‘البدوي الصغير’ رواية الخروج من العزلة إلى العالم الكبير




بيروت – يرسم الروائي والقاص السعودي مقبول العلوي للقارئ في روايته الأحدث “البدوي الصغير”، وبسردية دافئة جذابة، عالما صغيرا من الواقع وما طرأ عليه من تطورات سلبية وإيجابية جعلته يخرج من عزلة سابقة إلى عالم كبير حاليا.
وفي هذا الخروج، على الرغم من سمات التقدم والرقي التي يتميز بها، قدر كبير من الألم الناتج عن وداع عالم زمن الطفولة والشباب في شبه انسلاخ سريع موجع يجعل من الذكريات مصدرا ذا محتوى متناقض يجمع بين الحنين واللذة والألم والشعور بالفقد.
تتناول أحداث الرواية، الصادرة عن دار الساقي، ببيروت، فترة لم يكن النفط فيها قد اكتشف في تلك المنطقة التي تقع فيها القرية وتمتد الحقبة من ستينات القرن العشرين إلى ثمانيناته وتحديدا إلى سنة 1983، وما شهده عالم القرية والعالم المحيط به من تغيرات مادية وبشرية إنسانية في تلك الحقبة.
قرية منسية
مسرح رواية “البدوي الصغير”، الواقعة في 207 صفحات من القطع المتوسط، هو قرية سعودية شبه مجهولة كل ما نعرف عن اسمها أن الكاتب أطلق عليها اسم قرية سعدون. وسعدون هو إحدى شخصيات الرواية ووالد غسان وهو الراوي في هذا العمل.
يقول الراوي عن قرية سعدون “في فترة الستينات والسبعينات الميلادية كانت قريتنا نسيا منسيا، شيئا لا قيمة له مثلها مثل المئات من القرى الأخرى الواقعة على الأطراف والبعيدة عن المراكز الحضرية على امتداد خارطة البلاد، لكن الأمر تغير بعد أن جاء هؤلاء الرجال ذوو الشعر الأشقر والعيون الزرقاء عندما قيل إن الصحراء التي تحيط بنا من كل الجهات تقف على كميات هائلة من البترول”.
ويتابع “كان المستر ديكان من بين هؤلاء الرجال وسرعان ما ربطته صداقة قوية بسعدون الذي كان يشتري له الليرات (الفرنسية) من البدو بثمن بخس لقاء الحصول على جهاز جرامافون وأسطوانات المغني الأميركي ألفيس بريسلي. حين ذهب غسان ليتلقى دروسا في اللغة الإنكليزية على يد نادين زوجة مدرسه، لم يكن يعلم أنه سيهيم عشقا بأجنيثا فلتسكوج مغنية فرقة (آبا) السويدية وأنه سيطاردها طول حياته”.
تبدأ الرواية بفصل بعنوان “المستر ديكان” وفيه يتحدث الكاتب عن ذلك الأميركي الذي عُيّن مسؤولا عن البعثة التي ستقوم بالحفر بحثا عن النفط في القرية. وغزت القرية الحفارات الكبيرة والشاحنات والآليات الضخمة وأنماط جديدة من الطعام والشراب وغيرها.
والواقع أن القصة هي قصة القرية نفسها. هذا العالم الصغير. ومن خلال قصص عن سائر الشخصيات كان يرسم عالم القرية والتطورات التي طرأت عليه.
سعدون هو صاحب “الدكان” الرئيسي في القرية وواحد من شخصياتها الأساسية. كان عالم القرية يتحرك ببطء شديد إلى أن جاء ذوو الشعر الأشقر والعيون الزرقاء بحثا عن “الذهب الأسود”.
وتحت عنوان “أشقر” كتب العلوي يقول “أطلق سعدون على المستر ديكان لقب صنقول. والصنقول كلمة محورة من كلمة صنقل والصنقل تعني باللهجة العامية في شريط تهامة الساحلي سوار الساعة المعدني ذهبي اللون الذي كان يشكل موضة رائجة للساعات الرجالية في فترة الستينات والسبعينات الميلادية من القرن الماضي”.
عالم متغير
يروي لنا الكاتب السعودي مقبول العلوي التغيرات التي طرأت على حياة سعدون بعد هدايا المستر ديكان التي كانت بينها أيضا هدية “سرية” هي خمسة أعداد من مجلة “بلاي بوي” الإباحية الأميركية الشهيرة.
أما غسان ابن سعدون، فإن معلمة اللغة الإنكليزية الحسناء ذات العشرين ربيعا وزوجة أستاذه التي يكبرها بأربعين سنة، فقد فتحت أمامه وهو الذي يعشق الموسيقى والغناء عبر الراديو وبعض المجلات عالما من الروعة وجعلت الموسيقى هدفا يعيش من أجله. وبعد علاقة بريئة بينه وبينها اقتصرت على صداقة كان كل منهما ينفس فيها عن وحشة هذا العالم الخشن، سافرت مع زوجها وهي شامية وهو فلسطيني دون رجعة. يحدثنا الكاتب عن خليل الوزير أو أبي جهاد وصلاح خلف أو أبي إياد وكيف قاما بالتدريس في هذا العالم النائي لمدة قصيرة جدا.
يختم غسان الرواية وهو يصف العالم الذي تغير وتغيرت معه قرية سعدون وامّحت ذكريات أهلها ويقول إنه وصل إلى الخمسين من عمره “أبهذه السرعة تطير الأعمار. خمسون سنة مرت قضيت جلها في مطاردة أخبار فرقة غنائية. فات الكثير من عمري وأنا أطارد سرابا يدعى أجنيثا فلتكسوج. سراب نعم سراب. كل شيء غير حقيقي وزائف حتى رغبتي في الإمساك باللحظات الهاربة من حياتي وذكرياتي”.
وتبقى هذه الرواية، بأحداثها، وملامحها شبيهة بأشهر الأعمال التي تناولت تحول الحياة البدوية من نمط بسيط إلى نمط معقد، وهي خماسية “مدن الملح”، للروائي السعودي الراحل عبدالرحمن منيف، التي سلطت الضوء على تبدّل الحياة في السعودية من حضارة ماء وترحال إلى حضارة نفط، وما ترتب عنه من متغيرات بعد اكتشاف الذهب الأسود.
ومقبول العلوي، قاص وروائي سعودي (45 عاما)، يعمل مدرسا للتربية الفنية، صدرت له مؤخرا رواية “زرياب” عن دار الساقي (2014). وصلت روايته “فتنة جدة” (2010) إلى اللائحة الطويلة لجائزة “البوكر”، فضلا عن روايته “سنوات الحب والخطيئة” (2011) التي ترشحت لجائزة الرواية السعودية عام 2012، يكتب في الصحف السعودية المحلية.
_________
*العرب

شاهد أيضاً

سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة

(ثقافات) سيرة توازي بين القراءة والكتابة بدون تفاصيل الحياة عبد الجبار الرفاعي يكتب عن العلاقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *