الشعر محدّثاً المطر عن مستقبله في الحقول


*محمد الحرز




(1)

حيال الشعر، لا نملك سوى التفاؤل، لا نملك سوى الرغبة في قول ما لا يمكن أن نقوله بغيره، ما لا يمكن وضعه في خزانة بعد أن نحكم إغلاقها بالأقفال، ثم نطلب منه بعد ذلك أن يتنفس. ما لا يمكن أن نذهب من دونه إلى المراعي والسهول، أو إلى اخضرار العشب، وهو يحدث المطر عن مستقبله حين يكون شجراً ناضجاً. الرغبة ذاتها لا تنفصل عن الإحساس بالشعر، عن الإحساس بهدير شلالاته في الروح، بتدفقه من أعلى قمة فيه، إلى القاع في أكثر أماكنها عتمة وظلمة. لذلك لا غرابة حين يلتف حبل التفاؤل، ويشد نفسه كعقدة في أيدينا، كلما جرى الحديث عن الشعر وحياته في الحياة ذاتها، عنه وهو يتسلل خلسة إلى النفوس، إلى كل هاوية سكن فيها السأم وفرخ فيها عائلة كبيرة، عنه وهو يفتح الباب تلو الآخر، تلك التي تفضي إلى مدن كانت مغلقة في أرواحنا، وكانت تحتل مساحة شاسعة فيها. عنه وهو يعيد الألق إليها، ويرفع الغبار عن أبنيتها ومنازلها وشوارعها، ويعيد الضوء إلى نوافذها، والماء إلى حدائقها، والغناء إلى أشجارها. عنه وهو يوسع بيت مخيلتنا، يرفع السقف، ويصبغ الجدران بطلاء جديد، ويضع أثاثاً جديداً في الغرف، ويرفع فوق الأسطح أعلاماً للضيوف القادمين من أخيلة أخرى.

أليس من الحكمة، بعد كل هذا القول، أن نربط التفاؤل به، ونخيط ثوب رغباتنا بإبرته كي لا تهرب مقاساتنا، كي لا تظل الأثواب مجرد ذاكرة في رأس الأقمشة، كي نمرر ألوانها وياقاتها وأزرتها كوصايا إلى الأحفاد؟!
أليس من الحكمة أيضاً أن نقول للناس: أنسيتم الشعر، ولم تنقذوه، حتى كبرتم؟!

أليس من الحكمة ألا تتركوه وحيداً في غابة طفولتكم، ألا يلمحه الذئب، ألا تسمعون صراخه، حشرجات حنجرته قبل الافتراس؟!

لا بد من القول، لا بد من الكلام، لا بد من المخيلة، سوى ذلك فالحياة لا تتنفس، الحياة تمتلئ رئتاها بالغبار، دائماً تسعل، وليس ثمة دواء.

(2)

كان لا بد من توطئة كهذه، لأحدد ما لا يحدد إلا بالشعر ولغته، لأتلمس موضع الشعر العالي، ومكانته في حياتنا، وفي نفوسنا. لأذّكر أن ما نكتبه شعراً لا يمثل سوى رأس الهرم، بينما القاعدة هي الحياة التي تجري مجرى النسغ في عروقنا، والشعر الذي نكتبه تارة يخبو، وتارة يظهر، حسب تقلبات ظروف المشهد الثقافي والأدبي في السعودية. لكن الحياة لا تتوقف، لا تلتفت، لا تتعثر، تصل إلى المصب مثقلة بماء الشعر، بماء الذاكرة، والماء الأنقى، والذاكرة الأصفى، هما اللذان يحظيان بالنصيب الأكبر، من العودة مجدداً إلى شريان الحياة.
لأجل هذه العودة، لأجل الذهاب إلى تلمس كل شيء يفضي إلى الشعر، لأجل الفرح والتفاؤل والرغبة، لأجل الناس أنفسهم وما لا يدركونه، أو يدركونه عن حياتهم المنسية في الشعر، لأجل الشعراء الذين قالوا ولم يكتبوا، أو الذين كتبوا ولم يقولوا، لأجل ذلك كله، كان هناك في الآونة الأخيرة ما يشبه الانتفاضة، ما يشبه الأيدي التي تعصر فاكهة الروح، فتنزل الكلمات مذاقاً حلواً في فم الشعر، ما يشبه تفتح العينين، بعد إغماضهما مدة من الزمن، لقد جاءتنا أصوات شعرية بنبأ الشعر، بعد أن كدنا نيأس من الانتظار، بعد أن كانت أجنحة الإبداع لا تطير إلا بكتاب السرد أو الرواية أو القصة. هذه الأصوات أعادت للشعر رونقه ووهجه والثقة في نفسه وصورته عن مكانته في النفوس والحياة.

وأعدنا ثقتنا في أنفسنا وفي إبداعنا بعودته إلى نفسه. ولن نترك اللحظة تمر دون أن نقبض عليها، دون أن نمررها تحت أشعة النظرات، وتحت آلة كلامه وكشوفاته، لن نتركها لأن هؤلاء بكل بساطة يقولون الحياة بكامل عفويتها، فيما هي تقسو علينا في نقصها الشديد للأخلاق والمحبة الإنسانية. لن نتركها لأننا نعي قيمة تلك اللحظة حين يكون الالتفات للشعر هو التفات الوجدان للضمير قبل سقوطه في الوحل، أي إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالشعر.

(3)

مثل مسبحة وقد انفرطت حباتها بسبب مقص الشعر، ثم تساقطت على أرضية مشهدنا الأدبي ضياء، كنت ولا زلت أرى تلك الأصوات الشعرية، أصوات جيل اللحظة، إنها تكتب وتكتب، رغم أنها لم تصل للشكل الذي تستقر عليه. لكنها تقول حياتها بالكتابة، إنها تساءل لحظة الحياة ذاتها، ومن ثم تفتح لنفسها وعياً تحفره بالكلمات، وإذا ما تعثرت تلك الكلمات في الطريق، فإن وعيها باللغة سيعلمها كيف تنهض ثانية وثالثة؟. فقط لنوسع لها المجرى بالتعمق كثيراً في الحفر؛ هكذا أراهم وأقترب منهم.

أحمد العلي يكتب نصه وكأنه لا يصر عليه، لا يرمي نفسه كاملا في بحره، إلا بقدر ما تأمره حياته بذلك أو بطريقة أخرى ما يشير إليه الجسد أنْ أفعلْ. تابعته منذ صدور مجموعته الأولى «نهام الخليج الأخضر» إلى الثانية «يجلس عارياً أمام سكايب» إلى عمله الأخير الصادر تواً «كما يغني بوب مارلي _ دليل التائهين إلى نيويورك»، في كل عبور له من نص إلى آخر، من جسر إلى آخر، كان لا يعني نصه سوى أن يصعد من حواسه ويكثفها، ويفتح عملها على آخر ما تستطيع أن تقوم به من حركة وسرعة ونمو. عمله الأخير يشي بذلك، نص بصره حاد، يخترق اللحظة والذاكرة دون أن تلغي إحداهما الأخرى.

بينما صوت آخر مثل عبدالله المحسن بهدوء نصه الذي يخبئ خلفه عاصفة، قد تطيح بأقوى الأسوار التي تعترض طريقه، ورغم أنه لم يضع نتاجه مطبوعاً في كتاب، فإن مخيلته تعمل بجد كي لا تنزلق عن حافة اللغة إلى هاوية الغموض والترهل. ما يقال عن صوت عبدالله، لا يبعد كثيراً عن صوت مهدي المطوع، حساسيته تجاه التقاط الجمل الشعرية ومن ثم تركيبها وتنضيدها هو من صميم الوعي باللغة الشعرية. ناهيك عن الوعي بأسئلة الحياة والوجود، ومن ثم تحويلها إلى نص يذهب عميقاً إلى الجذور، وهو ملمح نراه أيضاً في التجريب اللغوي والراهن على النظر إلى اللغة بوصفها بيت الوجود كما في صوت شعري آخر، هو عبدالله عبيد في مجموعته «جنائزية رجل الملح».

بينما هناك من يأتي صوته مملوءاً بفرح الطفولة، بالقدرة على المشي بدقة متناهية على حبل اللغة، دون أن يسقط من فرط رشاقته، يلمس الكلمة فتضيء دون أن يحفر، دون أن يفككها من الداخل، فقط يلمسها بحسه الشفاف تجاه الأشياء، وتجاه ذاكرته، والأشخاص من حوله، إنه صوت حيدر العبدالله.

أما نصوص الشاعر عبدالله العثمان الذي أصدر مجموعتين، الأولى «ذاكرة متأخرة عشر ثوان»، والأخرى «قد يحدث هذا الفراغ مرتين» هي نصوص تبني شاعريتها على قدرتها الفذة في صنع العلاقات بين أشياء وعوالم، لا يمكن أن تقوم بصناعتها سوى مهارة المخيلة وعملها الدؤوب. صنع هذه العلاقات تأتي عنده على مستوى الفكرة من جهة، واللغة من جهة أخرى، حيث يذكرنا ذلك بمهارة المخيلة عند السرياليين في استجلاب عوالم في اللغة تحت تأثير تصوراتهم عن الحلم وتداعياته. لكن في نصوص عبدالله، لا شيء من هذا التأثير، يمكن أن يرتبط بنصوصه. لا شيء يمكن أن يقال عنها، من خارج النص، بل ما يقوله هو، عادة ما يأتي مختبئاً في تلاوين عناوين النصوص أو غلاف المجموعة أو عبارة الإهداء، حيث الذات تتخفف كثيراً من سلطة الواقع وتستسلم للمجاز في اللغة بسلاسة وانزلاق لا يعكر صفو النصوص.

وكذا تجربة الشاعر ماجد العتيبي لا تبتعد كثيراً عن تجربة عبدالله، ليس فقط من خلال الإحساس المشترك بمفارقات الحياة بأدق تفاصليها في حياة الفرد. لكن بالإمكانات التي توفرها لغتهما الشعرية في خلق عوالم يشتبك فيها الفردي بالجماعي، وخبرة اليومي بالرؤية الجمالية للأشياء. فنصوص الشاعر ماجد العتيبي الذي أصدر مجموعتين، الأولى «بأقصى زرقة ممكنة»، والأخرى «الشيخوخة في قميص كاروهات»، مفصلة على مقاس حياته، وكأنه منذ جاء إلى القصيدة لم يحلم سوى بأخذ شاعرية اللغة إلى أكثر المناطق سرية في حياته، وفتح أبواب الغرف المختبئة خلف ذاكرته، وتحويلها إلى نص أمام تدفق ضوء الحياة.

(4)

هناك أيضاً أصوات شعرية نسائية مجايلة أو سابقة، لا يهم ما دامت تنتج نصها باستمرار. لكن هذه الأصوات الشعرية الجديدة، التي بدأت ترتفع على خريطة الشعر المحلي، حيث أخذت قصائدهم تتمايز، وتقدم نماذج من التجربة المتنوعة التي في الأغلب، لا تنتمي سوى إلى مرحلتها ولحظتها الراهنة. ولا تقدم سوى نفسها، في إشارة مهمة، إلى أن ثمة نضوجاً في الكتابة سواء على مستوى اللغة أو على مستوى الوعي بالحياة وبالشعر، وما يفرزه ذلك من خصائص وسمات، ترتبط بالمشهد الشعري على عمومه.

من هذه الأصوات تأتي نصوص المجموعة الشعرية لروان طلال «فتاة السقف..تبتسم»، وكأنها من الخفة والرشاقة التي تمتاز بها تنتصر أولاً وأخيراً لإحساسها وشعورها المرتبط بالحياة وليس للذاكرة فقط، وهنا مربط الفرس، لأن المخيلة وتدريبها عملية تراكمية تكتسب بالخبرة والمران، وشرط هذه الخبرة هو ركوب متاهة اللغة ومعرفة أبوابها السرية. ولعل كتابة النصوص المفتوحة على السرد هو نوع من الخيار الذي لا بد لصاحبه في نهاية المطاف أن يخضع لسلطة الجنس الإبداعي أما إلى الرواية والقصة أو يخلص للشعر وينقطع به، وهذا ما ينتظر صوت إبداعي مثل صوت روان.

هناك أيضاً صوت شعري نسائي، يأتي ضمن الموجة التي تكتب القصيدة الحديثة بتقنيات مفتوحة على المؤثرات التي تأتيها من تنوع الفنون المختلفة. هذا الصوت يتمثل في مجموعة هيفاء العيد الشعرية الصادرة بعنوان «أنا ما أخفيه». للوهلة الأولى تفاجئك قصيدتها، لا من حيث كثافة التعبير التي تقود كلماتها إلى داخل جملها الشعرية، ولا إلى توتر المخيلة عندها بين صعود وهبوط على مدرج مطارها، بل تفاجئك بالانتفاضة التي تهز كيانك من العمق، انتفاضة أشبه ما تكون بتعرض جسد أحدهم بماس كهربائي ذات تردد عال. فالغضبة على الجسد وحراسه، والبحث في الداخل عن المرأة الشريرة، والذهاب إلى أقصى ملذات الخطيئة، وتحويل القبح إلى جماليات داخل اللغة، هي التي تنتصب أمامك حين تدخل عالمها، تنتصب مثل رمح، لا تكاد تلمس شفرته؛ حتى تجرحك من فرط حدته، وكأن الجرح كلماتها التي ترميك بها مثل حجارة.

بينما الشاعرة نور البواردي التي أصدرت مجموعتين، الأولى «النصف المضيء من الباب الموارب» والأخرى «الحياة كما كانت نزهة ويك إند»، يمتاز صوتها بالتدفق كالنهر لا يفيض على ضفتيه، ولا يسمح لأمواجه أن ترفع رأسها بعيدة عنه. قصيدتها تتخفف كثيراً من ماضيها، ومن ماضي اللغة أيضاً، تتأمل ثمار مستقبلها على الغصن، قبل أن تسقط على الأرض. لذلك تكمن شاعريتها، في تلك العين التي ترصد الأشياء وكأنها تستحوذ عليها من العمق، واضعة إياها في عالم حميمي، لا ينفك يشير كل لحظة إلى بساطة الرصد وعمقه في الوقت ذاته. وما تقوله الحياة عن نفسها داخل القصيدة، هو في واقع الأمر إعادة تركيبها من جديد مثل لعبة وقعت في يد طفل لا يمل من العبث بها في جميع الأوقات. لكننا نحن الذي نرقب هذا الطفل لا نمل من النظر إليه، لأنه، ويا للمفارقة، يبعث في أحاسيسنا القدرة على التجدد، والقدرة على التفاعل أيضاً، لأن حيوية الحركة تكمن أساساً في قدرة قصيدتها على التنوع في طرح الفكرة والتعبير عنها بتقنيات مختلفة.

تحليق وسقوط

لا ينجو شيء من محاولات الانفلات التي تصنعها هيفاء العيد صاحبة «أنا ما أخفيه» في قصيدتها ، وفي كل محاولة لا تقول ما ينبغي أن تقوله خارجها، حدود الداخل عندها هو المعنى العميق للانفلات الذي تنشده، والذي تحاول تأثيثه بالصراخ في وجه الهواء باعتباره رئة القصيدة التي تتنفسها، ولا شيء غيرها . لذلك حين تضع الجسم موضع التمرد لا تكف لغتها في توليد صور متعددة حول هذا الموضع، في دلالات مختلفة من التركيب الأسلوبي والمجازي، مرة نراه خصب المخيلة ومرات أخرى نراه مجهض الجناحين، يحلق مرة ويسقط في النثرية الزائدة غير المشدودة إلى نفسها مرات أخرى.

_________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *