أحدث للكتاب نفسه.
هذا الكسل عن البحث، والإيغال في الاتباع وتركيب الخطأ فوق الخطأ، يولد من الاستسهال الذي يكتسح حياتنا الثقافية/الأدبية المعاصرة، ويجعل من الكتّاب المُترجَمين (مثل بوكاوسكي) ظواهر إثارة متعلّقة بالولع الاستهلاكي والموضة والشهرة، لا ظواهر مرتبطة بالفن والاشتغال المعرفي والجمالي؛ والحال أن عصرنا هذا موبوء بهذه “القيمة” الرديئة التي تجعل من الاستهلاك والرواج معياراً، والتوافق العام حقيقة وقاعدة، والجمهور حَكَماً علي أشياء قد لا يفقه فيها شيئاً أصلاً، و”اللايكات” حُكْماً ممن لا يملك إمكانيات الحُكم علي من لا يملك إعطاء الرأي.
الأصل أن الكِتاب/ الكتابة وسيلة للتثقيف لا التجهيل، ورفع السوية لا خفضها؛ والكاتب لا يكتب من أجل القارئ، وكذلك المترجم اللاحق عليه: فالعالِم يكتب ما تقدّمه التجربة من نتائج، والمؤرخ يعرض ما بين يديه من وثائق، والأديب يقدّم اشتغالاته الفنيّة التخييلية، والمترجم يحوّل ما ذكر سابقاً من لغة/ ثقافة إلي أخري دون الإخلال بالسياق الأول أو الإلغاز علي السياق الثاني؛ دون أن يخون.
يُفترض في الترجمة أن تكون مصدراً أساسياً من مصادر تجديد اللغة وتطويرها وإكسابها مرونة وحيوية ومعاصرة، لهذا فأنا أسدي هذه النصيحة بكثير من الألم: باستثناء ترجمات قليلة لمترجمين متمكنين معروفين، اقرؤوا الأدب غير العربي بلغته الأم، أو بترجماته الإنجليزية؛ أما أكثر الترجمات العربية فلسان حالها يقول: بوكوفسكي.” eas ures of the damnedأن أهم أنطولوجيا تجمع مختارات من أعماله، حررها ناشره ومحرّره جون مارتن تحن عنوان ”ملذّات الملعونين الألكا.
* أخبار الأدب