مايكل أنجلو.. رجل ينتزع من الرخام أروع أعماله




*د . يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )

” يمكنني القول أنني رأيت مايكل أنجلو ، وقد نيف على الستين من عمره ، وهو يطيح في مدى خمس عشرة دقيقة بكمية من شظايا رخام في غاية الصلابة ، تحتاج لجهد ثلاثة من النحاتين الشبان ينكبون على العمل ساعة كاملة ، وكانت شدة حماسه ، عندما يقبل على الرخام ، تجعلني أخشى أن أرى عمله كله يتحطم ، إذ كانت قطع الرخام تتطاير هنا وهناك ـ بأحجام تبلغ حجم الأصبع ثلاث مرات أو أربع ـ بضربة واحدة منه ، تجعله جد قريب من رسم المخطط ، بحيث لو أنه أزال كمية طفيفة أخرى لذوى العمل كله وتلاشى ” .
بهذه العبارات وصف أحد معاصري مايكل أنجلو الفنان العجوز ، قوي الإرادة ، وصاحب العزم الذي لا يكل ، وصف عمله حين كان ينتزع من الرخام أروع أعماله الفنية .
مايكل أنجلو (1475 م ـ 1464 م ) ولد في توسكانيا ، واعتبر في كل الأزمان من أعظم الفنانين فنًا وإبداعًا ، إنه قبل كل شيء نحات ، ثم رسام ومهندس ، وعرف أيضًا كيف يكون كاتبًا .

كان مايكل أنجلو ضعيف البنية بشكل لافت للنظر ، ويكاد يكون قبيحًا ، حيث رسم هو نفسه تفاصيل وجهه ، هذا الرجل الذي استطاع باقتدار أن يسيطر على الرخام ، حيث كان يمتلك قوة علمية وأخلاقية متدفقة ، تحاكي تلك التي تشع من تمثال نبي الله (موسى ـ عليه السلام) الذي نحته مايكل أنجلو بعبقرية نادرة .

وكان مايكل أنجلو يقول دائمًا : ” إن الجسم موجود في كتلة الرخام ، ولا يبقى علينا إلا انتزاعه منها ، و إن كان هذا يبدو مستحيلاً بطبيعة الحال ، ومع هذا يمكن لنا أن نتأمل قطعة من الرخام غير منتهية فنيًا ، سيخيل إلينا أن الجسم الآدمي ينتظر جذبه من سجنه في الصخرة التي هو حبيسها “.

لقد كان من المفروض أن يزين أحد تماثيله ، المقبرة التي طلب منه البابا / يوليوس الثاني ، تنفيذها مع عدة تماثيل أخرى ، وكان من المنتظر أن تكون أروع ما أنتجه الفنان في حياته ، إلا أنه لم يتمكن من إنجازها وإخراجها إلى حيز الوجود ، وبالفعل ، وبعد سلسلة من العوائق والمضايقات ، التي عانى منها طوال حياته ، كتب مايكل أنجلو يقول : ” أجد نفسي قد أضعت شبابي مقيدًا بهذا العمل ” !! .
هذا ما قاله مايكل أنجلو وهو في الثلاثين من عمره عندما قبل بحماس ، تكليف البابا شخصيًا ، تزيين المقبرة التي بناها البابا ، وكان الفنان يود أن يقوم بعمل ضخم فخم عظيم ، غاية في الكمال (وإن كان الكمال غاية لا تدرك) ، يعبر عن أسمى الأفكار ، أللا نهائية ، الأبدية ، يعبر عن التعقل والضمير الإنساني .
وعندما حصلوا على موافقة البابا على مشروعه ، سافر مايكل أنجلو إلى منطقة (كرارة) لاختيار أجمل كتل الرخام ، ونظرًا لدقته ، فقد استغرق هذا العمل منه ثمانية أشهر ، ولكن مع الأسف عند رجوعه إلى روما ، كان البابا قد غير رأيه ، مرجئًا تنفيذ تزيين المقبرة إلى أجل غير مسمى !!
ثم ظهرت بوادر مشاكل سياسية ، ثم وفاة البابا ، والتردد ، علاوة على ارتباطات أخرى للفنان ، مما أخر تنفيذ هذا البناء الأثري لمدة سنوات عديدة ، ومع ذلك فقد صنع بعض التماثيل ، وهي أعمال فنية جذابة تتسم بقوة الأداء والفخامة ، وقد يكون أكثرها تأثيرًا تمثال نبي الله (موسى ـ عليه السلام) .
إن من يتأمل هذا التمثال ، سيرى كيف يعبر عن غضب واحتقار النبي لشعبه المذنب ، ويلاحظ أيضًا إن وضع القدم اليسرى إلى الخلف ، وحركة الذراع مع ميل الرأس توحي بأن نبي الله موسى يهم بالقيام بعظمة ، وكمعظم أعمال مايكل أنجلو فإن هذا التمثال يعبر أصدق تعبير عن القوة ، والنشاط والعظمة ، ويجدر بالذكر أن هذا التمثال موجود في كنيسة سان بيير في روما .

لقد احتفظ مايكل أنجلو بصفات النحات حتى في طريقة رسمه ، فكان يحتقر فن الرسم بالألوان ، خاصة طريقة الحامل ، ويضعه في مستوى أقل بكثير من النحت ، فكان يقبل ، مرغمًا ، تنفيذ رسم اللوحات (التابلوهات) التي تطلب منه ، وبالرغم من ذلك فقد كان يتفانى في عمله ، على حساب صحته ، محققًا رسومات رائعة .
ولعل التحفة التي لم يتسن له تحقيقها عن طريق النحت ، قد حققها برسمه قبة معبد سكستين ، وحوائطه في الفاتيكان .
إن نظرة فاحصة لهاتين اللوحتين تملؤنا بالإعجاب حقًا ، لكن ينبغي التأمل في كل منظر من هذه المناظر على حدة ، لنجدها تشع حيوية وتدفقًا ، كما يتعين التدقيق في كل وجه من الوجوه المعبرة بقوة هائلة عن المشاعر المختلفة ، فهذه الصور تكاد تكلمنا : إذ تنطق بالحياة ، وتعبر عن التأمل ، والنعاس ، والتعب ، والسعادة أو الذعر ، والضيق أو الهروب ، والخبث والخطيئة ، أو الحكمة والبراءة ، ويبلغ طول رسم القبو 36 مترًا ، وعرضه 13 مترًا ، أما رسم (يوم القيامة ) فطوله 13.70 مترًا ، وعرضه 12.20 مترًا .

وبالطبع تضم هذه الروائع مجموعة من الإبداعات ومن أهمها الوجوه المختلفة ، مثل صورة العرافة عند الوثنيين ، أو الوجه الذي يعبر عن انفصال الأرض والمياه ، أو صورة النبي دنيال ، أو صورة القديس بار تلمي ضمن تفاصيل يوم القيامة ، أو صورة السيد المسيح القاضي والسيدة مريم العذراء (عليهما السلام) ، حيث قام بنحت وجه المسيح بشكل كلاسيكي ، وذلك ضمن تفاصيل يوم القيامة أيضًا .

وفي داخل كنيسة سكستين ، نلاحظ أن الرسم داخل القبة لأشخاص ، وأن المناظر من قصص الوثنيين ، والعهد القديم ، وعلى الجوانب منظر ليوم القيامة ، وفي القبة نجد أيضًًا الطوفان حيث يجسد صورة شاب ، يحمل على كتفيه زوجته القلقة المذعورة .
ومن أعمال مايكل أنجلو التي يذكرها تاريخ الفن تمثال من الرخام غير منتهي ، موضوعه السجين (أطلس) ، وهو موجود بمعرض أكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا ، وكذلك تمثال التقوى بتفاصيله الإبداعية الرائعة ، وهذا التمثال موجود في قصر سفور زيسكو بميلانو ، حيث جمع هذا التمثال بين السيدة مريم العذراء ، والسيد المسيح (عليهما السلام) ، يقال أنه نحته قبل وفاته ببضعة أيام ، وقد بلغ التسعين من عمره تقريبًا ، وكان لا يزال ينحت بشغف شديد هذا التمثال الذي يعتبر من أفضل أعماله المعبرة ، بالرغم من أنه لم ينتهي من صنعه .

كان حب مايكل أنجلو لإبداع أعمال ضخمة يهيمن على حياته : فلقد فكر في نحت تمثال من أحد جبال الألب ، كما كان يود إقامة تمثال يعلو برج أجراس الكنائس في ميدان سان لورنزو بفلورنسا .

كما مكنته الهندسة من الانطلاق في الاختراع والتجديد ، فإليه يرجع الفضل ـ في الواقع ـ في بناء أكبر قبة لا مثيل لها ، ونعني بها قبة كنيسة سان بيير في روما ، مشيدة فوق المذبح الأكبر ، وتحتوي على 16 طاقة من الشبك ، ومزخرفة من الداخل بالفسيفساء ، وعلى الجوانب صور لبعض البابوات والأساقفة المدفونين في الكنيسة .
ويوجد فارق واضح جدًا بين هذه القبة ، وتلك التي نفذها برونيلليسكي في فلورنسا ، وهي تعتبر فعلاً عملاً هندسيًا خالدًا في القرن الخامس عشر الميلادي ، بمحيط دائري واضح ، وخطوط توحي بالوقار ، أما قبة مايكل أنجلو في سان بيير فهي عمل خالد في القرن السادس عشر الميلادي ، غني بالظلال والأضواء ، بعناصر هندسية فخمة ، تنبئ بأبهة القرن السابع عشر .
______
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

عودة سينما الموجة الفرنسية الجديدة في حقبة تكنولوجيا الفرد

عودة سينما الموجة الفرنسية الجديدة في حقبة تكنولوجيا الفرد د.شهلا العجيلي ليست الأفلام بحاجة إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *