*ناصر الريماوي
خاص ( ثقافات )
في أحد شوارع ” الزرقاء الجديدة ” ومن باب المصادفة، كانت اللافتة العريضة لمتجر الأجهزة الكهربائية الضخم، تقفز بقوة وراء خطوط الذاكرة الخلفية، القديمة، لتستفزّ أكثر المشاهد المختزنة، غموضا وألماً، في أعماقي وتبعث بها من جديد.
“أم ونوس”، وعلاقتها بفيض البدر المكتمل فوق عليّة البيت المجاور لنا، وجودها الفعلي ذات يوم، بمعزل عن أيّ شيء آخر، حيث استقر بها المطاف، وبكل شجاعة هناك. تلك العليّة المهجورة لبيت ظلّ خاليا ولزمن طويل، وهو يطلّ كئيبا، ليزيد من وحشة الزقاق، في حين لم يقطنه أحد إلا وفرّ منه سريعا، ربما للحيلولة دون سقوط وشيك عن علّيته المرتفعة قليلا، أو للحفاظ بما تبقى لديه من عقل، “أم ونوس” لم تجاورنا طويلا، أو تعمّر بيننا، تماما كغيرها، لتفرّ منه إلى الأبد، لكن الفرق بينها وبين من سبقها إليه، أنها فرّت حفاظا على عقول الآخرين..!
تثب “أم ونوس” فوق ركام الوعي المضطّرب، ليكون يومها الأول مع الصيّف، غبار خماسيني يجوس الحارات، بينما يشفّ ثوبها الأسود القاتم، المختلف عن ثياب الجارات الأخريات، ثم يطفو ليستقر بوضوح أكثر، وهي تنتقي خطواتها الحذرة في استعلاء، كي لا تزلّ في الحفر الصغيرة، الطافحة بالماء، أو تدوس مخلفات الحمام والطيور. عيناها تتمردان بالمراقبة فوق سور لثمتها الحصينة، دون تواضع. بناتها الثلاث، مستنسخات، صوراً طبق الأصل عنها، وولدها الوحيد، كان هو الأكبر، لكنه الأضعف، هكذا ترسّخ في أذهاننا.
– ليستا مغرفة للكلام، والله عيب. هذا ما همست به “أم راجح” للنسوة في الزقاق، وهي تشير إلى عينيّ “الغريبة”، ذات الرداء الأسود. ردّت إحداهن باشمئزاز: غريبة ومتعجرفة، تمشي وكأنها السفيرة عزيزة!
أرادت أخرى أن تختصر الحديث فقفزت نحو الخلاصة: الأهم، كم يوما ستحتمل البقاء في بيت “الشيخ”؟
انبرت “أم راجح” بوجهها المتورّد، المحتقن بطفرة دموية نادرة، المنتفخ كبالون، وقالت بحماستها الواثقة، المعتادة: يومان على الأغلب.
في الليلة الأولى، بدت كل “الطاقات” الصغيرة المطلّة، والمتقابلة على امتداد الزقاق، مشغولة، بأنفاس الجارات وصمتهن في ترقب حذِر. في الليلة الثانية، المرتقبة، صعد قمر فضي ببطء نحو سماء صافية وراح يسكب نوره الشاحب في أرجاء المدينة وعلى مقربة من الحارات، حتى استقرّ فوق عليّة البيت وقاطنيه الجدد. قبيل الفجر، هدّ الضجر والنعاس إلى جانب الخيبة، عزيمة الجارات، ووشت بهن الملامح لأزواجهن، مما أثار حفيظة البعض، ثم لمْ يَعُدن لسهر “الطاقات” بعد ذلك.
افتقدن في جلساتهن الصباحية على المصاطب الإسمنتية، لأم راجح، لمحن ذات يوم زوجها وهو يقفل الباب الخارجي بالمفتاح، ثم يمضي إلى عمله، أرسلن الصبية للطرق على بابها ولا من مجيب، كان أمراً محيراً لهن، كانت خلالها “الغريبة” تمضي من بينهن مسرعة تقود خلفها بناتها الثلاث، دون أن تأبه لوجودهن، وحتى دون تحيّة متبادلة، ثم يعُدن أدراجهن كقافلة بذات السرعة، ليغبن في فضاء البيت الكئيب، بيت “الشيخ”.
ابن المرأة الغريبة “ونوس” في السادسة عشرة من عمره تقريبا، يعبر الزقاق وحيدا، يتعثر في كل شيء، تارة يحمل أسلاكا كهربائية، ولمبات إنارة، وتارة أخرى يتأبط لوح خشب “تروبلاي” رقيق، صندوق أدوات يلازمه في الحالتين، ينظر تحت قدميه ومع هذا فهو يتعثر على الدوام، وكأن أحدا يتبعه.
“أم راجح” تقيم في البيت المقابل تماما لبيت “الشيخ”، حيث تربض فوقه “عليّه ” مماثلة لعلية بيت الغريبة.
ذات صباح باكر، وبعد أسبوع على اختفائها، رأتها كل الجارات وهي تغادر البيت، وتهبط الزقاق مرتبكة، ، تتأبط حقيبة سفر متوسطة الحجم، وتحتضن طفلتها الرضيعة بين ذراعيها، بينما تعلّق طفلها الصغير بأذيال ثوبها، وراح يجاريها في مشيتها المتعثرة، لحقت بها الجارات شبه مشدوهات، بدا لهن وجهها شاحبا، نحيلا، على غير العادة، نظرت إليهن زائعة، وقالت: فقط احذرن الغريبة، إحذرنها وبناتها، وولدها أيضا، انتبهن جيدا لأطفالكن، أطفالكن… أنا عني لن أبقى يوما واحداً، سأعود إلى أهلي في عمّان…، اختلطت اصوات الجارات من حولها يطالبنها بالإيضاح أكثر، وكان يبدو أنها لا تصغي لأي منهن، واكتفت بالرد: أنا لا أفهم ما رأيت، ولكنني أعرف لما ظلّت تلك الغريبة، ولم تفرّ منه، على الرغم من كونه بيتاً مسكونا بالجنّ، لأنها ليست بشراً، نعم هي ومن معها ليسوا بشراً مثلنا. ثم أظلم وجهها ومضت مخلفة وراءها صدمة عميقة حطّت على وجوه النسوة، عند آخر الزقاق.
” أبو راجح” شاب وقور، أفضى برواية واحدة، مقتضبة للجميع، في حانوت الحلّاقة، عصر اليوم التالي، بحضور البقّال والسمكري، وغيرهم، بدأ الأمر مع زوجته لدى اكتمال القمر، تلك الليلة، ولثلاثة أيام متتالية، وبأن الظلال التي سقطت حول بيت “الشيخ”، على جدران العليّه من الداخل، وسور الفسحة الخارجي، وعلى الجانب الآخر في ساعة متأخرة جدا من الليل، حيث تعملقت بعتمتها الموحشة فوق بعض الحوائط الخارجية المتلاصقة للبيوت والتي تسند الزقاق. تلك الظلال أفقدت زوجتي عقلها، أو كادت. يصمت ويبتلع ريقه، والكل يحدّق وينتظر التتمة بصبر، ثم يواصل، روت لي بذعر، بأنها ظلال مرعبة، لمخلوقات غريبة، غير بشرية، بدت وكأنها تتكالب على جسد طفل أخذت تلتهمه بوحشية، لثلاث ليال والأمر ذاته يتكرر. بعض الحضور لم يصدّق، سارع البقّال بسؤاله: أنتَ تحديدا، هل رأيتَ شيئاً من هذا؟
أجاب في هدوء: في الليلة الثالثة، رأيت “الغريبة” مصادفة، وهي تعبر بين الغرفة وسور العليّه، توارت هي، بينما سقط ظلّها على رحابة السور واضحا جلياً، كان ظلا لعنزة بقرنين وفك برزت منه أنياب بشعة، تعوذت بالله من الشيطان الرجيم، ولم أخبر زوجتي، لكنني بدأت ألتمس لها عذرا فيما ترويه.
الريبة التي استقرّت على امتداد الزقاق، تخطّت عتبات البيوت لتطال الجانب اليومي لنا، حتى أكثر الجيران عقلانية، أوحى للجميع، بأن الحرص واجب. لم يعد تأخرنا كصبية صغار لما بعد المغيب بأمر عادي، حتى الغياب عن عيون والدينا لبرهة، كان مدعاة للقلق. أنماط السلوك الغامضة ” للغريبة” ومن معها، ساهمت في تحوّل الريبة إلى شك ورغبة في التقصي. بعض الظواهرالمبهمة والتي اجتاحت زقاقنا تلك الفترة تحديدا، وكانت بلا تفسير، راح أغلبها يشير بتلقائية مبررة إلى “الغريبة” بأصابع الاتهام.
أولها، صعود غمامة شفافة لرائحة غريبة وثقيلة، ربضت فوق حيّز محدود كان مركزه بيت “الشيخ” في حين لم يتجرأ أحد – ممن طالته تلك الرائحة في البيوت المجاورة بالسعال وبعض الاختناقات أو الرشح والتهاب القصبات الهوائية – على التحدّث مع “الغريبة” بالأمر. تزامن ذلك مع ظاهرة أخرى أكثر غرابة، أصابت “تلفزيونات” المنازل الواقعة ضمن ذلك الحيز، وتجلّت في اهتزاز منتظم للصورة، وعدم ثباتها خلال فترات البث المسائية، “عبّود”، الفنّي المختص، استبدل الهوائيات القديمة بصحون جديدة من الألمونيوم، وأسلاك جديدة، لكل البيوت المجاورة لبيت “الشيخ”، ثم بعد جهد طويل، برر فشله، في ضبط الصورة التلفزيونية، بإيجاز أكثر تعقيداً: ليس عطلا فنيّا، هي لعنة كونية تلبّست هذا المكان…!
بعد تلك الظواهر وغيرها، صار لزاماً على الجميع، رصد “الغريبة” وكان من البديهي لهم، تحيّن الفرص، لكن هذا تطلّب الانتظار لشهر آخر، حتى يكتمل القمر.
هبط المساء قبل أوانه المعتاد، ذات يوم، أو أننا ذهبنا طويلا في لعبة ” الاختباء والبحث” كصغار ولم ننتبه، كنّا نفرّ عبر الشارع المرصوف نحو الأزقة الملتوية لنختبيء، التحف زقاقنا بعتمة مبكرة وصمت استثنائي، مزّقه صراخ حاد وأنين أخذ يخفت حتى تلاشى، ثم صمت مطبق، هرعنا جميعا، نحو تلك العطفة عند المنتصف، أطلّت بعض النسوة في فزع من بين أبواب “الزينكو” ومن وراء “الطاقات” الواطئة، كان ابن البقّال يتدحرج أمام قامة سوداء نحيلة تنحني نحوه، وقد انعقد لسانه تماما، انتزعته امرأة وأدخلته بيتها في لمح البصر، بينما تنحى الظلّ وانتصب واقفا ليواصل سيره وهو يضرب كفاً بكف، وغاب عن انظارنا في بيت “الشيخ” المجاور.
تتالت أحداث مشابهة، فبعد مغيب الشمس بساعة في اليوم التالي، علا صراخ امرأة موبخاً، ذات القامة السوداء وظلّها الطويل، وهي تسدّ باب الزقاق، منذ وقت، بينما كنّا نتكوّم في جزع على مرمى ضوء حانوت الفوّال الذي بقي مشرعا، صاحت المرأة في “الغريبة”: ألن تتركي مدخل الزقاق، ليعبر الصبية، ألا ترينهم كيف يرتجفون!؟
أشاح الظلّ دون ردّ، وراح ينزلق في الهواء، صعودا، حتى بيت “الشيخ” ثم غاب فيه.
“الشيخ” صاحب البيت، يعرفه الكبار من رجال الحارة فقط، وكان أول إنسان يطرق بيت المرأة الغريبة، رأيناه يعبر من فوّهة الزقاق العلوية، التي تصل زقاقنا بشارع الحاووز، رجل ضخم، قوي رغم بوادر الكهولة، ثوبه أبيض ناصع يعتمر طاقية بيضاء، بين يديه سبحة من الخرز، طويلة بعض الشيء، لم يره أحد غيرنا، وحين وصفناه للبقّال والحلاق، قالوا: هو الشيخ، لقد جاء الفرج. وحين خرج لم يره أحد.
بانتظار اكتمال البدر، مرّ الوقت بطيئا، أيضا تكررت زيارات “الشيخ” لبيت المرأة “الغريبة” على نحو مريب، وحين لم يظفر به أحد من رجال الحارة، كنّا نحن – بعض الصبية – نرقب البيت، ذلك الخميس لنبلغ “الحلّاق” بأمره حين يغادر. لكن العتمة سبقتنا إلى كل شيء، تفرقنا في إثرها وعاد كل منّا إلى بيته. تناثر الحديث في ظهيرة اليوم التالي – الجمعة – أمام حانوت الحلاق، بأن الشيخ، لم يغادر البيت، وكان لصدى الجملة التي سقطت من أفواهم بعد تردد طويل، وقعها المشين: الشيخ، ينام في بيت المرأة ومنذ أيام ونحن لا نعلم…!
نسوة الزقاق اعتراهن همُّ جديد، لم تعد أي منهن تهتم بحقيقة المرأة الغريبة، فما الفرق بين أن تكون بشراً أو جنيّة، أو حتى “غولة” تقتات على دماء الصغار، ما دام لديها القدرة على الغواية، قالت إحداهن أمام الأخريات، بعد شرود طويل: ما يقتلني الآن، هو الرعب على زوجي، أما أطفالي فلم أعد أفكر فيهم. أيدتها أخرى على الفور: معكِ حق، فأين رجالنا من عفّة الشيخ وإيمانه؟.
لا أذكر تفاصيل الوقائع التي تلت على وجه الدقة، بعد ذلك، وأفضت للنهاية. لكننا لم نعد نعوّل على فيض القمر في شيء، يحضرني فقط بأن الأحداث قد تسارعت بشكل كبير قبيل اكتماله، وأن الوقائع المرتبطة تعمّقت وغدت لنا أكثر كثافة، بدءاً بتشوّش البث التلفزيوني في الحارة، مرورا بأثر الرائحة الغريبة التي عشّشت فوق أسطح البيوت على إمتداد الزقاق، وانتهاءً بالظلال الليلية المخيفة، وهو الأهم. ذلك المساء، تسحّبَ الشيخ تاركاً ذلك البيت برفقة الغريبة، وما أن ابتلع الشارع العلوي، ظليهما، حتى اندلقت ظلال أخرى أكثر رعبا، تسللت من شابيك البيت وفتحات العليّة، وسقطت على أرض الزقاق وعلى الجدران الخارجية للبيوت، سقطت بكثافة لا تصدّق، وعلى مدار العتمة، ولم تعد رؤيتها حكرا على أحد، كاشفة بذلك عن وجوه مفزعة لتلك العائلة، ومظهر وحشي تقشعر له الأبدان، أما ذروة البشاعة، التي لا تنسى لتلك الظلال، فقد تمثّلت في نهش طفل من رقبته ثم آخر، وهكذا… لقد كانت وليمة على الملأ. ومما بقي خلف خطوط الذاكرة القديمة على حاله، مبهماً مشوشا، هي تلك الجلبة، وذلك الصراخ الممزوج ببكاء الفجيعة، في ارتطامه الجنوني بحاسة السمع، كان يفتت الصخر، لا محالة.
الجلبة غير المعتادة لنسوة تبيّن أنهن من زقاق الحارة الخلفية، استوقفهن مشهد الوليمة بفزع، غير أن الحقيقة التي أتت بهن إلينا هي الأصعب. أمام توسلات ممزوجة بالصراخ واستنجاد هستيري بأهل البيوت المجاورة لبيت الشيخ، لبى أغلب الجيران، فهمنا من إحداهن، بأن خيوط الأدلّة حول اختفاء أبنائهن منذ ساعات، قد أفضت إلى هذا البيت. كان الوضع جنونيا، أدى إلى اقتحام بيت الشيخ، دون تفكير، وكأننا كنّا في سباق مع الوقت. كنت أزج بنفسي بينهم، وأعبر، لمحتُ الغرفة السفلية فارغة، معدمة، إلا من فراش فقير، الفسحة السماوية مجدبة، إلا من ثلاثة “مجامر” مثبته في زوياها، تنفث أبخرة كثيفة، تعبق بتلك الرائحة المحيّرة، ثم الدرج الذي يقود إلى العليّة وفسحتها الصغيرة، حيث الأطفال الستة…، نعم كانوا ستة أطفال في مثل عمري تقريبا، ما بين الثامنة والعاشرة، كانوا فوق عارضة خشبية طويلة أعدّت كمقعد واحد للجلوس. على يمينهم، كانت طاولة مزوّدة بأدوات لحام كهربائية، تزدحم بأجهزة كهربائية، بدت وكأنها قيد الإصلاح أو الصيانة، في إحدى زوايا السقف، رأينا رقعة خشبية معلقة، مثبت عليها “أنتين” هوائي لمذياع، و “ستارتر” نيون يومض على الدوام بومض متقطع، في حين تجمّد ظلّ عملاق على الحائط، لشريحة عرض تظهر ذئبا شرسا، تنكر بزيّ امرأة، وكان على وشك أن يفتك بجسد طفل صغير، عَلِقَتْ تلك الشريحة إلى جانب شرائح ونماذج خشبية مماثلة، بين عدسة محدبة ومصدر قوي للضوء ينطلق من داخل صندوق خشبي مفتوح من إحدى جانبيه. أما ما شاهدته وظلّ منقوشاً في ذهني، رغم رحيل الزمن، فقد كان الأكثر ألماً وحزنا في حياتي على الإطلاق، وكان لا ينسى.
ثلاث فتيات سارعن إلى ارتداء لثماتهن في فزع لا يوصف، وشاب نحيل، عقدت لسانه الصدمة وغسلته باصفرار غريب، تبيّن للجميع شيئ يسير مما تلفّظ به، وظل يردده تحت أثر الصدمة: هذه قروشهم، خذوها، لا أريدها، لا أريد ثمن الحلوى المثلجة، “الأسكِمو” مجاناً. أما شقيقاته الثلاث، فلم تقوَ أرجلهن على حمل أجسادهن فسقطن وتكوّمن كأفراخ الدجاج يرتعشن في أحدى زوايا العليّة، شخصن بأبصارهن في هلع وحيرة إلى الوجوه الكثيرة الغاضبة، وأخذن ينتظرن لحظة الموت دون مقاومة.
في “الزرقاء الجديدة”… كانت اللافتة العريضة لمتجر بيع وصيانة الأجهزة “الألكترونية” الضخم، والتي جاهرَت بذلك الاسم “ونوس”، كانت كافية لبثق أكثر الصورة غرابة وقِدما، ومن خلف خطوط الذاكرة. بعد ثلاثين عاما غدى الرجل ثرياً وناضجا، لكن ملامحه الأساسية لم تتبدل، عرفته على الفور، لكنه بطبيعة الحال لم يعرفني. بعد حديث موارب، كان من الذكاء، بحيث حصر شكوكه، في تلك الحارة القديمة، لكنه قال لي في حياء وهو يبتسم: هل كنتَ من بين أطفال الحارة الخلفية، أم جارا لنا؟
لم ينتظر ردّي، ومضى يحدثني بشيء من الحنين: على أيّ حال، لم يكن في نيتي الأذى، التشويش عبر تلك الوسيلة البدائية “الأنتين والستارتر”، كان لطرح فانوسي السحري “البروجكتور” كبديل للتلفزة، بين أيديكم. خالي “الشيخ” – رحمه الله – كان كريما معنا، ومع والدتي تحديدا، لا أنكر هذا، لكنني كنت مصراً على الوقوف إلى جانب والدتي، قدر استطاعتي بالمال.
وددتُ سؤاله عن والدته، لكنني امتنعت في اللحظة الأخيرة، والدته الأرملة، التي أصرّت على الرحيل بعد يوم واحد من ذلك الاقتحام، دون أن تأبه إلى اعتذارات الجميع الضمنية، بما فيهم الشيخ، شقيقها. لم تنطق بشيء يومها، وغادرت زقاقنا بفيض غبار خماسيني آخر، كأول يوم لها، رحلت هي وأبنائها تحت شمس الظهيرة، ثم لمْ يرَهم أحد بعدها، وإلى الأبد.
_______________
*قاص أردني